الجزائر والسودان: هل ثارتا على الدين أم على المستبدين؟

من استمع إلى آلاء صالح أو كنداكة السودان، كما باتت تسمى وهي تنشد قصيدها الشهير أمام المعتصمين، بالقرب من مقر وزارة الدفاع السودانية، أياما قليلة فقط قبل الإطاحة بالبشير، ولم يكن له أدنى فكرة عما كان يجرى يومها في السودان، فلاشك أنه كان سيظن أن الحديث كان يدور عن بلد مازال يعيش تحت وطأة القمع الكنسي الرهيب لعهد القرون الوسطى. لقد قالت آلاء في واحدة من تلك الابيات الشعرية التي ألقتها بحماسة «سرقونا باسم الدين.. قتلونا باسم الدين.. حرقونا باسم الدين.. سجنونا باسم الدين»، قبل أن تستدرك بعدها وتضيف بأن «الدين بريء يمة». ولعل ذلك اللبس الذي حصل للبعض بين الاستبداد والدين، كان في حد ذاته مقصودا، وربما كان هو السبب المباشر وراء شهرة القصيد وتحول صاحبته إلى نجمة وأيقونة للثورة السودانية، بنظر كبرى وسائل الإعلام العالمية.
ولم يكن الأمر يحتاج لذكاء خارق حتى يدرك الغرض من وراء ذلك، ففضلا عن أن نظام البشير ظل يوصف بأنه نظام عسكري إسلامي، ودون أن مثل ذلك الوصف دقيقا في الغالب، فإن الثابت، أن الدين صار العدو الأكبر للثورات العربية المضادة، التي باتت لا ترى فيه أكثر من شكل من الفولكلور الشعبي، لا مكان له سوى في أن يساعد على تثبيت عادات قديمة تكرس الظلم والاستبداد، تحت مسمى الطاعة العمياء لأولي الأمر، وهذا ما قد يفسر في جانب تلك الازدواجية التي تعاملت بها جهات رسمية وإعلامية في الغرب، وبعض الأنظمة العربية التي ترعى تلك الثورات المضادة، كالنظام المصري، في ما يتعلق بالحالتين السودانية والجزائرية بالذات، إذ لم تجد ابواق السيسي بدا من أن تصف ما جرى في السودان بالثورة الشعبية، في حين انها بقيت مرتبكة ومتوجسة من حراك الجزائر، ولم يكن بوسع النظامين الإماراتي والسعودي أن يفعل شيئا آخر، غير أن يسارعا لإعلان «الدعم للخطوات التي أعلنها المجلس العسكري الانتقالي، والوقوف إلى جانب الشعب السوداني» بإرسال أدوية ومشتقات بترولية وقمح مثلما أعلنته السلطات السعودية، نقلا عن وكالة الأنباء الرسمية، في حين أنهما ظلتا متحفظتين ومترددتين في التعليق عما حصل في الجزائر، خصوصا بعد أن هتف المتظاهرون هناك أكثر من مرة بشعارات قوية ضد محاولاتهما التدخل بشكل ما في حراكهم. ولكن ما الذي تعنيه محاولات إقحام الدين والزج به بطرق ملتوية في الحراكات الشعبية للجزائرـ وبدرجة أكثر وضوحا في السودان، وتصويره على انه العدو القديم الجديد للشعوب العربية بدلا من الحكام؟
إن ما نشهده اليوم صورة معكوسة لما حصل قبل ثماني سنوات. ففيما لم تطلق حينها التحذيرات من التوسع والتمدد غير المقبول، لما عرف بالاسلام السياسي، بفعل موجة الانفتاح الديمقراطي التي شهدتها وقتها دول مثل تونس ومصر، دقت هذه المرة بشكل باكر نواقيس الخطر من اقتراب الاسلاميين، أو حتى من مجرد مشاركتهم في أي سباق، أو استحقاق انتخابي مقبل، مثلما لوحت بذلك بالخصوص بعض الاطراف السياسية في السودان. ورغم أن لا أحد باستطاعته أن يعتبر ذلك تعديا على الإسلام، أو إقصاء له أو أن يحصر وجوده أو بقاءه في حزب أو حركة أو تنظيم سياسي واحد، فإن وضع الخطوط الحمر، والفرز السياسي والأيديولوجي على الهوية، لطيف قد يكون واسعا من الشعب، سيكون ضربة قاصمة للثورة والديمقراطية قبل أي شيء آخر. وربما لا يبدو وسط غبار التحولات المتسارعة في العاصمتين الجزائرية والسودانية، وما تثيره من اهتمام واسع، أن النظر طويلا للسطح قد يكون مفيدا في معرفة خبايا القاع. فرغم أن تغيير الوجوه قد يبدو مرات مؤشرا على تبديل السياسات، ومعرفة الكفة التي سيميل لها الميزان السياسي، ثم الشخصية التي ستقدر في مقبل الايام في هذه العاصمة وتلك، على امتصاص غضب الشارع من جانب، وتهدئة مخاوف الحرس القديم في الوقت نفسه من الجانب الآخر، قد تكون مهمة لاستشراف طبيعة المرحلة الجديدة فيهما، إلا أن الأهم من تلك التفاصيل، أن تتضح الصورة التقريبية للمآلات التي ستستقر عليها انتفاضة الشعبين أو ثورتهما بعيدا عما يقدمه الإعلام المحلي والعالمي من وقائع ومعطيات، قد لا يكون تركيزه على بعضها دون الاخر بريئا وخاليا من التوجيه.

