سئل عالم الاجتماع والفيلسوف الفرنسي إدغار موران، عمّا دفع به إلى الكتابة عن الجمال في عمر الخامسة والتسعين؟ فأجاب، كما ورد في كتاب «عن الجمال» الصادر عن جامعة الكوفة، أن «السينما والأدب والشعر هم الأساس في ثقافته، وأن شخصيته بنيت بتأثير مظاهر الفن الثلاثة.. وأنه اكتشف انفعالاته العميقة من قراءته رواية «الجريمة والعقاب» لدوستويفسكي ومن سماعه السمفونية التاسعة لبتهوفن».
في مقدمة مختصرة وبليغة للمترجم محمد الذبحاوي، نجد ما يدفعنا لقراءة الكتاب، وكأنه عرف بالضبط المفاتيح الصحيحة لفتح أبواب فضولنا على مصراعيها، وقادنا من بساطة أفكارنا إلى أماكن تحولاتها الكبرى، منبها إيانا إلى «حقائق موجودة في حياتنا اليومية، إلاّ أننا لا ندركها. في الحياة اليومية هناك من لا نفهمهم، بل نحتقرهم، مثل المشردين والسجناء. لكن حين نقرأ عنهم في الروايات والمسرحيات، نرى الظلم الذي دفعهم إلى أن يكونوا كذلك، فنحن في المسرح، وفي السينما، وفي أثناء قراءة رواية، أكثر انفتاحا على الآخر وأكثر إنسانية».
وقبل التوغل في محتويات الكتاب، والإبحار في متنه المتنوع والثري، والخوض في طبيعة الشعور الإنساني والشعور الجمالي، وتصنيع الجمال وتسويقه، وإبراز الطاقات الجبارة للفنون على خلق الفضاءات الجمالية واتساع نطاقها، نجد أنفسنا منساقين للوقوف لحظات تأمل في شخص هذا الرجل، الذي احتفل بعيد مولده التاسع والتسعين منذ أيام فقط، تحديدا في الثامن من الشهر الحالي (يوليو/ تموز). لديه مواقف مذهلة تجاه ما يحدث في العالم ضد البيئة، فقد شارك مع العديد من الشخصيات الفاعلة في إطلاق المحكمة الأخلاقية للجرائم ضد الطبيعة ومستقبل الإنسانية، وأعلن بصريح العبارة، أن قوة المال هي التي تقف وراء تدهور الطبيعة، ما جعله في مواجهة مباشرة مع أرباب المال، خاصة في العالم التكنولوجي اللاهث وراء مزيد من التصنيع، ومزيد من الثروة.
ناصر القضايا العادلة في العالم، وطالب بحرية الشعوب المقهورة تحت وطأة الاستعمار، ورغم أصوله اليهودية، لم يتردد في رفض التبريرات السياسية التي تقدمها إسرائيل لاستمرارها في ذبح الفلسطينيين. ولعل هذا الموضوع هو أكثر ما يركز عليه إعلامنا العربي، لكن هذا في اعتقادي يقلّص من معرفتنا بفلسفته وشساعة فكره. وإن لم أكن مبالغة، أوافق بشدة الكاتبة نجوى بركات، حين دعت لقراءة أعماله المترجمة باللغة العربية، أو إعادة اكتشافها، «لأنّه ربما من آخر الفلاسفة الحكماء». هذا اللقب ينطبق عليه، لكن أيضا أراه موسوعة القرن بامتياز، من حيث شمولية تطويقه للحالة البشرية من منظور اجتماعي، واستيعاب التغيرات التي طرأت على الحياة، انطلاقا من التفكك الذي وقع في العلاقات الإنسانية ـ الإنسانية، والإنسانية ـ البيئية.
في كتابه «عن الجمال» يقودنا برفق إلى الوقائع البسيطة التي تؤسس للقاعدة الجمالية في الكون، بوجود الألوان والأشكال بوفرة، وتنوع الأصوات وتوالي الفصول، وتغيير الطبيعة لأثوابها، ووظائفها، كلها نشاطات خلاّقة للحياة، وكلها تؤكد أن الجمال كان هنا قبل مجيء الإنسان، ولعلّ مجيئه كان مكونا جماليا إضافيا للمنظومة الحياتية على الأرض. قد لا يوافقني الجميع على وجهة النظر هذه، وليكن، لكن إن تأملنا المدن والقرى والقفار، ألا نرى اللمسة الجمالية للإنسان عليها؟ ثم ألا تبدو الأماكن الخالية منه أحيانا أكثر جمالا، وأحيانا أخرى تبدو موحشة ومخيفة؟ ألا تثير انفعالات مختلفة ترفع من قيمة المكان أو تهوي به إلى قاع سحيق؟
في كتابه «عن الجمال» يقودنا برفق إلى الوقائع البسيطة التي تؤسس للقاعدة الجمالية في الكون، بوجود الألوان والأشكال بوفرة، وتنوع الأصوات وتوالي الفصول، وتغيير الطبيعة لأثوابها، ووظائفها، كلها نشاطات خلاّقة للحياة، وكلها تؤكد أن الجمال كان هنا قبل مجيء الإنسان.
