بلدٌ كلبنان، خرجت الناس في قومة جماهيرية استثنائية في تاريخه قبل عام ونصف العام، لا يكاد الجسم الاجتماعي فيه تصدر عنه أي حركة مقاومة ذات بال منذ أشهر عديدة.
بعض الذين انخرطوا بحماسة وانخطاف في تلك الانتفاضة، لم يسعهم سعدهم بها فسمّوها «ثورة» والتزموا هذه التسمية حتى بعد انفضاض الساحات وانطفاء البريق.
لعب تفشي جائحة كورونا دوراً أساسياً في «الحجر» على هذا الجسم الإجتماعي. فلولا الجائحة لما انقطعت الحركة الشعبية تماماً عن الساحات، وان لم يكن بالمتسع أبداً التخيّل أين كانت لتصل.
بيد أن الزمن الحجْري نشر أولاً الوهم لدى «الناشطين» بأنّ «الثورة» معلّقة أعمالها لأسباب صحّية، وقادرة على استئناف معركتها بعد انقضاء الوباء. ثم انتشر الإحباط بينهم بأنّ الجسم الإجتماعي في غير وارد الثوران من جديد وأنه آخذ في التأقلم مع الانهيار الاقتصادي ومقتضياته.
فمنهم من حاول مواجهة هذا الإحباط بالدعوة الى «تنظيم الثورة» كما لو كانت الثورة كتلة مادية حيوية مثابرة لا تنتظر الا من يعينها على الإقلاع عن عشوائيتها ويسكبها في قوالب منتظمة ويبث فيها الوعي التوجيهي السليم.
ومنهم من أخذ يؤجل الموعد الذي يعد نفسه فيه للخروج الشعبي الكبير الجديد، بحيث يربط هذا الموعد بتهاوي قيمة الليرة في السوق. فيقول ان الناس عندما يصل الدولار لعشرة آلاف ليرة ستخرج، او عندما يصل لخمسة عشر، والآن هناك من يتوقع ثورة خرافية عند تعدي عتبة العشرين ألفا، وهكذا.
ومنهم من أخذ يتغالظ على الناس بأنهم قاعدون، ناعسون، متواطئون مع أسباب شقائهم وتعاستهم، فيما هو يرعد ويزمجر، ويحشد جميع أنواع الزعامات والساسة في لعناته المتواصلة، ويؤمن بالملاعنة كمحرك للتاريخ.
ومنهم من استنتج من واقعة ان لكل حركة ثورية قيادة ثورية ان الناس لا تنتظر سوى إعلامها بأن القوى الخفية قد اختارته لها مخلصاً ونذيراً.
كل هذه المكابدات والمكابرات والمكاشفات والجسم الإجتماعي على حاله. لا يُحرّك ساكناً.
يئن تحت وابل الانهيارات المتراكمة عليه. ما بين نظام سياسي وصل إلى لحظة انسداده النهائي لكن لا شيء يمكنه أن يجعله يفرط او يتفجر من تلقائه. وما بين نظام اقتصادي ينحو لتدفيع الكارثة المالية للطبقات الشعبية بالدرجة الأولى. وما بين تغلبية «حزب الله» التي كبرت النقمة حالها في أوساط عديدة متباينة، دون أن يكون بمتسع هذه النقمة ان تبلور طرحاً قادراً على التحول الى منظار شامل النظر في مختلف عناوين الكارثة التي يرزح تحتها البلد.
فهذا الحزب التعبوي الدعوي المسلح له حيثية فعلية ضمن قسم من اللبنانيين، وله ارتباط عضوي بإيران الخمينية في نفس الوقت، ومعظم من يرى إحدى هاتين المعادلتين ينكر الثانية، في حين تتصل كل القضية بدمجهما في كل واحد، أي كيف التعاطي مع حزب لا لبس على حيثيته الداخلية، ولا مجال للمكابرة في الوقت نفسه على عضوية ارتباطه الإيديولوجي – الديني ببلد غير مجاور للبنان، وبنظرة تجعله جزءا من ثورة عابرة للبلدان، حريصة على نظامي الممانعة في إيران وسوريا، وغير قادرة على تصنيف أي مخالف الا كثورة مضادة.
والجسم الاجتماعي أساساً اذا كان حجرَ على نفسه أضعاف ما حجرت عليه الكورونا فلأنه هو كذلك لا صبر لديه على طرح هذه الأسئلة، وإن كانت علامات استفهامها تلاحق كل امرؤ في البلد.
