د.علي الصكرموضوعة الشاب الأمريكي الذي عمل كجندي في فيتنام أصبحت الآن مملة بعد أن أكلَ عليها الدهرُ و شرب و تداولتها السينما الأمريكية من شتى الوجوه لتنتج أفلاماً أصبحت الآن من ( كلاسيكيات) السينما في القرن العشرين و ساهمت كثيراً في صياغة صورة ٍلامعة ٍ للفتى الأمريكي المعاصر في الذهن المتلقي حلت محل صورة فتى الكاوبوي الفارس النبيل الذي يلعب بالمسدسات بخفة الحاوي و مهارته. ورغم إختلاف زوايا المعالجة السينمائية لموضوعة الجندي السابق في فيتنام إلا أنها – برأيي – كانت تشترك في إظهار النزعة الإنسانية عنده عبر بعض الاسترجاعات الحزينة لصور الحرب (ورفاقه الذين يموتون من حوله ) و بعض الأزمات النفسية البسيطة التي لا تدعو للقلق و يمكن الشفاء منها سريعاً بتناول بعض الحبوب المهدئة و العودة لممارسة الحياة المدنية الطبيعية . لكن الفتى العائد من فيتنام أصبح الآن كهلاً بل شيخاً و لم يعد صالحاً للتسويق كماركة مسجلة للبطل الذي صُنع في هوليوود في الولايات المتحدة الأمريكية الأمر الذي استوجب انتاج نسخة جديدة . البطل الجديد هو الفتى الأمريكي العائد من حرب العراق. النسخة الجديدة تختلف من حيث التفاصيل عن النسخة القديمة وإن كانت تحمل ذات المعدن النفيس وهي تتناول مفهوم البطولة من منحىً حداثي يستبدل البطولة الجسدية الخارقة و العضلات الرامبوية الخلابة المدهونة بالزيت (بالمناسبة رامبو أيضاً كان جندياً سابقاً في فيتنام) بالذات الحالمة التي تفيض شعراً ولوناً و لحناً . ذلك أن الفتى الأمريكي بل الفتية الأمريكان جميعاً قد آمنوا بربهم وبإنسانيتهم وبواجبهم المقدس وليسوا طلاب حرب. وأنهم هم من يحمل الآن (عبء الرجل الأبيض) الذي حَملّه الشاعر الفكتوري كبلنغ للمستعمرين الإنكليز في القرن التاسع عشر. وها هو أحد رجال المارينز – قرأت عنه في الأسبوع الماضي – يقيم ُ معرضا عرضَ فيه صوره التي التقطها بكامرته الخاصة ويومياته التي كتبها بخط يده عن تجربته في العراق والعلم الأمريكي الشهير الذي حمله معه في دبابته العملاقة بالصدفة فقط (سبحان الله) فشاءت الأقدار أن يكون هو نفسه العلم الذي شاهده العالم بأسره على الهواء مباشرة يُرفع في قلب بغداد معلناً تحريرها من الطغيان وبداية عصرها الذهبي من جديد. بعد عشر سنوات عجاف على التحرير وعلى واقعة رفع العلم الأمريكي (العفوية) الجياشة بالتمام والكمال أقام الفتى الأمريكي معرضه الشخصي ولم ينس التصريح لوسائل الإعلام بأنه مثل أسلافه العظام أبطال الحرب الفيتنامية يعاني من بعض الأرق و الكوابيس ولا ينسى صور (رفاقه في مشاة البحرية الذين ماتوا حوله). وقبل هذا الفتى الذي سجل تحربته نثراً كان هناك فتىً آخر من المارينز سجل تجربته في معركة الفلوجة بعمل أوبرالي أطلق عليه إسم (أوبرا الفلوجة) بعد أن عانى هو أيضاً من بعض الكوابيس المزعجة. الأعمال الفنية المعاصرة – مثل سلسلة أفلام فيتنام – تركز على اظهار معاناة القاتل ولا تعطي للضحية سوى النزر اليسير جداً. والضحايا يظهرون في مشاهد حشود يؤديها الكومبارس دون إظهار ملامحهم الشخصية أما الفتى الأمريكي الذي يحصل على ( الزوم ) كله فهو هنا يأسف لرؤية رفاقه يموتون حوله دون أن يذكر ضحاياه ربما لأنه لم يرهم أصلاً لإنه كان يقتل بقنبلة عنقودية يطلقها بلمسة زر و هو محلق على ارتفاع شاهق أو يطلق عليهم صاروخاً ذكياً – بلمسة زر أيضاً – من قاعدة مرفهة مكيفة في الصحراء و هو ينزل بضيافة أخوتنا وأبناء عمومتنا . لم يتسن َ لي بالطبع زيارة المعرض الذي أقيم في نيويورك ولا الأوبرا التي قُدمت غير بعيد عنه. لكني أتساءل مثل غيري هل يصلح ذلك عزاءً لضحايا الحرب الأمريكية على العراق؟ الحرب التي لا يُعرف لحد الآن بالضبط كم راح فيها من العراقيين. تتحدث الإحصائيات العراقية عن ستمائة وخمسين ألف والإحصائيات الدولية عن مائة وخمسين ألف لكن الجميع يتفقون على أنها الحرب الأكثر عنفأً و دمويةً وغموضاً و كلفةً في التاريخ المعاصر. ولقد قيل أن بغداد وحدها قد تلقت من القنابل والصواريخ ما يفوق قنبلة هيروشيما الشهيرة عدة مرات. و لقد قيل أيضاً أن العراق أصبح بعد هذه الحرب و من جرائها يحتل المرتبة الأولى عالمياً في عدد الأرامل و بالتالي في عدد اليتامى و المعوقين والمفقودين والمهجرين. في مسرحية شكسبير الشهيرة تضع الليدي ماكبث الخنجر في يد زوجها المرتعشة و تدفعه دفعاً لقتل ضيفها الملك دونكان . و لأن العقاب يجب أن يتم على خشبة المسرح و أمام المشاهد حسب تقاليد التراجيديا الإليزابيثية الموروثة عن الإغريق فقد جعلها شكسبير تسير في نومها في جوف الليل و تفرك يديها للتخلص من أثر الدماء مرددة عبارتهاالشهيرة ( إن كل عطور الجزيرة العربية لن تفلح في غسل هذه اليد ) . هاهو أحد جنود أمريكا يحاول بعد عشرة أعوام على المقتلة أن يغسل يديه . لقد بعثت الينا أمريكا بمئة و ثلاثين ألف من ( فلذات أكبادها ) كم من الوقت يلزم ليندم كل هؤلاء . ترى هل سيمتد العمر بنا – و بالسامعين – لنرى – مثلا – الجندي الأمريكي الذي اغتصب فتاة المحمودية بعد أن قتل أفراد عائلتها جميعا أمام عينيها يقيم هو الآخر معرضاً للصور تكفيراً عن ذنبه بعد أن يعاني الكوابيس أو أن نرى المجندة التي ربطت الشاب العراقي بطوق الكلب و رفاقها في حفلات التعذيب الماجنة في سجن أبي غريب يقدمون هم أيضاً سمفونية أو عملاً أوبراليأً عنوانه ( أبو غريب) و هل ستفلح الموسيقى في محاكاة صرخات الهلع و الإستغاثة و العويل و هل يفلح كل ذلك – إضافة الى عطور الجزيرة العربية و بخورها و ندها و عودها و صندلها – في غسل اليد الأمريكية الآثمة ؟ ali_segar@ yahoo. comqmaqpt