في وصف المكان نفسه، مهما كان بائسا قد نتأرجح في تلقيه بين صورتين، إذ يحدث أن يمنح المجاز جماليات تناقض الواقع في مفهومنا البسيط، «يحاول الشعر الوصول بالكلمات إلى قول ما لا تستطيع قوله. فهو بمنزلة «ترجمة الصمت» حسب تعبير جو بوسكويه». ويضيف موران أن الشعر يرى اللامرئي من خلال المرئي، وهذا ما سماه رامبو «الاستبصار».
تلعب الكاميرا الدور نفسه، حين تقتنص اللقطة الأكثر تأثيرا من مشهد غير لافت للنظر، وهذا ما خلق فن الإعلان، والترويج، الذي تقوم عليه المؤسسات التجارية. فالهدف ـ سواء آمنت بتأثير الفنون أم لا ـ هو استهداف انفعالاتك بلمسة جمالية، يتقن صنعها اختصاصيون، وقد تعتقد أنك عصي عن اختراق انفعالاتك، لكنك يوميا تأكل وتشرب وتلبس، وفق ما لامس مشاعرك، وتلك هي مسألة «الذوق»، التي تحدث عنها كانط باكرا جدا.
تحدث موران عن تأثير التلفزيون عليه، ومساهمته في تكوين شخصيته، قلّما نجد هذه الصراحة عند مفكّر ومثقف بحجمه، إذ يُعتَقد دوما أن هذا المثقف ابن الكتب، وأرفع من التلفزيون وما يقدّم من خلاله. حتى إن وجوها تلفزيونية كثيرة رغم اجتهادها في رفع مستوى ما يُقدّم، لا تجد دعما، ولو بكلمة من أهل الثقافة أنفسهم، ألا تبدو لكم هذه قطيعة مفتعلة؟ على الأقل من باب تقديم مبرر لرفض هدية إعلامية، قد تكون منصة له لإبراز صوته؟
في هذا الكتاب الممتع، نقرأ عن الفنون كلها، وتأثيراتها الساحرة على سلوك الإنسان، ثمة وقفة عند الرسم، والموسيقى، والمسرح، بما في ذلك مسرحة الموت، إلى التصوير الفوتوغرافي، والقصة القصيرة المصورة، والمسلسلات، والأفلام، وبما أننا بلغنا هذه المحطة، علينا أن نذكر التأثير القوي جدا لـstory التي تبث عبر مواقع التواصل الاجتماعي، لأنها تدخل في نطاق تصنيع الجمال الذي تحدث عنه موران، وهو ليس بعيدا عن هذا الفضاء التواصلي، فهو حاضر يوميا على تويتر، ويمكن متابعته لمن يتقن اللغة الفرنسية، وأشير مرة أخرى إلى أن الروائية نجوى بركات هي التي نبهتني لهذا الأمر، ففتحت تويتر على اسمه لأجده قد كتب تغريدة من واحد وعشرين ساعة، ترجمتها لي إحدى الصديقات «لقد ابتكرت الطبيعة ما لم يبتكره الإنسان، لكن الإنسان أيضا ابتكر ما لم تستطع الطبيعة ابتكاره».
وفي تغريدته هذه إحالة إلى أبدية الابتكار، واستمرارية التناغم بين الإنسان والطبيعة. فالإنسان وإن خلق من طين، ويعتبر جزءا من مكونات الأرض، إلاّ أن المادة الخام لكل ابتكاراته هي المكونات نفسها. هناك إشارة ذكية من موران إلى أن التصنيع يكون أكثر نفعا، وأقل إساءة للإنسان نفسه، كلما كان نابعا من رؤية جمالية عالية.
إنها عالمية الجمال. تلك التي تجعلنا نقف وقفة إجلال أمام الأهرامات، وما تبقى من الحضارة الفرعونية، وأمام الحضارة اليونانية وما تبقى منها من ميراث ثقافي شعبي وحضاري، وأدبي. إنها هي التي تجعلنا نحمل حقائبنا ونسافر(في عطل سابقة) إلى أمكنة شهدنا تأثيراتها عبر نصوص سردية، وشعرية، أو صور وريبورتاجات وأفلام.