لكن هذا يتصل قبل كل شيء بأن الجسم الاجتماعي لم يتعرّف على نفسه، حتى في ذروة انتفاضة 17 تشرين، كجسم اجتماعي. أراد أن يرى نفسه كجسم سياسي فقط. أراد أن يهرب من نفسه. فكانت النتيجة أن عدم تحققه كجسم اجتماعي أعاقت توطد تحققه كجسم سياسي نسميه الشعب.
هل يمكن ايجاد نقطة بعيدة عن مركز تحلق هذه الدوائر، تبني نفسها شيئا فشيء كمركز لشيء آخر، لبلد آخر، للبنان الاجتماعي بدل لبنان الأوليغارشي الممليش؟
راج الظن بأن التذكير بالجسم الإجتماعي هو تذكير بأنه غير موجود، وبأن هناك بدلاً منه طوائف لكل منها جسمها الاجتماعي الذي يحمل زعيمها. العجيب أنه جرى الاستيحاء من ذلك بأن الجسم الاجتماعي ما دام غير موجود، فالجسم السياسي، الارادوي، يمكن استحضاره، وتجسيده مع هذه النخبة من «ناشطي الثورة» انما المطلوب فقط أن تبايع الجماهير هذه النخبة الهشة السمات، بأي شكل كان. لكن، أنى لثورة بلا جسم اجتماعي ان تصنع سياسة؟ وأنى لحركة شعبية ان تنتج وعيها لنفسها بـ«المبايعة» لوجوه بلا سمات؟
لبنان من البلدان التي «خافت» الانتفاضة فيها من أن تكون «اجتماعية» مع أنها كانت كذلك في شحنتها التوليدية الأساسية.
ورأت في هذه الاجتماعية إما قلة جذرية تشغل عن التصويب المباشر على مكامن العلة، وإما تطرف فوق اللزوم، يؤدّي بالناس الى الانفضاض اذا ما طالبت الانتفاضة بربط أي تصور جديد لبنان بتفكيك نموذج طبقي استبعادي فيه للعدد الأكبر من الناس.
وهذا النموذج الذي يكون فيه المجتمع والدولة مسخراً لمصلحة قلة مقسومة على نفسها طائفياً، وفي علاقات ولائها للخارج، هو نموذج غير معزول اجتماعيا في نفس الوقت، لأنه نموذج يقوم على مجموعة دوائر.
الدائرة الصغرى، مركز تكدس الثروة (الأوليغارشية). الدائرة المحيطة بها، مركز تكدس القوة (منظومة العنف الشرعية، منظومة العنف الموازية). الدائرة الثالثة، المحيط الأوسع للمتمتعين بالثروة والقوة (البرجوازية، البيروقراطية العليا، الكوادر العليا في حزب الله). الدائرة الرابعة، حراس الدوائر السابقة. الدائرة الرابعة، من يتسرب إليهم شيء كاف من هذه الدوائر. الدائرة الخامسة من يتسرب إليهم الشيء القليل من هذه الدوائر. الدائرة السادسة من لا يتسرّب لهم أي شيء تقريبا.
وقد تكون الدائرة السادسة هي أكثرية السكان، لكنها ليست أكثرية ضخمة، وهي أكثرية طرفية وانطوائية، تأتي من بعد مجموعة دوائر تدفع بها إلى الوراء.
ولأجل ذلك فالقاعدة الاجتماعية لهذا النظام الأوليغارشي غير صغيرة أبداً، ورغم كل الانهيارات المالية فان كل من ينتمي الى دائرة من هذه الدوائر التي تتحلق حول بعضها البعض في علاقة Concentricité يفضل ان لا يرى نفسه وقد قذف الى الدائرة الأكثر طرفية وبعداً عن المركز الأوليغارشي لهذا السستام.
وليس هناك مسبقاً من بين الدوائر 4 و5 و6 من دائرة يمكن ان يقال عنها أنها الأكثر ثورية. فالثورية هنا، ان كان لها معنى فلجهة تجاوز نظام الدوائر المتحلقة حول بعضها البعض هذا. طالما الدوائر متحلقة حول بعضها البعض (بالشكل المفتوح على تعديل تقسيماته وتبويباته وتسمياته، ما أردنا، انما المهم فكرة الدوائر المتحلقة نفسها) فإن الجسم الاجتماعي غير قادر على التحقق، الا عرضاً، أو لماماً، كطيف.
