لطالما ساورنا شعور بأن الأدب الجزائري لا يزال قاصراً، خاض في الممنوعات وفي التابوهات كلها، من جنس وسياسة ودين، أحياناً بتروٍ ورصانة وتفحص، وكثيراً بتسرع ورغبة في إثارة القراء، وتجاهل عن قصد أو غير قصد التابو الأعلى، والمحرم الذي لا تغمض عنه الأعين: الجيش، باعتباره الحاكم الأوحد للبلاد والعباد منذ 1962.
هل نجد رواية واحدة قاربت موضوع الجيش، بالحسنى أو السوء؟ أو بيت شعر على الأقل؟ في الغالب، الإجابة: لا. هذا الفراغ لم يطل، فقد أنعمت علينا السماء من حيث لا ندري، بكاتب بل ألمع كتاب البلاد كلها، من شرقها إلى غربها، عسكري سابق، مثل طابع بريد، يعرفه من في الداخل ومن في الخارج. هل هي مصادفة أن أغزر روائيي الجزائر اليوم ضابط سابق في الجيش؟ ليس يعنينا هنا أن نتناقش في قيمته الأدبية، ومغامراته الكتابية من بغداد إلى كابل، ومن مقديشو إلى هافانا، لكنه ملأ فراغاً، وقد انضاف إليه كاتب آخر، في الأشهر الستة الماضية، لا نعرف اسماً له ولا وجهاً، لا حساب له على السوشيال ميديا، ولا عنوان بريد كي نتواصل معه. عسكري آخر يكتب، لا نعرف رتبته ولا ثكنته، ويحظى بقاعدة قراء تحسده عليها أحلام مستغانمي، ولكنه ليس روائياً ولا شاعراً، بل اختار أن يكتب ما يمكن أن نُطلق عليه «أدب الرسائل»، يحرر كل أسبوع رسالة أو اثنتين، يُلقيها الجنرال بلسانه، نتدبر معانيها ومفرداتها وأسلوبها، نتوقف عند سلاستها في الترهيب تارة، وفي طمأنه القراء من خبث المُعارضين تارة أخرى، بل هناك من نصبوا خيمة كي يعربوا كلماتها وسموا أنفسهم بالباديسيين، نسبة إلى عبد الحميد بن باديس، وصعاليك يُعتقد أنه مُغرر بهم يملأون الحانات يتجادلون أمر الرسائل مثلما يتجادلون روايات ميشال ويلباك. هذا العسكري المجهول، الذي آثر الكتابة على الظهور، الذي يكتب رسائل الجنرال، بحماسة وشغف شعراء المعلقات، التي نغرق في نقدها وتحليلها، كل مرة، بات أشهر كاتب في الجزائر، ولا يُنازعه مكانته أي واحد من كبار الكتاب، الراحلين منهم أو من بقوا على قيد الحياة.
من المُحتمل أن كاتب رسائل الجنرال يقرأ أدباً، أو أن هناك من يقرأ له ويهمس في أذنه، ولا يفوته ما صدر وما يصدر، ولعلنا نكتشف يوماً ما أنه بمثابة «الأخ الأكبر» بتعبير جورج أورويل، يعلم ما أخفت الصدور وما أضمرته النفوس، لأنه في كل واحدة من رسائله يستثير القراء، يلامس العصب الحساس في عقولهم، ولا تمر نصوصه بدون أن تخلِّف زوبعة من الآراء ومن الانقسامات، يتغلب فيها محبوه على خصومه بالضربة القاضية، في عدد «اللايكات» على الفيسبوك.
لقد جعل من رسائله أشبه بفصول رواية، لسنا نعلم متى تنتهي، واختار أن يُعارض الكاتب الألباني بأن يجعل من وكيله الجنرال نسخة مُعاكسة لجنرال إسماعيل كاداري.
ومن يُطالع ما يكتبه، منذ فبراير الماضي إلى الآن، يشعر بأنه قرأ رواية «جنرال الجيش الميت» بتمعن، ولا بد أنه حللها وفسّرها وأدرك فيها ما غاب عن نواظرنا، كي لا يقع وليمة بين يدي كاتب ساخر آخر مثل، إسماعيل كاداري، فيهزأ به. لقد جعل من رسائله أشبه بفصول رواية، لسنا نعلم متى تنتهي، واختار أن يُعارض الكاتب الألباني بأن يجعل من وكيله الجنرال نسخة مُعاكسة لجنرال إسماعيل كاداري، ذلك الجنرال المكتئب، الذي يقضي أيامه بين جبال وسفوح بحثاً عن رفات جنود قضوا في الحرب، بينما كاتب رسائل الجنرال الحالي، يفضل أن يبحث عن أجساد الأحياء، أن يجمعها كلها في فناء واحد، بدل أن يحولهم إلى «ذكرى» كما في «جنرال الجيش الميت»، يهم بتليين أصواتهم، كي يصيحوا في حب ومدح الجنرال الأوحد في البلاد، ولا يُخالفوا وصية من وصاياه.
في رواية إسماعيل كاداري، ينطلق الجنرال في مهمته إرضاءً لتاريخ شعبه، ورغبة منه في حفظ ذاكرة من سقطوا في الحرب، بينما كاتب رسائل الجنرال اليوم ينطلق في مهمته من محض إرادته، لا الشعب كلفه بأن يُكاتبه، ولا التاريخ أجبره على فعل ذلك، لقد قفز على إرادة الشعب وراوغ التاريخ، وأمسى كاتباً فوق العادة، همه الأسمى أن يرضي ولي نعمته بما تخطه يده، ولم يكن يتوقع أن تتحول رسائله إلى فصول كتاب، أضحى البعض يحفظها عن ظهر قلب.
