الجنة الآن لهاني أبو أسعد والردود الإسرائيلية:إزاحة الستار عن الوجه الإنساني لـ الانتحاري الفلسطيني
نائل الطوخي الجنة الآن لهاني أبو أسعد والردود الإسرائيلية:إزاحة الستار عن الوجه الإنساني لـ الانتحاري الفلسطينيالقاهرة ـ القدس العربي كعنوان لحوارها مع المخرج الفلسطيني هاني أبو أسعد، عن فيلمه الأخير الجنة الآن ، تختار صحيفة هاآرتس إبراز جملته: لو لم أكن سينمائيا، لأصبحت مخربا، انتحاريا . شيء ما دفع الصحيفة والمحاور جوئيل بينتو إلي اعتبار هذه الجملة هي أهم جملة في الحوار، وبالتالي إبرازها بهذا الشكل، ربما هو الحضور الكلي لهاني أبو اسعد بعد عرض فيلمه مؤخرا في قاعة سينماتيك تل أبيب، بعد أن أثار الفيلم كل هذه التعليقات. هذه الجملة الصادمة لأبو أسعد في حوار هاآرتس لا تعني علي الجانب المقابل، الإسرائيلي، إلا شهقة من نوع: يا إلهي، كنا إذن طوال الوقت نحاور انتحاريا، نشاهد عمله، ونكتب عنه؟ هذه شهقة ذاهلة، لأن الانتحاري بلا وجه، بلا حضور جسماني، هو سري وخفي كشيطان. تلفت النظر التعليقات الإسرائيلية علي الفيلم الفلسطيني لهذا السبب بالتحديد، فالفيلم يتحدث عن شابين فلسطينيين، عن صداقاتهما وعملهما وحبهما، قبل أن يذهب أحدهما لتنفيذ عملية انتحارية، هكذا ينتهك الفيلم أبسط المحرمات الإسرائيلية: يؤكد أن ثم انتحاريين يعيشون ويمارسون نشاطا غير قتل المدنيين داخل إسرائيل. تم انتهاك هذا المحرم من قبل في فيلم أطفال أرنا” للمخرج الإسرائيلي جوليانو مير خميس، والذي أثار عاصفة في إسرائيل وقتها. حكي المخرج في حواراته كيف أن إسرائيليين كانوا يقولون له لقد جعلتنا نحب الانتحاريين . هذا هو بيت القصيد: أفراد معدودون في مجتمع يريدون رؤية وجه إنساني لشخص دأبت السلطة وسائر المجتمع علي إزاحته وتقيؤه من وسطها. التعبير الأوضح لهذا التقيؤ حدث عندما حطم السفير الإسرائيلي في السويد، تسيفي ماتسيل، لوحة الفنان الإسرائيلي درور فيلد، والتي صور فيها وجه الانتحارية الفلسطينية. السلطة والمجتمع الإسرائيليان يحطمان وجه الانتحاريين، الوجه الذي يحاول فيلم هاني أبو أسعد الأخير ترميمه. في موقع كوكب النعناع يكتب الناقد السينمائي الإسرائيلي أوري بريتمان: يعطي الفيلم للانتحاري وجها، هوية، خلفية، أسرة، موهبة بلاغية، مظهرا إنسانيا وسلوكا مقبولا . ليس هذا فقط، بل أخيرا يبتعد الفيلم عن تصوير دوافع الانتحاريين وكأنها فقط الاثنتين وسبعين حورية في الجنة، كما يلاحظ شموليك دوفدافاني في مقال له بيديعوت أحرونوت عن الفيلم، وبالتالي مواجهة هذه البورنوغرافيا المسطحة التي يحاول عبرها الكثير من الإسرائيليين، والعرب أيضا، شطب المعاناة الفلسطينية لتحويلها إلي مجرد شبق جنسي. يقول أوري بريتمان عن الفيلم: الفيلم يناضل ضد أسطرة الصراع.. إنه ليس صراعا بين مسلمين فقراء ويهود أغنياء، بل هو صراع ضد القمع . هل هو صراع ضد القمع فعلا؟ فلنلاحظ أنه ليس بالفيلم مشاهد عن الجيش الإسرائيلي في الأراضي المحتلة، وهي هنا نابلس، وباستثناء بعض الحواجز والانفجارات فالجيش غير محسوس به في الفيلم. هذا هو المثلب الأساسي للفيلم، خاصة عندما يتوجه لجمهور إسرائيلي لا يعرف، ولا يريد أن يعرف، شيئا عن فظائع الاحتلال الذي تقوم به دولته للأراضي الفلسطينية، جمهور أعمي، بدافع من تعميته أو من رغبته الذاتية في العمي. لذا يكون علي بعض المشاهدين ملء الفراغات. تقول قارئة باسم ياعيل شيلوني في ردها علي مقالة شموليك دوفدفاني في يديعوت أحرونوت المنشورة علي الإنترنت: الاثنتان وسبعون عذراء هم حجة فحسب. أما الدافع فهو أعمق كثيرا وهو متصل بسبع وخمسين عاما من إذلال ما بعد الاحتلال . هنا بالتحديد، وللأسف، يكمل بعض القراء أهم فراغ في الفيلم، ومن ثم في مقالة دوفدفاني: لماذا يفجر الانتحاري نفسه؟ الإشارة لسنوات الاحتلال خادشة بالطبع للخطاب الإسرائيلي الذي يحب تصوير الفلسطينيين وفق مزاجه، أناس يقتلون بهدف القتل، كما يعبر قارئ ردا علي مقالة دوفدفاني، في خطاب مثل هذا تنقلب الأدوار، يصبح المجتمع الفلسطيني هو مجتمع الترف القتل بهدف القتل بينما المجتمع الإسرائيلي هو مجتمع الضرورة القتل بسبب عدم وجود خيار آخر . في حوار لـ يديعوت أحرونوت مع الممثل الفلسطيني من عرب إسرائيل قيس ناشف، الذي قام بدور البطولة في الفيلم، يقول هو أن الفيلم يحاول البحث عن العناصر الإنسانية لشخصية الانتحاري، وتثير هذه الجملة غضبا واسعا بين القراء، يقول واحد منهم، في قلب مماثل للأدوار بين مفهوم القاتل والضحية: نحن كالعادة نركز علي القتلة والانتحاريين ونحاول أن نفهم دوافعهم، بينما الضحايا يظلون بلا اسم، فقط يهوداً . يتحول هنا كشف وجه الانتحاري الفلسطيني إلي عادة، وهو ما لم يتكرر في السينما الإسرائيلية أكثر من عدد أصابع اليد الواحدة إن لم يقل كثيرا، بينما القناة الأولي الإسرائيلية ، ومعها ترسانة السي إن إن والفوكس نيوز، مشغولة علي الدوام بكشف كل شيء، وليس فقط الاسم والوجه، عن الضحايا اليهود للعمليات الانتحارية. من المثير أن يوضح القارئ مقصده هنا بـ نحن ، الذين ننشغل بفهم الانتحاريين، فبالتأكيد لا يقصد هو الإسرائيليين.علي النقيض من هذا يقول هاني أبو أسعد في حواره في هاآرتس بسخرية مريرة: خسرنا الحرب (وهو يعني هنا الفلسطينيين) ولكن لا يمكننا قبول إلقاء الذنب علينا، إسرائيل تذهب بعيدا جدا، هي تريد إعادة كتابة التاريخ، تريدنا أن نكون مذنبين في كل شيء . هذه هي قاعد الحرب: تحطيم وجه الخاسر، عدم الاكتفاء بخسارته، وإنما محوه، إطلاق سبع عشرة رصاصة علي جسد الطفلة إيمان الهمص بعد قتلها بالفعل، ومحو أي ذكر للخاسر: منع الفيلم من العرض، وتقديم منتجيه للمحاكمة. يقول قارئ ردا علي مقال يديعوت أحرونوت عن الفيلم: في أي دولة عربية وإسلامية يتم مدح الفيلم فيها كانوا ليشنقون في ميدان المدينة، بعد محاكمة عاجلة لساعة واحدة، كل منتجي الفيلم وممثليه، إن كانت الحبكة معكوسة، أي موجهة ضد العرب، وفي أي دولة متقدمة كان ليتم الحكم علي من يعرضون الفيلم بالحبس لسنوات طويلة لمحاولتهم مس الدولة والاتصال بالعدو أثناء الحرب بهدف الإضرار استراتيجيا بهذه الدولة. أما في الواقع اليساري المتطرف في إسرائيل فهم يصبحون أبطالا للثقافة. هذا انهيار شامل، وللأسف الشديد، هكذا تنهار البلدان . هكذا إذن: إسرائيل أكثر ليبرالية من الدول العربية والإسلامية، التي تشنق فنانيها في الميادين العامة، ومن الدول المتقدمة، الغربية بالطبع، التي تحكم علي فنانيها بالحبس لسنوات. بالمناسبة قالت مرة أم يجآل عامير، قاتل رابين في الميدان العام، في التليفزيون الإسرائيلي أن