غير كل ما ذُكر، أجدني أقف وقفة دهشتي الخاصة أمام مقولة موران «ليس للحياة بحدّ ذاتها معنى، الشعر هو الذي يمنح معنى للحياة»، فكلما تحققت الحالة الشعرية، تحقق الحياة معناها، فالشعور الجمالي عنصر تأملي، وهنا يكمن السر في بلوغ تلك «الغشية» الإيمانية العظيمة، التي قد تكون مبنية على تواصل روحي بين موجودات الكون والنّفس الهائمة في حبها، أو بين الإنسان وقناعات أخرى، تصل به في كل الحالات إلى أعلى مراتب الإدراك والوعي، وهي ما يولّد القناعة بمعنى حياتنا.
«عن الجمال» كتاب صغير من 150 صفحة، متعة قراءته لا تضاهيها متعة، وكما قال المترجم في مقدمته، فهذا العمل أخذ جهدا كبيرا ووقتا طويلا لإنجازه لأنه أدرك أنه يتعامل مع فكر عالم اجتماع وفيلسوف وباحث كبير، لكنه منجز عظيم، قد يكون نافذة تفتح على عالم موران الواسع بدون أي تردد.
٭ شاعرة وإعلامية من البحرين
قبل نحو خمس سنين تواصلت مع فنانة تشكيليّة كنديّة…أقامت معرضًا للوحاتها.وكان حوارنا بشأن لوحة لها تمثل الأفــق القطبيّ…
إنها مزيـج من الألوان خلق مشهدًا عبقريّ الحسان.وأجابتني : ( إنني في غاية السرور؛ ليس بشأن لوحتي الفنيّة ؛ لكن لأنّ المهتم بها ينتمي إلى بلاد أقدم وأجمل حضارة في الأرض صنعت الفنّ ). وأضافت : ( الآن : لوحتي أصبح لها عمق يمتــدّ من مونتريال إلى بابل…
هذه هي القيمـة الجماليّة التي تهمني ياسيدي لم أكن أتوقعها…شكرًا لك ).هذا الإحساس المشترك بين بني البشر؛ ينتمي فلسفيًا إلى ثلاثيّة : الخير/ الحقّ / الجمال.ومن هنا سعى الفلاسفة وأهل الفكرإلى خلق تفاعل بين هذه القيم الثلاثيّة ؛ والغاية لتطهير النفوس بالجمال من ملح القبح المرّ الذي ينطوي عليه السلوك…وصدق عمر الخيام : { القلب قد أضناه عشق الجمال / والصدر قد ضاق بما لا يقال / ياربّ هل يرضيك هذا الظمأ ؟ / والماء ينساب أمامي زلال }.
يبدو أن هناك بعضا البهارات الإغراقية المرشوشة على قول الفنانة التشكيلية الكندية ؛
العراقيون المتعصبون إلى حد القومية العنصرية يقولون إن بلاد العراق أقدم حضارة على وجه الأرض ؛
بينما حتى الأوروبيون المهتمون يقولون بأن أول أبجدية (بدء الحضارة الحقيقية) وجدت في بلاد الشام ؛ حتى أنهم يشيرون في كثير من الروايات إلى أن الخليقة ابتدأت هناك حين خلق آدم وحواء في سهل دمشق !!!؟
أخيرا، أتساءل هنا كيف قال المعلق عبارته “إنها مزيج من الألوان خلق مشهدا عبقري الحسان” باللغة الإنكليزية أو الفرنسية عندما كان يحاور الفنانة التشكيلية الكندية؟؟؟!!
بعض الشعراء رأوا أنّ الجمال يكمن في الرّوح ؛ كشعراء التصوّف ؛ وبعضهم رأه يكمن في الجسد.وممنْ سعى للجمع بين الرّوح والجسد الشاعرة اليابانيّة ( أزومي ) وتقول من قصيدة لها : { في هذه الليلة البرد ينهمر على أوراق الخيزران / أسمع خشخشة في ظلمة / لكني لا أحبّ أنْ أرقد وحيدة / حبّـك قد يكسرقلبي إلى ألف قطعة / لكن ولا قطعة ستكون ضائعة / لأنك تمنحني جمال الحبّ }. ولماذا نذهب بعيدًا وفي الحديث : { إنّ الله جميل ؛ يحبّ الجمال }.وفي القرآن قد ورد لفظ : { جمال } لمرّة واحدة في سورة النحل…
كمصدرللحُسن.إنّ أخطر ما في الجمال ؛ أنه صنع الفنّ…وصناعة الفنّ هي التي منحت الحضارة : الرّوح.وكي يبقى الفنّ خالدًا رسموه على جدران الصخور.هذا ما وجده علماء الآثار في الكهوف ودورالعبادة…
ملاحظة أخيرة ؛ لأمر شائع ذائع ؛ قد وردت في مقالك الجميل البديع ؛ ياسيدة الذوق الرفيع : ( فالإنسـان وإن خلق من طين ، ويعتبر جزءا من مكونات الأرض ).إنّ ( الطين ) ليس ( وحل التراب والماء ) الذي خلق منه الإنسان بل ( الطين ) من طون ؛ الطونة : كثرة الماء ؟ ينظر: لسان العرب : ابن منظور؛ مادة : ( طون ). وتهذيب اللغة : الأزهريّ…فهذا الإنسان المكرّم الذي كرّمه الله الخالق الكريم ؛ لم يخلقه من وحــل الطيــن. بل خلقه سبحانه من ماء السحاب…{ وهوالذي خلق من الماء بشرًا ؛ فجعله نسبًا وصهرًا }(الفرقان 54).لهذا تجدين علاقة فرح وحبّ وانتماء بين الإنسان ونزول المطر العذب.شكرًا موران ؛ صديق الجمال ؛ وشكرًا بروين ؛ صديقة الجمال ؛ وستبقى الكلمة الصادقة اللفظ الصافية المعنى : رمز الخيروالحقّ والجمال واليقين.
