في كل عام وفي بداية شهر يناير/كانون الثاني أو منتصفه، على أبعد تقدير، تعلن الجائزة العالمية للرواية العربية، أو البوكر العربية قائمتها الطويلة، التي تضم ست عشرة رواية مختارة، من روايات غالبا تتعدى المئة، قدمت إليها في ذلك الموسم.
ومنذ عامين فقط باتت تعلن أسماء لجنة التحكيم، التي كانت لا تعلن إلا مع القائمة القصيرة، في الأعوام الماضية، وهذا الإجراء الجديد، يعد إضافة وتحديا في الوقت نفسه، في أن الجائزة ستظل نزيهة وهي تمضى لتختار القائمة القصيرة، رغم أن لجنتها معروفة، وأتوقع في المستقبل أن تكون الأسماء معروفة منذ البداية، أسوة ببعض الجوائز الأخرى العربية، مثل جائزة نجيب محفوظ، للرواية، التي تنظمها الجامعة الأمريكية في القاهرة، وجائزة الملتقى للقصة القصيرة، التي أطلقت في الكويت منذ ثلاث سنوات، وترسخت كواحدة من أنجح الجوائز في الوطن العربي، وأظنها خلقت لكتاب القصة القصيرة، جوا من القلق الإبداعي، كانوا يفتقدونه، مع وجود ذلك الجو الخاص بالرواية والشعر، خاصة أن هناك مبدعين كبارا بدأوا بالقصة القصيرة، واستمروا بها، وحققوا أمجادهم فيها، ولم يتركوها شبرا ليعلقوا بدرب الرواية، هنا تصبح جائزة الملتقى، مكافأة سخية لهؤلاء.
ولأن الجائزة، أعني جائزة الملتقى، كما قلت ابتكرت للقصة القصيرة، وتشبه كتاب القصة الحصريين، إلا أننا لا يمكن أن نمنع الروائيين الذين يكتبون القصة أحيانا، من المشاركة بنتاجهم فيها، وهؤلاء الذين أعدهم محظوظين، يمكنهم أن يشاركوا في مسابقات الرواية والقصة معا.
موضوعي ليس لمناقشة قائمة البوكر الأخيرة التي أعلنت منذ أيام، وهي قائمة اختيرت بناء على آراء لجنة التحكيم، وقد تكون الخيارات صائبة جدا من وجهة نظر محكميها، وبالطبع يمكننا الجزم أن هناك روايات لا تشملها القائمة، كانت تستحق الدخول أيضا، هي أقوال مكررة نرددها دائما، ويرددها غيرنا، وقد قرأت عن جائزة غونكور الفرنسية المعروفة مثلا، تقريرا عن الدورة الأخيرة، ذكر روايات عديدة لكتاب كبار، احتفى بهم القراء والنقاد على حد سواء، ولم تشملهم حتى القائمة الطويلة من بينهم، جيروم فيراري، الحاصل على الجائزة من قبل. وأذكر أيضا أن الكاتب الأمريكي الراحل فيليب روث، كان حصل على جائزة كبرى، ربما كانت بوليتزر، وأغضب ذلك محكمة في اللجنة، من الواضح أنها لا تحب عمله، وتغلبت عليها بقية الأصوات، لتعلن في تصريح لها، إنها لم تصوت ولن تصوت لهذا الكاتب.
يتعامل التحكيم مع نصوص، يغربلها للحصول على أفضلها من وجهة نظر المحكم، ثم يغربل الأفضل، ليحصل على القائمة النهائية، ثم الفائزين الذين قطعا يرضون بعض القراء ولا يرضون البعض الآخر.
