الجزائرـ “القدس العربي”:شهدت الجزائر الخميس 12 كانون الأول/ديسمبر 2019 يوما انتخابيا مختلفا عما سبق وعرفته البلاد من مواعيد انتخابية منذ الاستقلال، خاصة وأن هذه الانتخابات ولدت ولادة عسيرة، بسبب الظروف التي تعيشها البلاد منذ الاستقلال.
ويمكن وصف الانتخابات الرئاسية التي جرت الخميس بأنها الأصعب في تاريخ البلاد، مع احتساب انتخابات بداية التعددية السياسية، وتلك التي نظمت منتصف التسعينيات في عز سنوات الإرهاب والأزمة الأمنية، لأن قطاعا واسعا من الجزائريين يرفض هذه الانتخابات الرئاسية، والحراك الشعبي أحد تجليات هذا الرفض.
لا يمكن الحديث عن الانتخابات الرئاسية هذه من دون العودة إلى الوراء قليلا بضعة أشهر، وبالتحديد إلى بداية السنة الحالية، فالسلطة والدائرون في فلكها كانوا يحضرون إلى ولاية رئاسية خامسة للرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة، ورغم أن المشروع بدا منذ البداية بكل أبعاده لا يخلو من وقاحة، واستخفاف بالشعب الجزائري، وقد اعتقد أصحاب هذا المشروع والذين سارعوا للالتحاق به أن الموضوع سيكون سهلا، وأن السلطة التي يمتلكونها والمال الذين يقبضون عليه سيمكنهم من تمرير المشروع، وإسكات الأصوات الرافضة له، وأنه يكفي إعادة جمع توابل الولاية الرابعة من أجل تمرير مشروع الخامسة، وهو ما قامت به من خلال تهيئة الظروف من جمع تشكيل للأحزاب والجمعيات والتنظيمات التي تعودت الدوران في فلك السلطة، وأيضا جمع مجموعة من رجال المال والأعمال الذين صنعتهم أو جعلت منهم سلطة بوتفليقة قططا سمان تتحرك بطائرات خاصة وحسابات بنكية متخمة بالدينار والدولار واليورو، وأسسوا قناة تلفزيونية وشكلوا مديرية حملة انتخابية، وأحضروا لها عبد المالك سلال، الذي تولى قيادة حملات بوتفليقة منذ 2014 ولكن هؤلاء الذين أرادوا المرور إلى ولاية خامسة بالدوس على كل شيء، حتى لو كان الشعب الجزائري وكرامته، واجهوا الشعب الذي كانت له كلمة أخرى، كان شعارها “نحي التصويرة وخلي العلام” ( انزل الصورة واترك العلم) وهي العبارة التي قيلت في مدينة خنشلة أياما قبل 22 شباط /فبراير عندما قام رئيس بلدية بتعليق صورة ضخمة للرئيس بوتفليقة على المبنى، والذي تحدى المواطنين الاقتراب من مقر البلدية، لكنه ذهل من ردة فعل الذين حاصروا المبنى، وأنزلوا صورة الرئيس عبد العزيز بوتفليقة ومزقوها وداسوا عليها بالأقدام، لينطلق بعدها الحراك الشعبي الذي أخرج ملايين الجزائريين إلى الشارع من أجل أن يقولوا “كفى” لبوتفليقة وعصبته، والذين أسقطوا الولاية الخامسة لبوتفليقة، الذي أجبر على الاستقالة بضغط من الشارع ومن المؤسسة العسكرية، التي دفعت به إلى باب الخروج، في الوقت الذي كان يستعد فيه للعب آخر ورقة وقلب الطاولة على الجميع، بإعلان الحالة الاستثنائية وقمع المتظاهرين من أجل وقف الحراك الشعبي.
