الأفندية والسلطة: جدل المثقفين والنظام في مصر

«كلما سمعت كلمة ثقافة تحسست مسدسي»
هانز يوست كاتب مسرحي وضابط نازي

الأفندية

لعل كلمةً لم ترُق للرئيس «المؤمن» السادات، أو تشتهر عنه كتلك حين كان يريد تصغير المثقفين وكيل ما استطاع من التحقير لهم، خاصةً معارضيه الذين تصادف لأسبابٍ عديدة لكنها منطقية، أن يكونوا من اليساريين بأطيافهم؛ يكفي أن الحقيقيين منهم رأوا مبكراً نسبياً وبجلاءٍ يكاد أن يكون مستشرفاً اتجاهه السياسي والاقتصادي وما سيؤدي إليه من مصيرٍ نعيش قسوته ومرارته الآن بأبشع الصور، بالإضافة إلى انحيازه الاجتماعي الواضح ضد الفقراء، الذين تدل كل الشواهد التاريخية على كونه جاء من وسطهم، أو قريبا منهم بشدة، وما قُتل بحثاً منذ رحل عن عالمنا عن الكم المذهل من نقمته على وضعه، نشأته ولونه، مما يكاد أن يقارب ازدراء الذات وهو ما شكل ملامح شخصيته وحكم قراراته لاحقاً، كما يُذكر له أيضاً أنه في معرض تهديد أحد مناوئيه يوماً (لا تسعفني الذاكرة بمن يكون الآن) لوح بأنه سيطلق عليه «كلاب الصحافة»، أي كتبة النظام الذي يؤمرون فيطيعون، تارةً ينبحون على السوفييت الذين كانوا حلفاء الأمس، وتارةً على القذافي إلخ، وكل ذلك إنما يؤكد النظرة المتدنية التي كان يكنها للمثقفين وحملة القلم ومعتنقي الأفكار.

صراعٌ مستميت بين من يمسكون بالعصا ومن لا يزالون يتشبثون بالقلم، حيث يناضل الأولون لتسود جهالتهم متسلحين بقناعة أنهم سيثبتون للجميع في النهاية أنهم يفهمون أكثر من «الأفندية بكتبهم وفذلكاتهم»

إلا أنها في التحليل المتعمق الهادئ، البعيد عن الحماس والصياح والشجب، نظرة منطقية تماماً ومتسقة مع رؤية وطبيعة هذا النظام، مذ أسس ومع طبيعة السادات، شخصاً وتكويناً ذهنياً ونفسياً، فهذا النظام لم يقبل بالمشاركة أو الندية، وسوى التبعية فلا حيز للوجود، فقد ضرب كل معارضيه وسحقهم، واعتقل تياراتٍ وتنظيماتٍ سياسية بأسرها، ولم يكتف بتأميم المصالح الاقتصادية والسياسية، بل أمم الصحافة والرأي أيضاً، وفي فتراتٍ بعينها، حين كانت الظروف تسمح، احتكر الخبر والمعلومة.
كُتب الكثير عن هذه العلاقة المعقدة مع المثقفين، مما لا يتسع له مقالٌ كهذا، لكن يكفي أن نؤكد هنا أن النظام صار ينظر إلى المثقفين والصحف نظرة وظيفية، كوسائل وسبل لترويج دعايته، وفرض هيمنته الفكرية والسياسية، وتسييد سرديته وروايته للأحداث، وقوته الناعمة عربياً، حين كان في الصدارة، ما رسخ أكاذيبه وادعاءاته من عينة «أقوى قوة ضاربة في الشرق الأوسط» وصواريخ القاهر والظاهر إلخ، حتى جاء الامتحان والتحدي وساعة الحقيقة، فتهاوت في لمح البصر كقصور الرمال. لم يكن النظام الذي أنشأه الضباط يتحسس من ويرفض أي صوتٍ آخر، في السياسة أو الرأي فقط، ولم يكن على استعداد لإطلاق كل ما لديه من أدوات الإهانة الفظة والقمع الخشن فحسب، بل كان يطالب بالعمالة المباشرة له، ولو استطاع القائمون عليه لفتشوا في النوايا، وكشفوا عن الصدور ليتأكدوا من الولاء التام للنظام، أياً كانت سياساته.

أنا أفهم أكثر منك

لكن الملاحظة اللافتة، المصاحبة، هي حرص هؤلاء الضباط، الطفولي جداً في الحقيقة، على إثبات أنهم أيضاً يفهمون ومثقفون، فيخبرنا مثلاً مالكوم كار في كتاب «الحرب العربية الباردة» كيف كان عبد الناصر أثناء الاجتماعات مع قيادات حزب البعث عقب الانفصال يُصر على التفيقه، ومحاضرة قيادات الحزب، وفيهم المثقفون والمنظرون الكبار كصلاح البيطار مثلاً عن الاشتراكية كمُدرسٍ يعلم تلاميذ بتعالٍ، محيلاً إياهم إلى الميثاق، كما لو كان الوثيقة الفيصل التي لا يأتيها الباطل من بين يديها، مع أننا نستطيع أن نجزم يقيناً بأنهم، بخلفيتهم التعليمية والنضالية وحياة بعضهم ودراستهم في الخارج، يعرفون في الاشتراكية وأدبياتها (وما يندرج تحت مسمى الشأن الثقافي، بصفةٍ عامة) أفضل من عبد الناصر، والسادات يكتب كتباً عن الثورة و»يا ولدي هذا عمك جمال». هم يحرصون، لا نعلم أعن حسدٍ أو غيظٍ أو رغبةٍ في حيازة مكانٍ ما، أو كل ذلك مجتمعاً، على أن يعدوا في عداد المثقفين.

