الدرس الأول الذي وضعته الثورات العربية على طاولة الدراسة للمؤرخين والباحثين السياسيين، يكمن في الأسئلة الكبرى التي يتوجب على الثوار أن يتصدوا للإجابة عنها، بعد تحقيق الثورة لهدفها المعلن الكبير، إذ بينما يتشاغل أبناء الميادين بنشوة النصر وطقوس الاحتفال، فإن آخرين يبدأون العمل في الكواليس ليضعوا خططهم للاستيلاء على لحظة السيولة التاريخية التي تحدثها الثورة.
كنا في حضرة أحد رجال الدولة المحنكين في الأردن، عندما أخبرني الكاتب الصحافي عمر كلاب عن خطورة الصباح الأول بعد نجاح الثورة، في تحليله لمسارات الأحداث بعد الثورة على نظام مبارك في 2011، وقتها لم أتوقف عند سؤاله المبطن طويلاً، فمن ناحية كنت متحمساً للثورة، وبمجرد إعلان تنحي حسني مبارك هرعت مع زوجتي الحامل وقتها للاحتفال مع المئات أمام السفارة المصرية في عمان، ومن ناحية أخرى كان الصديق كلاب، وما زال، يمثل أمامي نموذجاً لطليعة فكرية محافظة أبقى أمامها متمسكاً بشيء من الحذر، إلا أنني ما فتئت أستعيد سؤاله أو تحذيره، مع كل فصل جديد من الثورات العربية، للدرجة التي جعلتني أمسك بالورقة والقلم لرصد مسارات الأحداث بعد اليوم الأول، لأكتشف أن الثورة المضادة تبدأ دائماً قبل انتهاء الفعل الثوري.
الفعل الثوري يحرك سلالات من ردود الفعل والفعل المضاد، ولكن اليقظة الشعبية تبقى أهم مكتسبات أي فعل ثوري
الاستجابة السريعة من المجلس العسكري لمطالب المصريين كانت تؤشر إلى نية مبكرة لإنفاذ مشروع التخلص من جمال مبارك، ومشروع التوريث المتحيز لطبقة رجال الأعمال، وما يعنيه ذلك من تفكيك علاقة الجيش بالدولة التي تأسست في 1952، ولا يعني ذلك بالضرورة نية سيئة مبيتة من الجيش تجاه المصريين، بقدر ما يعبر عن معرفة عميقة بالأثر السلبي لحكم ما بعد 52 في ضرب طبقة الانتلجينسيا المصرية، وعدم وجود ما يكفي من الخبرة في شأن إدارة الدولة، فحتى الحكم المحلي كان حصراً على فئات بعينها من متقاعدي المؤسستين العسكرية والأمنية، وأظهرت التجربة سذاجة القوى الثورية في انتخابات الرئاسة، وافتقادها للكفاءة، وأكدت الأحداث التالية أن تنظيم الإخوان بما لديه من امتداد وعمق وتأهب للسلطة، كان يفتقد لما يمكّنه من إحكام السيطرة على مصر.
لننتقل إلى الجزائر التي ما زال ثوارها يعيشون نشوة النصر، الذي أتى حاسماً بعد استقالة الرئيس عبد العزيز بوتفليقة الجبرية، التي أتت بإملاء من الجيش بعد محاولة يائسة من فريقه تمثلت في دفعه بإقالة بعض القادة العسكريين، فكانت النهاية رداً على مغامرة فاشلة لم يكن الرئيس ليقدم عليها لو كان في الحدود الدنيا من لياقته الذهنية، واليوم أصبح فريق الرئيس موصوماً بالعصابة الفاسدة من قبل الجيش، بما يرفع أي غطاء معنوي أو أدبي كان بوتفليقة يحتفظ به حتى أيام قليلة مضت. متابعة ما ينشره الأصدقاء في الجزائر حول تصوراتهم لما يجب أن تجري عليه الأمور، والمطالبة بأسماء محددة للرئاسة أو الترتيبات التي يجب اتخاذها، جميعها أعراض تدفع للاستنتاج بأن الجزائر دخلت في متلازمة اليوم الأول، بما يخفض بالتأكيد من منسوب التفاؤل، وهو ما يتعزز ببداية فرضيات اللعب على التناقضات الشائعة في الجزائر، والجاهزة للأسف، ابتداء من توازنات عربية أمازيغية، بغير انتهاء عند أشباح العشرية السوداء، حمى الله الجزائر من ظلالها الثقيلة.
بالعودة لحوار عابر في صيف 2011 وأزمة اليوم الأول، فبالتأكيد يمتلك المحافظون شيئاً من الثقة ربما تعلموه من المصائر المضطربة للثورة الفرنسية التي بقيت تتفاعل لعقود طويلة، وما يعرفه الطرف الآخر بأن الثورة تمتد لأجيال عدة، وأن الفعل الثوري يحرك سلالات من ردود الفعل والفعل المضاد، ولكن اليقظة الشعبية تبقى أهم مكتسبات أي فعل ثوري.
ربما يجادل البعض بأن ما حدث في الجزائر من الناحية التقنية والإسلامية ليس ثورة شعبية، بقدر ما هو فعل احتجاجي واسع، والأقرب للصحة أن أحداث العهدة الخامسة كانت فصلاً من تاريخ شعب عظيم بثورته وإيمانه.
كاتب أردني
الجزائر كانت سباقة في المطالبة بالديمقراطية عام 88، والحالة المصرية عام 2011 هي استنساخ للتجربة الجزائرية عام 92. من فضلكم راحجعوا التاريخ جيدا