ونقول دائما إن التحكيم يتعامل مع نصوص، يغربلها للحصول على أفضلها من وجهة نظر المحكم، ثم يغربل الأفضل، ليحصل على القائمة النهائية، ثم الفائزين الذين قطعا يرضون بعض القراء ولا يرضون البعض الآخر، هو جدل لن ينتهي في كل مسابقة، حتى لو كانت مسابقة صغيرة جدا، ولا ينال فيها الفائز سوى شهادة تقدير من الورق، تشيد بقصته أو قصيدته. المهم حقيقة في موسم الجوائز، هو تبعاته المهمة، أولا التوتر الحاد الذي يشمل الساحة الثقافية، ومعروف أن تلك الساحة بالذات، راكدة في معظم حالاتها، وبعيدة تماما عن التوتر، وحتى الندوات الأدبية، وحفلات تدشين الكتب لا تأتي إلا بمن تجمعهم بالمبدع صداقة، ربما تكون بعيدة تماما عن الكتابة، وربما تكون زمالة في عمل، يأتي بموجبها الزميل ليشاهد ابتسامة زميله عريضة على وجهه وهو يوقع كتابه، وأيضا يستلم نسخة موقعة من الكتاب قد ينساها في مكان ما، وقد تركد في بيته سنوات طويلة من دون أن يمسها، وإن صادف واشتهر زميله الكاتب، سيجد ذلك الإهداء الذي كتبه له، طريقه إلى مواقع التواصل الاجتماعي، نوعا من التباهي بتوقيع لشخص معروف، لا أقل ولا أكثر. القراءة أيضا، ذلك الفعل الذي نشكو من ندرته كثيرا، وبتنا نشكو أكثر مع تفاقم الأزمات الاقتصادية وعدم الاستقرار لشعوب كانت قارئة في ما مضى، والآن كل همها أن تعيش، وأن تهاجر من أوطانها، وأن تحلم بمستقبل أفضل. في هذه الحالات، لن نتعشم في شخص يشتري كتابا بجزء من مرتبه، كان من الممكن أن يشتري به خضارا أو فاكهة، ولن نتعشم في قارئ يتصفح كتابا وهو مهموم ولا يدرى إن كان سيحصل على لقمته في الغد أم لا؟
أقول إن موسم الجوائز، سيشكل تحديا لأولئك القراء المنشغلين بأعباء الحياة، ويجعلهم رغم كل ذلك يحاولون اقتناء الكتب التي دخلت قوائم جوائز ما، وربما تكون هذه الكتب فقط، هي قراءتهم في العام كله. وحتى بالنسبة للقراء المقتدرين، أي الذين لن تتأثر حياتهم بشراء الكتب، سنجد بينهم قراء موسميين، وأعرف أصدقاء يقرأون في كل عام كتب القائمة القصيرة للبوكر فقط، وتشكل محورا في أحاديثهم حتى الموسم المقبل، وبعضهم يحرص على تجميع كل ما قيل عن تلك الكتب، ويشارك في أي نقاش يخصها.
أتحدث عن سرية التحكيم وعلانيته، وكنت شاركت في لجان سرية وعلنية في عدد من الجوائز، وحقيقة أفضل أن يكون التحكيم سريا حتى آخر جزء من عمل الجائزة، مثلما يحدث في جائزة كتارا، وجائزة الطيب صالح للإبداع الروائي، ليس بسبب عدم شفافية قد يحدث، أو استجابة لضغوط تمارس على المحكم العلني لاختيار شخص ما، وإنما بسبب الإزعاج المرهق الذي يتعرض له المحكم، خاصة أن التكنولوجيا الحديثة تستطيع إيصال حتى الهمسة لمن أطلقت في حقه، سنجد كثيرين يتصلون ويسألون، ويقترحون، وحتى يتوددون أو يضغطون بشراسة من أجل جائزة. أنا أثق كثيرا في المحكم، أنه يصمد لكل ذلك، وفقط سيحس بكثير من التعب وهو يواجه طوفانا من اللامعقول يركض إليه، الإبداع جذوة مشتعلة تستحق التكريم طبعا، والمبدع دائما يحس بأنه لم يقيم ولم يكرم جيدا، وغالبا سيسعى بكل الطرق لينال ما يظنه حقا من حقوقه.
٭ كاتب سوداني