الجهل المناضل
لكن الأمر تطور إلى حيث وصلنا الآن، حيث تُصر قيادات النظام وضباطه على الحديث والإدلاء بآرائهم والفتيا في ما لا يفهمون (وهم لا يفهمون تقريباً في شيء) والتبجح بالجهل. يبدو أن التدهور وصل حداً لم يعودوا معه يكترثون بوقع كلامهم ولا بفضائحهم. مسلحون بثقةٍ في النفس يحسدون عليها ووحده الله يعلم مصدرها تجدهم يأتون بالعجب العجاب. هو جهل، بكل ما قد يحتمله من تبجح، لكنه نضالي، أي أنهم يتحدون المثقفين ومن لديهم علمٌ بحق؛ كأن لسان حالهم يقول «لا قيمة لعلمكم وثقافتكم! نحن نفهم أكثر منكم»، كأنهم يحاربون أو يخوضون نضالاً، بتفانٍ، ضد الثقافة والمعرفة وتراكمها والتفكير النقدي المستقل، أو كأن ثأراً يحكم علاقتهم بالثقافة والمثقفين، ولعل التفسير المنطقي لذلك هو الشعور الغريزي بالخوف ممن يستطيعون فضح زيفهم وإفلاسهم. هم لا يحتاجون لأحد، بل سيعلمون الكون، قافزين على المراحل ضاربين عرض الحائط بالمنهج العلمي ووسائله؛ كما يبدو أن تلك الندية قديمة وعابرة للتيارات الفكرية والسياسية، ولما بت أزداد قناعةً بأن المشاكل النفسية الاجتماعية ومركبات النقص المتغلغلة عميقاً في الذهنية والحالة النفسية الجمعية، تلعب دوراً أساسياً في تشكيل الواقع والاختيارات، بل في عرقلة التقدم، فقد وصلت إلى خلاصة أن «أستاذية العالم» التي اشتُهر بها الإخوان المسلمون مطلبٌ نفسي عميق تمليه الذات الحضارية العربية الجريحة ورغبتها، بل شوقها واحتياجها للتعويض. أتحفنا السيسي بعبد العاطي وجهاز الكفتة القادر على علاج كل شيء، ولما افتضح الأمر، وصار جرسةً لها صدىً عالمي، تعامل معها بأسلوبه المفضل، التجاهل. الآن، نجم الجهل المناضل الأول هو الوزير عباس كامل الذي يصر على تعليمنا وإثرائنا ثقافيا، إذ أفاض علينا بالفارق بين impossible وهي معروفة وipossible التي لا نعرف من أين جاء بها إلا أنها تفضح جهلاً جهولاً بالإنكليزية، لا تملك إزاءها إلا أن تتساءل: لما كانت عربيتك رديئة، فلماذا لا تصمت عوضاً عن أن تتفلسف؟! والآن يعملنا الاقتصاد في مقابلةٍ له، بفكرة لوذعية عن كيفية تصنيع الدولار. لكن للأمانة إن كان «ربه ومعلمه» يخاطب الذات العلية ويجري حواراً مع الله فيه أخذٌ ورد، فما تصريحات كامل الوزير سوى «لعب عيال» إلى جانبه.
مع طبيعة النظام العسكري في مصر وتراتبيته والأسلوب والاختيارات المتبعة للترقية، صرنا نشهد عياناً بياناً، مدى التردي في مستوى نوعية الضباط، ذكاءً وعلماً وإدراكاً وثقافة، مما ينسجم مع ما تشهده مصر من انهيارٍ عام، والشاهد أن المؤسسة العسكرية وعلى رأسها السيسي، إذ استعادت الصدارة في كل شيء، كأنها تنتقم، فردمتنا بموجةٍ جديدة من الجهل والتجهيل في صورة ضباطٍ جهلةٍ متعجرفين أفظاظ يتولون كل المناصب ويمسكون بمقاليد كل شيء.
صراعٌ مستميت بين من يمسكون بالعصا ومن لم يزالوا يتشبثون بالقلم، حيث يناضل الأولون لتسود جهالتهم متسلحين بقناعة أنهم سيثبتون للجميع في النهاية أنهم كانوا على حق طيلة الوقت وأنهم يفهمون أكثر من «الأفندية بكتبهم وفذلكاتهم». وحده تدخل جموع الناس من شأنه أن يعيد الأمور إلى نصابها حيث يتقدم أناس لديهم علمٌ حقيقي لإصلاح ما أفسده القمع والجهل، لكن للأسف فإن بوادر هذا لم تحدث بعد. حتى ذلك الحين، سيستمر هؤلاء المسؤولون في جهلهم المناضل وعبثهم ذاك، ليرحمنا الله فالأمر تخطى الطُرافة والتسلية!
كاتب مصري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية