تجربة الحركة الوطنية الجزائرية في مدلولها العام هي تجربة السعي إلى تَخَطِّي الوضع الاستعماري عبر البحث عن الانتماء إلى مجموعات كبرى. فقد شرعت النخبة السياسية الأولى مطلع القرن العشرين، وآلت على نفسها ضرورة النضال من أجل توسيع الرقعة السياسية والجغرافية مثل، المغرب العربي الكبير، والعالم العربي في إطار القومية العربية، والعالم الإسلامي ضمن الجامعة الإسلامية، وكذلك البحث عن حل المسألة الأهلية في نطاق الحق في المواطنة، مع الاحتفاظ بنظام الأحوال الشخصية الإسلامي، والبحث عن حل المسألة الاستعمارية عبر نظام الدومينيون أو الكومنولث أو الفيدرالية.. بينما الاستقلال التام الثوري المسلح، فلم يكن إلا خيارا حتميا ناجما عن تعنت السلطة الاستعمارية في عدم لجوئها إلى الحل الإصلاحي والسلمي والإنساني.
يجب مقاربة موضوع الجزائر عبر تاريخ التطلع إلى المجموعات الكبرى، ليس بناءً على ما توحي به القراءة التاريخية فحسب للحقبة الاستعمارية، مع بداية النضال السياسي، أو لحظة تأسيس الحركة الوطنية والإصلاحية وما بعدها، التي تمسكت فعلا بالبحث عن التواصل مع المجموعات الكبرى التي تبتعد عن الوطنيات الضيقة، بل بأخذ العينة ضمن الكل الذي كانت تسعى إليه، أي بحث موضوع الجزائر في إطار المجموعة العربية التي لم تتأسس كحقيقة قانونية وسياسية قائمة بذاتها، لكنها كانت حقيقة ثقافية وتاريخية وتجربة دينية واضحة.
أول ما نحتاج في البحوث التاريخية، خاصة منها الفترة الاستعمارية، تصفيتها من الأوهام والأساطير التي رَانَت على عقول الناس، وتحكمت في وعيهم
تاريخ الجزائر لما بعد الحرب العالمية الأولى إلى غاية الاستقلال، هو تاريخ يبحث عن النقائص ومواطن الضعف والعجز، أي أنه تاريخ يتطلع إلى المجموعات الكبرى، باعتبارها المرجعية التاريخية التي يمكن أن تحدد لنا معالم تاريخ الجزائر كأمة ومجتمع ودولة. وعليه، فإننا نحتاج أول ما نحتاج في البحوث التاريخية، خاصة منها الفترة الاستعمارية، إلى تصفيتها من الأوهام والأساطير التي رَانَت على عقول الناس، وتحكمت في وعيهم. كما نحتاج إلى مقاربة تُرَاكم التجارب التاريخية، ولا تتنصل منها ولا تفصلها عن بعضها، بل تحاول أن تعتبر تطلع الوعي إلى تحقيق التَّحول العميق، واقعة تاريخية مثل بقية الأحداث الكبرى التي غيرت من حياة الجزائريين طوال النصف الأول من القرن العشرين. الحقيقة التي يجب أن لا تغرب عن البال، خاصة في الأوساط الأكاديمية والهيئات الدبلوماسية والسياسية، هي أن بحث التاريخ ودراسته زمن الاستعمار وما بعده، هو دراسة لمسار وتجربة قيد التشكل والتطور والتطلع إلى المجموعات الكبرى، لأن الجديد في العلاقات الدولية هو القانون الأممي والدولي العام، وعصبة الأمم بعد الحرب الكبرى، ثم هيئة الأمم بعد الحرب العالمية الثانية، التي رسخت مع تجارب أخرى عضوية الدولة في المجموعة الأممية. وبتعبير آخر يفيد المعنى ذاته، أن الدولة الناجحة هي تلك التي تعمل عن جدارة واستحقاق من أجل أن تُمَثِّل الشرعية الوطنية الداخلية عبر الشرعية الدولية، لأن هذه الأخيرة هي الحافظ الأساسي لكيان الدولة، مهما كانت هذه غير ديمقراطية ومنهارة سياسيا واجتماعيا.