[في كتابه «عن الجمال» يقودنا برفق إلى الوقائع البسيطة التي تؤسس للقاعدة الجمالية في الكون، بوجود الألوان والأشكال بوفرة، وتنوع الأصوات وتوالي الفصول، وتغيير الطبيعة لأثوابها، ووظائفها، كلها نشاطات خلاّقة للحياة، وكلها تؤكد أن الجمال كان هنا قبل مجيء الإنسان، ولعلّ مجيئه كان مكونا جماليا إضافيا للمنظومة الحياتية على الأرض.]
ليس هذا ممَّا يقصده إدغار موران في كتابه المذكور على الإطلاق. على النقيض تماما، ما يُسمَّى بـ«الجمال» كدالٍّ على كل ما هو «جميل» لا يكمن في التعدد ولا في الوحدة ولا حتى في أي موضع يتموضع بينهما. ولا أظن أن هناك فيلسوفا من فلاسفة القيمة (بمن فيهم موران نفسه) يقر بأسبقية «القيمة» على وجود العقل الذي يقيِّم هذه «القيمة»، سواء كان هذا العقل فردًا أم مجتمعًا. فقد يكون هذا الشيء «جميلاً» بالنسبة إلى فرد/مجتمع ما، وقد يكون «قبيحًا» (أو «لاجميلاً»، بعبارة ألطفَ تعبيرًا) بالنسبة إلى فرد/مجتمع آخرَ، في الآن ذاته. وهذا الأوانُ النقيضيُّ المتزامن ما بين الشيء ونقيضه، في عوالم القيمة خاصَّةً، إنَّما ينسفُ من أساسِهِ كلَّ ما جاء بهِ المعلق جمال البدري من تعليق عن ثلاثية «الخير والحق والجمال» وعن غائية ـ«تطهير النفوس بالجمال من ملح القبح المرّ الذي ينطوي عليه السوك»!
** السوك : السلوك
سيد يقظان، أنا أستفيد من تعليقاتك و أتفق معك في كثير منها. الجمال لغة عالمية يدركها الجميع و نادرا ما يكون اختلاف المجتمعات سببا في الاستحسان أو الاستقباح، أما التفاوت في تذوق الجمال عند الأفراد فإنه يعود إلى التفاوت في في درجات الإحساس. الإنسان مثلما أنه مخلوق يجوع و يعطش فإنه مفطور على حب الجمال و نحن نؤمن بأن الله قد خلق الكون قبل أن يخلق الإنسان و بالتالي فإنه تعالى كما هيأ الأرض بما تحتويه من طعام و ماء لإشباع الجوع و إرواء الظمأ فإنه قد هيأها بما تكتنزه من آيات الجمال لتلبية حاجة في نفس الإنسان إلى ذلك الجمال. الخلاصة فإن وجود الجمال على الأرض قد سبق وجود الإنسان عليها و هذا ما أختلف معك فيه.
وها أنتذا بدأت ردَّك بالمغالطة الكبرى بأن “الجمال لغة عالمية”!
ما علينا، حتى لو صحَّت قصة الخلق القرآنية التي تمَّ اشتقاقها، بدورها، من قصة الخلق التوراتية التي تمَّ اشتقاقها، بدورها هي الأخرى، من قصص الخلق البابلية والسومرية، وغيرها، حتى لو صحَّت قصة الخلق هذه، من المعلوم التكويني أن الله خلق الإنسان بصورته وليس غير ذلك، إذن على أدنى تخمين في تجليات هذه القصص التكوينية الأسطورية، فإن صورة الإنسان، تجريدًا كانت أم تجسيدًا، لَموجودةٌ قبل أن يوجد الجمال أو أي شيء آخر حتى!!!؟؟