ليس كاتب رسائل الجنرال وحده من اطلع على قليل من الأدب، وابتغى أن يرد على إسماعيل كاداري، فالجنرال نفسه أيضاً يكون قد أوحى إليه مقربون منه ما كتبه غابريال غارسيا ماركيز، ولا بد أنه سمع عن رواية «ليس للكولونيل من يُكاتبه»، وبدل أن ينعزل في ثكنة، أو في مكتب، أو في بيته منتظراً رسائل لن تصل، بحكم أن البلاد بلا رئيس، فقد استعان بكاتب مثلما يستعين الناشر بمحرر، كي يكتب على لسانه رسائل، ويهم بإيصالها إلى شعبه، كل أسبوع، بدل أن ينتظر رسائل الشعب إليه. مثل كولونيل غارسيا ماركيز، الذي خرج من حرب أهلية، فالجنرال أيضاً خرج من حرب أهلية، وعلى عكس بطل ماركيز الذي أهمله التاريخ، فإن الجنرال له يدان وعينان ويسمع دبيب النمل، ولم يأتمن خداع التاريخ، لذلك أراد أن يكون شاهداً ولاعباً وصاحب جاه وسلطان، يتغزل بالدستور مثلما تغزل الشاعر عبد القادر الخالدي بمحبوبته بختة، يلقي الرسائل التي تكتب بلسانه، كي لا يأتي ماركيز آخر فيجرح كيانه، أو يحوله إلى كاريكاتير.
هذا الأدب المتجدد، الذي طرأ على المشهد في الجزائر، والذي ظن النقاد أنه انتهى في أزمنة كلاسيكية ـ أي أدب الرسائل ـ الذي يستأسد فيه كاتب رسائل الجنرال، قد يفتح الباب نحو تطور له، في الأشهر والسنوات المقبلة، إنه امتداد لأدب سبقه إليه الرئيس الذي أسقطه الحراك الشعبي، عبد العزيز بوتفليقة، الذي كان يكتفي بنشر الرسائل في وسائل الإعلام، بينما الجنرال يستعين بالكاميرات كي يحول الكلام إلى إلقاء، وتصير الرسائل صوتاً وصورة، كي يتلقاها القراء بسهولة وتدخلهم في حيرة من أمرهم، بين «باديسيين» يرون فيها نصوصاً تستحق الإشادة، و»مغرر بهم» يقللون من قيمتها، وفي تلك الحيرة تستمر حياة الرسائل، ولعلها تتحول في مستقبل قريب إلى مشاريع تخرج في الجامعات، كما حصل مع الرسائل الصامتة للرئيس السابق. في كل هذا يظل السؤال معلقاً: هل سيكشف كاتب رسائل الجنرال عن هويته، حين تنتهي الحلقات؟ أم أنه يقتدي بهدي الروائية الإيطالية إيلينا فيرانتي، ويحفظ الغموض، الذي يُضاعف من شعبيته؟
٭ كاتب من الجزائر
الباديسية ماهي إلا شعار للعب على عاطفة الناس و محاولة زرع التفرقة بين أغلبية الشعب المطالبة كل يوم جمعة بالتغيير الجذري، بين أنصار الفكر الباديسي المحسوبين على التيار العروبي الإسلامي و أنصار التيار العلماني .لو عاش عبد الحميد بن باديس إلى يومنا هذا لكان من اشد المعارضين لهذا النظام و المطالبين برحيل كل رموزه بدون استثناء.ما علاقة بن باديس بالديكتاتورية و استغلال النفوذ للكسب الغير المشروع و التشبت بالمنصب في سن الشيخوخة و الانتهازية و التملق للحاكم . كاتب الرسائل و من يلقيها يتناقضان مع انفسهم،يدعون الحرص على احترام الدستور و يخرقونه علنا وجهارا.
. ربما ما تقصده هو فن الخطابة وليس فن الرسائل /أو أدب الرسائل. لأن فن الخطابة فن شفوي أما فن الرسالة أو أدب
الترسل فيشترط ان يكون فنيا نثريا (لا يلقى في شكل خطاب ولا على لسان أحد)
. الخطابات السياسية تبدو عادة إعلامية جافة حتى إذا استخدمت أحيانا عبارات جميلة أو كلمات رنانة، ولا نكاد نرى خطابا واحدا تتوفر فيه مواصفات الفنون الأدبية. ربما إذا تفضلت بذكر نموذج صغير عن هذه الخطابات ستعيننا على فهم ما هو مقصود أكثر.
. الخطابات السياسية تبدو أحيانا مترجمة من اللغة الأجنبية لأنها مصطلحات ليست منا وإنما صنعتها الدول المتطورة تماما مثل مصطلحات نشرة الاخبار والمصطلحات الرياضية والطبية والعلمية وأخرى.
أرتأيت تقاسم وجهة نظري بحكم اهتمامي باللغة. أتطلع إلى قراءة المزيد من مقلاتك القيمة. دمت مبدعا أستاذ خطيبي
يا استاذ سعيد المبجل
ضاعت الجزائر بين باديسيين والزواف
ضاعت الجزائر بين المعربين والبرابرة
ضاعت الجزائر بين الادباء والمتسلقين
ضاعت الجزائر بين رجال الميدان والخانعين للمهماز
ضاعت الجزائر بين فرنسا والجنرالات.