أنصاف الحلول
بعد أن “أستقيل” الرئيس بوتفليقة دخلت البلاد في دوامة جديدة، فالشعب الذي كسر الأغلال لم يعد يقبل بأنصاف الحلول، لكن السلطة التي أرادت البحث عن مخرج بأسرع وقت ممكن، لم تجد غير الآليات الدستورية من أجل ضمان سير الأمور بالطريقة التي تراها الأنسب من أجل الخروج من الأزمة السياسية، والفراغ الذي خلفته سلطة بوتفليقة التي دامت عشرين عاما، غير أن الحراك الذي كان في أوجه رفع سقف المطالب، ورفض الانتخابات الرئاسية التي كانت مقررة في تموز/يوليو واضطرت السلطات إلى تأجيل الانتخابات الرئاسية، وبحثت عن مخرج قانوني لهذا الفراغ لضمان بقاء عبد القادر بن صالح رئيسا للدولة، لكن في الوقت ذاته كان يؤرقها استمرار الوضع على ما هو عليه، وبحثت عن كل الطرق من أجل إجراء انتخابات رئاسية، مهدت لها من خلال لجنة حوار تعرضت إلى انتقادات شديدة وإلى عراقيل كثيرة، بينها من وضعتها السلطة في طريقها، لكنها في النهاية خرجت بأرضية تم توظيفها من أجل إجراءات إصلاحات سريعة، تم من خلالها استحداث سلطة عليا مستقلة للانتخابات، وسحب صلاحية تنظيم الانتخابات من وزارة الداخلية والإدارة بشكل عام، ولكن الحراك ظل رافضا للمعارضة القائمة، وظل أيضا رافضا لأي تمثيل ولأي تفاوض مع أي كان، بل إن كل الأسماء التي اقترحت ولو إعلاميا لتمثيل الحراك تعرضت للتخوين والسحل على كل صفحات مواقع التواصل الاجتماعي التي كانت تتحدث بلسان الحراك، رغم أن الكثيرين ممن تم تخوينهم عارضوا النظام في أشد السنوات قسوة، وزج بالكثير منهم في السجون والمعتقلات، وهو ما تحول مع الوقت إلى نقطة ضعف بالنسبة للحراك، الذي لم يستطع تقديم بدائل واضحة ومحددة ويمكن التفاوض حولها، فشعار “يتنحاو قاع” (ليرحلوا جميعا) ليس كافيا لطرحه كمشروع سياسي، واقتراحات من قبيل الذهاب إلى مرحلة انتقالية لم تحقق القبول، في وقت كانت فيه السلطة تتحرك وفق أجندة واضحة، ومستعدة لأي شيء من أجل تنفيذها.
تبون الرئيس
صحيح أن الحراك الشعبي متواصل، لكن الآن أصبح تولي تبون الرئاسة مسألة أمر واقع، على الجميع أن يتعامل معها، بصرف النظر عن الرغبات وعما يجب أن يكون، ولعل الشيء الذي تغير، رغم تحفظ وتشاؤم الكثيرين الذي قد يكون مبررا، هو أن تبون يصل إلى الرئاسة منهكا، وبعيدا عن أسطورة الزعيم المفدى والملهم، لأن ما حدث في عهد الرئيس عبد العزيز بوتفليقة من الصعب أن يتكرر، حتى وإن كان الكثيرون ممن تعودوا العيش في كنفها والاستفادة منها سيحاولون إعادة إنتاج الممارسات نفسها.
في أول خطاب له مباشرة بعد انتخابه، حرص الرئيس عبد المجيد تبون على أن يظهر نوعا من الليونة تجاه الجميع، خاصة خصومه الذين حرص على تحيتهم، سواء تعلق الأمر بالذين صوتوا لغيره أو الذين قاطعوا أو الذين يتظاهرون أسبوعيا، وذهب إلى حد وصف الحراك بالمبارك، والتأكيد على أنه يمد يده للحراكيين من أجل حوار جاد من أجل الجزائر والجزائر فقط.
تبون تحدث أيضا عن الشباب وعن أهمية أن تولى المسؤوليات إلى هذه الفئة التي طالما ظلمت في الجزائر، وذهب به الحماس إلى حد الحديث عن تعيين وزراء في الحكومة المقبلة في سن 26 أو 27 سنة، كما أكد أنه سيعمل على زيارة منطقة القبائل في أقرب فرصة ممكنة، وهي المنطقة التي قاطعت الانتخابات الرئاسية، ولم يفوت الفرصة للرد على الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي لم يهنئه على انتخابه، ووجه أيضا رسائل إلى الجارة المغرب.
نريد أن نراى افعال!