في مصر مقولة مريحة للبعض، وذات مغزى خفي من البعض، وهي مقولة «الجمهور عايز كدا». هذه المقولة أحد أسباب غيظي طوال حياتي الثقافية، ولم أشأ أن أعلن أن وراءها أغراضا قد تكون مادية، لانتشار أكثر للعمل الفني، أو تعكس عدم قدرة الفنان أصلا على تقديم فن راق.
انتشار هذه الجملة جاء أساسا من عالم السينما، وتسرب إلى عالم المسرح، ثم تسرب بقوة إلى عالم المسلسلات التلفزيونية، والآن يتسرب باتساع إلى عالم الأغاني والموسيقى. في كل أمة شعب، وفي كل شعب طبقات أو أنواع من البشر. هناك الضائعون، وهناك أصحاب الأهداف في الحياة، وهناك من يريدون ساعات من صفاء الروح مع الفنون، وهناك من لا يبالون. عادة تكون الأغلبية في البلاد المتخلفة، أو دعنا نقول الفقيرة، مع الفن الهابط، مادامت هذه الأغلبية بعيدة عن التعليم، وتصل إليها الفضائيات، وقبلها التسجيلات الغنائية بما هو هابط. في السينما كان لدينا يوما مخرجون يقدمون موضوعات ميلودرامية، وموضوعات هابطة لا معنى لها، وكانت السينمات تمتلئ بالمتفرجين لمشاهدتها. في الوقت نفسه كان هناك مخرجون يقدمون أفلاما راقية، وتحتشد السينما بالجماهير. جمهور كل فيلم كان يعود سعيدا بما رأى. الذين شاهدو أفلام صلاح أبو سيف ويوسف شاهين وتوفيق صالح لم يكونوا يقلون في العدد عن مشاهدي أفلام حسن الإمام وإبراهيم عمارة. ومشاهدو أفلام داوود عبد السيد ومحمد خان وخيري بشارة وسمير سيف، لم يكونوا أقل من مشاهدي أفلام المقاولات. ولا يمكن حتى الحكم على مدة عرض الفليم كمعيار الآن، فهناك متفرجون خفيون على قنوات اليوتيوب والقنوات الخاصة. أجل الظاهر أن الأغلبية من الشعب مع أفلام التسلية، لكنهم ليسوا كل الشعب، ولا يمكن أن يكونوا كذلك.
منذ السبعينيات جرى ما جرى في مصر من تراجع فكري بتأثير الغزو الوهابي الممنهج، وأصبح بين الشعب الكثيرون جدا لا يؤمنون بقيمة الفن، بل يرونه حراما. يرون أن القرآن الكريم فيه القصص والسينما والمسرح، وهكذا ظهرت طائفة كبيرة من الجمهور أيضا. طائفة ثالثة وما زالت موجودة، والمؤسف أنها تمددت بين قطاع الشباب وتتمدد حتى الآن.
أيّ جمهور إذن يقصد أصحاب هذه المقولة؟ الذين ذهبوا إلى معرض الكتاب مثلا وجدوا طوابير على حفلات توقيع كتب تافهة، ولم يجدوها على الكتب الجميلة، فهل معنى ذلك أن يغير الكتاب الموهوبون طريقتهم، استجداء للجمهور. سيكون هذا سببا جديدا للاكتئاب، أعني تغيير نمط الكتابة، وأسباب الاكتئاب للكتّاب في الطرقات، ولسنا في حاجة إلى سبب جديد، ثم من أين تعرف أن الكتب الجادة ليست مطلوبة في المكتبات قبل وبعد المعرض، وعلى الإنترنت مثلا، وما تفسيرك أن أغلب الكتب الجادة يتم تزويرها وتباع بأرخص الأثمان؟ حينما جرى ما جرى على فن السينما، وظهرت أفلام السبكي، كنت مندهشا جدا من الحديث عن أنها تلبي رغبة الجمهور. لم تقابلها أفلام جادة بما يكفي لنعرف أنها أيضا تلبي رغبة الجمهور.
جملة «الجمهور عايز كدا» هي أسهل تبرير للفن الهابط. لقد توسع أثرها بعد ما جرى على مصر من عشوائيات في البناء والأحياء، وبالمناسبة هو أيضا تخلف ثقافي، وكيف أصبح جمهور الفقراء، سكان هذه العشوائيات، هو من يقال عنه بأن الجمهور عايز كدا.
لكل فن جمهوره، والقضية هي محاصرة الفن الراقي، وليست إنتاج الفن السيئ. السينما طوال تاريخها في العالم تقدم النوعين، ولكل نوع جمهوره، وكما قلت في مصر كان هناك النوعان متوازيان في السينما، حين كانت لدينا سينما منذ نشأتها، حتى الستينيات، أو بعدها حين تم تأميمها. الكارثة بدأت منذ السبعينيات بظهور هوجة أفلام المقاولات، ورغم ذلك وفي قلبها وموازيا لها ظهرت أفلام عظيمة لأسماء ذكرتها من قبل مثل، داوود عبد السيد وأبناء جيله، وحتى بعدهم. الآن يعاني الاثنان من مشاكل الإنتاج. فهل الجمهور مش عايز إنتاج؟ هل انتصر جمهور الفن حرام؟ طبعا لا.