وضع الخطوط الحمر، والفرز السياسي والأيديولوجي على الهوية، لطيف قد يكون واسعا من الشعب، سيكون ضربة قاصمة للثورة والديمقراطية قبل أي شيء آخر

ولعل ما قد ينساه الكثيرون في زحمة ما جرى هو أن غلاء المعيشة في السودان، كان السبب الأول لتدحرج كرة الغضب الشعبي، وانزلاقها السريع، بفعل عدة اعتبارات لعل أولها سوء إدارة النظام للأزمة، فيما كانت العهدة الخامسة لبوتفليقة هي المفجر الحقيقي لمظاهرات الثاني والعشرين من فبراير، غير المسبوقة في الجزائر. ولكننا لا نعرف الكثير عن تلك المرحلة القصيرة التي فصلت بين بقاء الاحتجاجات الاجتماعية والسياسية في البلدين في حدها الأدنى، أي دون المطالبة بإسقاط كل النظام، وبين تطور الشعارات والمطالب، حد الوصول إلى حالة الرفض القطعي والتام لبقاء أي رمز من رموز المرحلة السابقة في السلطة. هل كانت أخطاء النظامين وحدها مسؤولة عن ذلك؟ أم أن هناك في الداخل أو حتى في الخارج من أراد تأجيج الأوضاع وتسخينها، وتهيئة الفرصة حتى يركب طرف ما موجة الاحتجاجات ويوجهها نحو أهداف اخرى غير تلك التي حملتها الشعارات التي رفعها الجزائريون والسودانيون في مظاهراتهم؟ لم يكن هناك في كل الاحوال أي منطق أو مبرر لبقاء نظامين فاشلين قمعا الحريات، وخنقا كل صوت معارض، ولم يأبها بأي نقد داخلي أو محاولة للإصلاح، ولم يفتحا الطريق أيضا حين كانا قادرين على فعل ذلك، حتى يتحقق تداول سلس وسلمي على السلطة. وكان واضحا أيضا أنه لم يكن بوسع الدين أن يبرر شيئا من ذلك الاخفاق، بل كان المتوقع أن يكون هنا بالذات هو المحرض والمحرك للتغيير. وهذا ما لم تكن تريده قطعا لا الثورات المضادة ولا قوى الاستعمار القديم والجديد، فالديمقراطية بنظرهم ليست سوى فسحة قصيرة لا تسمح للشعوب التي تطالب بها إلا بتجربة الفوضى والدوران في الفراغ بدون أن تستطيع المس بأي قطعة من قطع الشطرنج، أو تحريكها عكس إرادتهم وهي لا تتسع لمن يرغبون بربط الدين ووصله بالحياة، حتى لو منحتهم الشعوب أصواتها واختارتهم . إنهم يرغبون باختراع صراع وهمي بين تلك الشعوب ودينها، وحصر الاستبداد لا في طبيعة الأنظمة، بل في جوهر الدين وتحويل الثورة من هبة فكرية وروحية وثقافية لتحقيق الحرية والكرامة، إلى جنوح فوضوي عن قيم الروح.
ومع انهم يعلمون جيدا انهم في حالة الجزائر والسودان بالذات يطرقون الباب الخطأ، إلا أنهم لا ييأسون من تكرار محاولتهم لفرض ما وصفها السفير الاماراتي في واشنطن ناصر العتيبة، ذات مرة، بالانظمة أو الحكومات «العلمانية المستقرة والمزدهرة « في الشرق الأوسط، حتى لو كان المدخل لذلك هو استغلال الثورات الشعبية، أو التشويش عليها أو تحويلها لانقلابات، أو تصويرها على انها ثورات على الدين لا على المستبدين.
كاتب وصحافي من تونس

