عبدالفتاح بوعكاز عرفتها يوم ولادتي تجلس متربعة على سهول من الحمضيات، متمرغة أحيانا بين عناقيد الكروم، متكئة على سلسلة من الجبال الداكنة، وتحت قدميها يسجد البحر في خشوع سجدته الأزلية. لقد عاشت طفولتها في عهد الرومان وتميزت بسبب موقعها الجغرافي فكانت حظيرة عسكرية وتجارية ولقبوها ‘روسيكادا’ ثم قضت شبابها في عصر الفرنسيين وجعلوها سلة غذائية وجسرا بحريا كونها أقرب مرفأ للضفة المقابلة، وأطلقوا عليها تسمية ‘فيليب فـيل’.وعندما نالت حريتها كانت قد بلغت كهولتها لكنها بقيت عذراء رغم أن لديها الكثير من الأبناء، وتزين اسمها بـ’سكيكدة’ مدينة الفرولة، لكنها لم تنعم طويلا إذ سرعان ما بلغت سن الشيخوخة، وأخذت الأمراض تجهز عليها في صمت وهدوء.زرتها مؤخرا فأسرّ إليّ البحر عن حالها، وليست حاله بأحسن منها، لكنه يستحي أن يرفع سجوده حتى لا تلمح دموعها في عينيه وهو العاشق الذي تخفق نبضاتها في قلبه، يكاد يعلن إضرابه عن الهيجان ولعله يريد أن يستسلم لشيخوخته، يقول البحر الأمين في قوله: لقد أصبحت عروس البحر تنظر إلى مرآة واقعها في خجل ولم تعد تعرف ملامحها.لقد أفـنت حياتها تكرس العطاء بلا مقابل، وربت أبناءها على النعيم، وهي تعيش الآن مذلة المرض والعزلة وتكاد تتعرض للاغتصاب والحجر عليها، تعاني عروس البحر من عبث العابثين في سنوات الغضب التي حلت على البلاد والعباد، في سنوات وئدت فيها الأخلاق وانتشر الفساد، كيف لا؟ والجريمة ترتكب في حق الأرض والعـِرض والتاريخ.يتساءل البحر تائها: ماذا تقول عروس البحر؟ ولمن تشتكي إن كان أبناؤها هم المخطئين؟.خلال ثلاثة عقود فقط تشوهت خلقتها وتحولت سهولها من غابة أشجار إلى غابة إسمنت، من واحة جمال إلى قبور متساندة متمايلة ليس فيها ما يسر الناظرين، حتى الأبنية الأثرية التي تشهد على تاريخ الأولين طالها الهدم بدل الترميم، أليس في ذلك جريمة؟ يتساءل البحر ساجدا.لكن ما عسى أن يقول البحر إن كان التلوث قد استشرى في أحشائه وهجره المتجولون من أعماقه ولم يجد من يسعفه كي يحجب عدواه عن الآخرين؟ إن السرطان الذي ينخر في أطراف عروس البحر سببه صرحُ المحروقات الجاثم على ضفافها وهو يعتبر واحدا من أهم مكاسب الدولة الجزائرية لتكرير البترول وتمييع الغاز. وقد زرعت شتلة هذا المشروع في أرضها الخصبة عند تأميم المحروقات مطلع السبعينات، ومنذ تلك الأيام والموت يتسرب إليها في بطء، فعلاوة على بشاعة منظره واهتراء هياكله واحتلاله مساحة عريضة فقد أصبح بركة من السموم المهلكة. كيف لا؟ وهو الغابة التي يستنشق منها الناس نسماتهم.يتحدث الأهالي في سكيكدة عن ظهور أمراض عديدة لم يكونوا يعرفونها خلال العقود الماضية، فقد تحولت المدينة إلى بؤرة داء يلسع الأحياء وقبرا يضيق بمن فارقها بسبب قد لا يكون السبب. أصبحت سكيكدة تستقبل رضيعها صارخا يعاني من أمراض مجهولة، فالهواء والغذاء والماء وحتى الدواء أصابه التلوث، ولا تكاد تصادف شخصا تصفو ملامح وجهه، فالكل يعاني من سهولة الأمراض، والكل يداوي من عدة أعراض، والكل يلازم أكياسا من الأدوية والأغراض، وبالتعود أصبحت الحياة طبيعية، وفيما يبدو فإن الاهتمام بالصحة والسلامة العامة قد أصبح في منأى عن الدراسات والمخططات.يجري مؤخراً الحديث عن تخطيط شركة ‘سوناطراك’ العملاقة لاحتلال محمية طبيعية في منطقة ”رباز’ بضواحي المدينة والتي تعتبر كعبة لعبـّاد الطبيعة، مخططات لا يشك المواطن العادي بأنها تخضع لدراسات لا تمت للمصلحة العامة بصلة، وقد تحكمها الحسابات الضيقة في غياب الحسيب والرقيب، فماذا يختفي وراء الأكمة هذه المرة؟ إن العيون تراقب كي يقيـّم ويقـوّم، وما مدينة روسيكادا إلا جزء من أسطورة الجزائر العميقة، جزائر العزة والكرامة.’ مذيع في قناة ‘فرانس 24’qmdqpt