هي ظروف يمر بها المجتمع، للتناقض الذي هو سبب مشاكل حياتنا، بين الدولة المركزية، التي صارت تهيمن على كل شيء، والمجتمع الأهلي الذي لا يستطيع الحركة. السينما كانت من إنتاج المجتمع الأهلي منذ نشأتها والمسرح والصحافة والمجلات الأدبية، وحين تم تأميمها كانت الدولة إلى حد كبير على خطى ما غرسه المجتمع الأهلي من معنى لفن السينما، حتى تراجعت الدولة وتراجع المجتمع الأهلي معا.
جملة «الجمهور عايز كدا» هي أسهل تبرير للفن الهابط. لقد توسع أثرها بعد ما جرى على مصر من عشوائيات في البناء والأحياء، وبالمناسبة هو أيضا تخلف ثقافي، وكيف أصبح جمهور الفقراء، سكان هذه العشوائيات، هو من يقال عنه بأن الجمهور عايز كدا. لا يفكر أحد أنه بينها أيضا يوجد شباب لا يريدون هذا. ورغم أن أماكن العشوائيات صارت تأوي أكثر من نصف سكان البلاد، لا يصدق أحد أن بينها جمهورا آخر غير ما هو على السطح، فيبررون ما ينتجون من أفلام هابطة.. لا أحد يدرك أنه حتى لو أن «الجمهور عايز كدا» فلن يرى ما تقدمه غير مرة. لكن تعالَ الآن وانظر إلى سينما مثل «زاوية» حين تعيد عرض أفلام يوسف شاهين كيف تمتلئ بأجيال جديدة، وكيف يذهب إليها الكبار أيضا، يستعيدون زمنا جميلا. قل لي كم يعيدون مشاهدة فلم لمحمد رمضان مرتين، وكم يعيدون مشاهدة فيلم لمحمود مرسي وهو الأقدم مرتين. الذين يعيدون مشاهدة أفلام محمود مرسي أكثر دائما. أفلام «الجمهور عايز كدا» ومسلسلاته تسلية لا تزيد عن مرة، لأنه لا شيء فيها يجذب المشاهد من جديد. لقد رآها ووجدها مما يعرفه حوله في العشوائيات وتكفي مرة. لماذا أكتب هذا الكلام الآن؟ السبب هو ما جرى من حفل في استاد القاهرة بمناسبة يوم الفالنتين أو الحب، وكيف حشدت له جماعة متصلة بالدولة جمهورا من كل البلاد، لمشاهدة فن هابط. الفن الهابط في كل الأزمنة ويترك للزمن يفصل بينه وبين غيره. حين تفرد له الفضائيات المصرية هذه المساحة الكبيرة، ويكون وراء الحشد جهات تتشدق بالولاء للدولة، لا يمكن أن يكون القول، الجمهور عايز كدا، تفسيرا للمسألة.. بل الذين فعلوا ذلك هم من يريدون أن يتصدر هذا الفن المشهد، لأنه ببساطة شديدة في وجود وزراة الثقافة، كان يمكن أن يكون نجوم الحفل، فنانين مثل نسمة عبد العزيز عازفة الماريمبا، أو منال محيي الدين عازفة الهارب، أو يحيى خليل ملك موسيقى الجاز، ومعهم مطربون مثل محمد منير أو عمرو دياب أو شيرين، على سبيل المثال لا الحصر، وكان الحشد سيكون أضعاف ما حشدوه من جمهور، تكفلوا وتكلفوا بنقله من الأقاليم. الذين يفسرون ما جرى بأن «الجمهور عايز كدا» من المسؤولين أو المدافعين عما جرى مخطئون. هناك جماهير في كل شعب وليس جمهورا واحدا. من يسخر إمكاناته ليأتي بالجمهور المحب للفن العشوائي إلى المقدمة هو المخطئ، وليست الجماهير، ولا مبرر بوجودها أبدا لأن هناك غيرها.
هذا الفن الهابط كما قلت موجود عبر السنين، والزمن هو الحكم في بقائه أو انقراضه، لكن أن يتم الحشد له على هذا النحو فهو الخطأ الكبير. ماذا تركنا للملاهي الليلية؟
٭ روائي من مصر
السلفيون موجودون في مصر قبل إنشاء دولة اسممها السعودية،وبالتالي فالغزو الوهابي خرافة.لكن الحكم العسكري منذ إنشاء المخابرات وفي سياق حربه على الإسلام استغل السلفيين مثلما صنع الحظيرة الثقافية ليشغل المصريين عن الحريةوالخبز.