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول تونس الفتاة:

    الكاتب لم يقل لنا لماذا الناشطة السودانية قالت تلك الأبيات….لأن السيد البشير هذا الانقلابي الذى انقلب هو وحركته الإخوانية الإسلامية على حكومة ديمقراطية….و فرض الشريعة الإسلامية على السودانيين و استقبل كل حركات الخراب و الإرهاب و كل أنواع الاسلام السياسي فوق ارض السودان مما أدى إلى إذكاء النعرة الانفصالية للجنوب السودانى المسيحى ….و انقسم السودان و لا تنسي ما قام به هذا مجرم الحرب من إبادة بشرية فى دارفور و فى مناطق أخرى من السودان و هذا كله بتصفيق من الاسلام السياسي و حركة الاخوان تخلت عنه و أصدرت بيان للتبرئ منه بعدما سقط ….و صرخة الناشطة السودانية كانت من القلب و لم تقل إلا الحقيقة التى يريد أن يخفيه البعض وهى ان السيد البشير كان أحد أعمدة الاسلام السياسي….ووقع إسقاطه من طرف الشعب ….و حتى اللحظة حركة النهضة الإخوانية مثلا لم تصدر بيان بخصوصه الى اليوم ….و سارعت للتضامن مع فرنسا فى كارثة Notre Dame de Paris ….

  2. يقول جزايرية:

    لأول مرة اسمع بتلك القصيدة والله كلام في الصميم ، العرب يستعملوا الدين مثل السعودية او الإرهاب مثل مصر او الشرعية الثورية عندنا.. وو لتغييب الشعوب، يعجبني تفكير الانسان الغربي فهو لا يثق في اَي سياسي ولا اَي رجل دين.

  3. يقول ابن الجاحظ:

    ” نظام عسكري إسلامي “……… ظمان الوخم من أطرافه ….

  4. يقول عبد الوهاب عليوات:

    ها أنذا أكتشف وأنا الجزائري أنني كنت أحضر المسيرات وأصيح فيها ضد الدين لا ضد فساد النظام ورموزه الذين كانوا هم أنفسهم ضد تفعيل الدين في المجتمع..
    عجيب فعلا أن يكتشف المرأ أنه كان يفهم كل شيء بالمقلوب وأنه كان يطالب بعلمانية الدولة العلمانية في حد ذاتها من حيث لا يدري وهو يطالب بتغيير النظام.
    شكرا للكاتب على هذا المقال المريخي الخطير.

  5. يقول المغربي-المغرب.:

    من المعروف أن الشعب السوداني له ارتباط كبير منذ القديم بالخلفية الدينية في تفكيره وردود فعله وممارساته العملية. …وكان مفتاح النجاح السياسي هو المرور من خلال إحدى مراكز الاستقطاب المذهبية والصوفية بالخصوص…وليس من باب الصدفة أن يكون الصادق المهدي شخصية دينية. ..والشريف الهندي شخصية صوفية…وإن تكون تلك الخلفية هي أساس الزعامة السياسية. …؛ ولم يكن البشير استثناء في ذلك عندما ارتكز في انقلابه على دعم الترابي والإخوان. ..ولكن الإشكال هو عندما أصبح هذا الأخير مجرد قطعة شطرنج تحركها أهداف خليجية وهي التي صوغت له القبول بالاستفتاء الذي أدى إلى ذهاب أكثر من نصف البلاد. ..ولازالت تطمح من خلال وجوه أخرى إلى فصل دارفور عن الوطن الأم. …، أما الشاعرة المذكورة التي لم نسمع بها من قبل. …فسترونها في قادم الأيام مرشحة لجائزة نوبل كما حصل مع زميلتها اليمنية التي تركت بلدها عرضة للغزو والقصف والتجويع. .وذهبت لتسرح وتمرح بملايين الجائزة في بلاد العم سام……إنه استنساخ للخالة البسوس لااقل ولا أكثر. …!!!!.

  6. يقول وفاء:

    بالنسبة لي كجزائرية أطلب من سيادتك و كامل الأشقاء العرب و بصفة خاصة الإمارات الشيطان الأكبر و السعودية الشيطان الابله ان يتركوا الجزائر و شعبها و جيشها بسلام .لا تدخلوا فينا بأي شكل من الأشكال لا بالخير و لا بالشر لأننا كجزائريين ننتمي لدين سيد الخلق رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نقبل ان يتحدث عنا اي إنسان و إلا سنطبق معهم المثل انزل من القافلة و لديهم لأننا لا نشبهكم و لا نريد اتركونا بسلام

إشترك في قائمتنا البريدية