إن مقاربة بحث تاريخ الجزائر لما قبل وبعد الاستعمار على خلفية تصحيح الوضعية ضمن المجموعة الكبرى لا ينال من السيادة والاستقلال، لأن هذه الحالة انتابت كل شعوب العالم وأممه، بل تؤكد على سلامة التوجه الذي تحلت به النخبة الإصلاحية والوطنية، عندما لم تستعجل الاستقلال، ورامت منذ أن وعت قضايا الدولة الحديثة ومقتضياتها وأركانها الحقيقية. يجب أن تتوسل الطُّرق الكفيلة بتحقيق الاستقلال الذاتي مع الآخر القريب منه تاريخيا وجغرافيا، لأن هذه المساعي هي التي كشفت عن قيمة وأهمية المجموعات الكبرى القادرة على احتضان، إذا لم نقل استبطان، الكيان الصغير في كيان أكبر منه، أو ما صار يعرف بعد عهود الاستعمار، بالمجموعات الكبرى، على النحو الذي بلغته أوروبا وتجارب أخرى. فالحقيقة التي لا يُمَارى فيها إلا معاند مكابر في وطنيته الضيقة، أن التطلع إلى الانضمام إلى المجموعات الكبرى، حالة طَالت كل الدول واعتبرت ذلك الطريق الأسلم إلى الأمن والأمان والسلم والسلام. ولا نغالي إطلاقا، إذا قلنا إن الأنظمة العربية وغيرها، التي عانت من هيمنة الاستعمار، وأصَرَّت على توكيد النزعة الوطنية المنغلقة على الزعيم الواحد أو الحزب الواحد، ضدّاً على رغبة الشُّعوب في التواصل والحق في الانتماء وفتح المجالات والحدود، هو الذي أدّى في النهاية إلى بروز الجماعات الإثنية والسياسية والدينية والمذهبية المتطرفة، التي سعت إلى تقويض أركان أنظمة الحكم كرد على عدم الاعتراف بها وبشرعيتها في أداء وتدبير الشأن العام.
والخلاصة المكثفة، أن سيادة حالة الاكتفاء الذاتي في الدولة الوطنية لما بعد حقبة الاستعمار، وعدم انخراطها الحقيقي في المجموعات الكبرى عن قناعة وصدق، هو الذي أفضى لحد كبير إلى ظهور المجموعات الطائفية، وما أثارته من مشكلة انتماء الجماعات الفرعية إلى الجماعة السياسية الأصلية التي تحتاج بدورها إلى أصول أكبر منها. ما يستوجب توكيده في الحالة الجزائرية لحظة الاستعمار، أن النزعة الوطنية التي ظهرت بوادرها الأولى في سياق مرسوم التجنيد الإجباري للأهالي المسلمين الجزائريين، أي التحاق الشاب الأهلي بالمؤسسة العسكرية، لكي يدافع عن حياض فرنسا وإمبراطوريتها المترامية الأطراف، وفي سياق احتلال فرنسا للمغرب الأقصى وتداعياته على التوجه القومي العربي والإسلامي، وليس أخيرا نشوب الحرب الكبرى ومضاعفاتها على الجزائريين والمغاربة والتونسيين والأفارقة، والعرب بصورة عامة في تَوَفر إمكانية اللجوء إلى الطرف الآخر المعادي لفرنسا في الحرب، أي الدولة العثمانية، ففي الأحوال كافة، إن البحث عن مجموعة أوسع وأجدى هي ديدن الجزائريين في تقرير مصيرهم وخياراتهم.
وقبل أن نطوي هذا المقال، جدير بنا أن نعيد قراءة تاريخنا الحديث والمعاصر ليس بالمغالاة والتطرف والتحيز الأعمى، الذي يفقدنا الصواب ويجبرنا بوعي ومن دونه على الخروج من التاريخ والقطيعة معه، لننتهي في نهاية المطاف إلى تدمير كل شيء، المال والطبيعة والإنسان والتراث والقدرة على الحياة مع الآخرين، واستحقاق العضوية في المجتمع الدولي المتجه دائما إلى التشكل والهيكلة. كما يجدر بنا التوجه إلى زيارة جديدة لتاريخنا الحديث والمعاصر، لنؤكد المطلق العالمي والحداثي والإنساني، الذي ظهرت فيه الحركة الوطنية الجزائرية في مدلولها الواسع المستقر في التاريخ الحقيقي، وليس المركب والمفبرك والمزيف.. لأن الوطن الذي جرى البحث عنه هو مسار وسيرورة وطريق مع الآخرين وليس ضدهم، أي التطلع الدائم إلى الانتماء إلى المجموعات الكبرى.
كاتب وأكاديمي جزائري
التطلع إلى الإنتماء إلى المجموعات الكبرى يمر حتما بالإنتماء والتصالح مع الذات أولا ثم مع الجيران ثانيا ثم مع الإقليم والجهه والعالم الخ… لكن يبدو أن الجزائر تضيع الوقت والفرصه للتصالح مع ذاتها ثم مع جوارها بل تحاول القطيعه والتنافر مع كل ذلك كما تحاول خلق بؤرة صراع جديده في المنطقه قد تكون مدمره لجهود التنميه والسلم التي عرفها الإقليم منذ الحرب العالميه2 وقد ينتج عن ذلك عودة مسببات التدخل الأجنبي … مما يحيل إلى تشرذم الوعي الناتج عن فقدان هويه سليمه تفضي إلى استقرار ونضج تاريخي يساهم في تطور البلد ومحيطه …لذلك فالجزائر مقبله على مخاضات لا تخرج عن سيناريوهين كبيرين : 1 – بلوغ الرشد السياسي للنظام والمجتمع مما يخلق حاله من السلم والهدوء الذاتي والموضوعي 2 – مواصلة المراهقه السياسيه والفتونه محليا وجهويا مما قد يؤدي إلى عدم استقرار داخلي قد ينتج عنه تفكك الدوله والمجتمع وظهور كيانات جديده على أنقاض هيكل مصطنع وهذا كان مصير جل الأنظمه المشابهه في الإقليم ( العراق سوريا ليبيا ….) ووالبحث عن مقدمه لعودة ليس فقط
كتابات كما ألفناها للكاتب الكبير بمواضيع ذات الأهمية الكبرى وبتحليل موضوعي نعم علينا بوضع تاريخنا الحقيقي لا المزيف حتي نستطيع أن نخرج من القوقعة التي وضعنا فيها رغما عنا فالمجتمع الجزائري كان ولا يزال يحب أن يتأقلم مع محيطه فلا يمكن لأي مجتمع أن ينسلخ من محيطه فالخطأ الذي ارتكبه من تولي امورنا في بداية الاستقلال هي الوجهة التي وجهنا إليها خاصة المعسكر الشرقي مما خلق اضطرابات لدي النخب التي حكمت بعد الاستقلال باستثناء المرحوم الشادلي الذي حاول تغيير النهج السياسي واعطاء أحقية للديموقراطية والعودة الي المحيط فالجزائر دولة مسلمة أو غالبيتنا مسلمون ومحيطنا هو شمال افريقيا لا امريكا اللاتينيه ولا جنوب أفريقيا ولا حتي جنوب أوروبا القريب منا . تحياتي وتقديري للكاتب .
الجزائر ان كانت تريد حقا الانضمام الى المجموعات الكبرى و القطع مع الحبل السري للمستعمر الفرنسي، فما عليها الا احياء اتحاد المغرب العربي الذي كان حلما جميلا عليه اجماع و شغف مواطني الدول الخمس المكونة له. فالتاريخ غني بالتجارب الفاشلة للدول التي تحاول الانسلاخ من محيطها الجغرافي و الهوياتي من اجل الانضمام للمجموعات جغرافية اخرى تكون بعيدة ثقافيا و دينيا. انا اثق كثيرا في فلسفة التاريخ الهيجيلية التي تقول ان منحنى تطور وعي الانسان هو المزيد من الحرية، و بهذا المفهوم الفلسفي الصلب اظن ان المواطن الجزائري سيبحث عن هذه الحرية مهما كلفه الامر من تضحيات من اجل فرض الوحدة مع دول الجوار و انشاء مغرب عربي موحد بدوله الخمس التي ستكون مندمجة اقتصاديا و عسكريا و تقف الند للند مع الاتحاد الاوروبي و امريكا و الصين.