علي إسرائيل أن تشنق يسارييها في الميادين العامة كما يفعلون في مصر. هي لعبة جيدة: التخلص من أي احتمال للتسامح بداخلك، تحديدا عن طريق الادعاء بأنه فاق الحدود، حتي حدود الدول المتقدمة، أي التباهي به والسعي للتخلص منه في آن. هذا المزاج التطهري هو ما يبعد وجه الفلسطيني (أو حتي اليسار) عن الحياة الإسرائيلية، الإبعاد يتم في ميدان عام، بأكبر قدر من الاحتفالية، احتفالية القتل أو الطرد من البلاد. هكذا يقول قارئ ردا علي حوار يديعوت احرونوت مع الممثل قيس ناشف والذي قال فيه انه لا يبرر العمليات الانتحارية وإنما يتفهمها: بالمناسبة، أنا أيضا أتفهم دوافع باروخ غولدشتاين (صاحب مذبحة الخليل الشهيرة ضد المصلين) هذا لا يعني أنني سأقتل عربا غدا في المسجد ولكنني أتفهمه . ويقول آخر موجها خطابه إلي قيس ناشف: لا أعتقد أن الحل هو في طردك أنت وشعبك من البلاد، ولكنني أتفهم هذا، والآن صرت أؤيد الفكرة . يمكن لأي إحصاء أن يؤكد تفاهة المقارنة بين الأعمال الموجهة ضد اليهود وتلك الموجهة ضد العرب، برغم هذا، هي الرغبة الدائمة في المجتمع الاستعماري لتصوير نفسه وكأنه الضحية، ضحية الوحوش التي تتحرك مستعدة لالتهامه، من هنا تأتي وجاهة فكرة الجدار العازل، فكرة الطرد إلي الدول العربية المحيطة، أو إلي ما ابعد منها، الحياة الآخرة، حيث طرد غولدشتاين المصلين وحيث حطم السفير الإسرائيلي وجه الفلسطينية في عمل درور فيلد. أو فكرة أخري: إخضاع الفلسطيني، بوجهه وتاريخه، للإسرائيلي. ليس بإمكان التاريخ الفلسطيني إلا أن يحاكي ذلك الإسرائيلي. يقول شموليك دوفدفاني في مقاله بيديعوت أحرونوت عن الفيلم: في مجتمع كالمجتمع الفلسطيني لا يزال منغمسا في تأسيس أساطيره البطولية، يعبر فيلم مثل الجنة الآن عن مرحلة الانتقال، إلي المرحلة ما بعد الصهيونية . هكذا يخضع دوفدفاني الفيلم الفلسطيني، الذي يسخر في مشهد من مشاهده من العمليات الانتحارية، للمصطلحات الإسرائيلية، يصفها بما بعد الصهيونية، وهي الحركة التي نشأت في إسرائيل للتشكيك في الروايات الإسرائيلية الصهيونية عن الشعب المختار وأرض الميعاد، كأن المرآة الفلسطينية لا تفهم إلا من خلال الأصل الإسرائيلي. ليس هذا عَرَضا، فعنوان مقال دوفدفاني هو: ثم للفلسطينيين برباش ، والإشارة للمخرج الإسرائيلي أوري برباش الذي كان فيلمه السيد باوم مفتتحا للسخرية من الأساطير الصهيونية المرتبطة بالموت لأجل الأرض وبالعودة وباليهودي الجديد. فالفلسطيني بلا وجه، أما إذا أصر علي وجود وجه له، فسيمكن احتكاره بسهولة لصالح التاريخ والمصطلحات الإسرائيلية، هذا الفعل الاستعماري والنرجسي للإسرائيلي الذي أينما يتطلع يجد المرايا تحوطه، تجسد له ذاته المتضخمة، وتؤكد له محوريته في الكوكب. هنا فقط يمكننا فهم لماذا كتب اسم هاني أبو أسعد، في يديعوت احرونوت وغيرها، وبالحروف العبرية التي تكتب العين ولكنها لا تنطقه، وكأنه هاني أبو أسد، أو هاني أبو أساد. هو محو الاختلاف الدقيق بين منظومة الأصوات الفلسطينية والإسرائيلية، إخضاع الأولي للثانية، وبالتالي إخراس الصوت الفلسطيني، بمعناه الحرفي، صوته الأكثر وضوحا وانتماء له، عبر النقل عن منظومة أصوات أخري، إنكليزية، لا تمت لموضوع العمل الأصلي ولا تهتم بحساسية أصواته العربية. كاتب ومترجم من مصر0