لقد راجت شعارات تريد كلها ممارسة لعبة 99 بالمئة ضد 1 بالمئة. هنا تحت مسمى «كلن يعني كلن» أي الشعب كله ضد كل السياسيين. وهناك تحت مسمى «كلن يعني كلن أشمل» أي ضد زعماء الطوائف وأرباب المصارف. وهناك تحت مسمى ان المعركة هي مع مافيا وميليشيا، أي مع بضعة آلاف من هنا وهناك، وبالنتيجة نبقى في معادلة 1 ضد 99 بالمئة.
لكن حسبة 99 ضد 1 بالمئة حين لا تكون مقترنة بظاهرة شعبية ناجحة قادرة على اقناع فئات واسعة من الجماهير بأنها تجسد هذه الحسبة، فإنها تصير كابحاً للنظر والعمل في آن. لنفترض ان الدائرة الأولى في نظام الدوائر المتحلقة يضم فقط 1 بالمئة من السكان، فإن الدائرة الثانية اذا ضمت 5 بالمئة والثالثة 10 بالمئة والرابعة 20 بالمئة، سنكون مثلا أمام سستام أوليغارشي له قاعدة اجتماعية تقدّر بـ 36 بالمئة من السكان! اذا كنت قادراً على ضرب الدائرة الأولى بالقوة بحيث تتفوق عنها الدوائر الأخرى كان به (مخيلة حرب عصابات مثلا) لكن ان لم تكن قادراً على ذلك بالقوة أو بالسحر، فعندها لا يمكن أن ينبني الرهان على تكتيل الأكثرية العظمى ضد الـ 1 بالمئة.
اذا؟ يصبح السؤال الممتنع والمؤجل، هل يمكن ايجاد نقطة بعيدة عن مركز تحلق هذه الدوائر، تبني نفسها شيئا فشيء كمركز لشيء آخر، لبلد آخر، للبنان الاجتماعي بدل لبنان الأوليغارشي الممليش؟ على صعوبة ذلك، فكل ما هو عدا ذلك مستحيل. وحدها إدارة الظهر لمركز نظام الحلقات المتحلقة حول بعضها البعض قادرة على تفعيل النشاط البركاني للجسم الاجتماعي من جديد.
كاتب لبناني
الصراع اللبناني يتجسد في تناحر من أجل النفوذ بين إيران وفرنسا والسعودية خاصة وأن قبالة سواحل لبنان هناك بحر يعوم على الغاز الطبيعي فلا يهمهم المواطن اللبناني الغير تابع لقطيع طائفة من الطوائف.
ورد التعريف التالي (سستام أوليغارشي له قاعدة اجتماعية تقدّر بـ 36 بالمئة من السكان!) تحت عنوان (الجسم الاجتماعي اللبناني الممتنع ونظام «الدوائر المتحلقة») لد. وسام سعادة في طرح رؤيته عن الوضع اللبناني في عام 2021،
وعلى هذا التعريف، هل هي فرنسا أم روسيا (الأم)، أم (الأب)، أم هي الأم والأب في أسرة مجتمع دولة الحداثة؟!
خصوصاً وأن توقيع شهادة ميلاد الكيان الصهيوني كانت بتوقيع روسيا (الشيوعية) وفرنسا (العسكرية)، من أجل تسويق الكيبوتسات الشيوعية الجنسية، بالذات في عام 1945،
هذا النظام الاقتصادي ثبت فشله،
فحتى الآن دولة الكيان الصهيوني عالة، على مص دم الإنسان والأسرة والشركة المُنتجة للمنتجات الانسانية في نظام الأمم المتحدة تحت مسمى (الهولوكوست)،
الآن، هل عمل المرأة أو الرجل داخل الأسرة، يجب أن يكون براتب، مثل أي عمل أو مهنة داخل الدولة، أم لا؟!
وكيف يتم حساب الراتب، داخل الدولة أو داخل الأسرة، حتى تستطيع حساب التكاليف، من أجل المنافسة في أجواء سوق العولمة؟!
حتى بالنسبة إلى الإتحاد السوفيياتي الذي أفلس، وتم تقسيمه،
وفرنسا، الآن في طريقها إلى الإفلاس والتفكّك، حسب رأي (العسكر) الذي نُشر في عام 2021،
هذا ما لم أجد (د وسام سعادة)، التفكير به، في النقد، بدل فلسفة الثورة أو التغيير التي ناقشها.??
??????