الجوهر والشكل

تكشف الأنساق الثقافية تجارب إبداعية متعددة ومختلفة، راهنت على نقد الواقع المرير ضمن ما عرف بـ«الديستوبيا» على نحو ما نجد في رواية «1984» لجورج أورويل George Orwell حيث يهيمن «الأخ الأكبر» المجسد لتفاهة الشر، بتعبير حنا آرندت Hannah Arendt ، الأخ الأكبر تبعا لتسمية جورج أورويل ضحل وجاهل ويفتقر إلى الصفة الإنسانية، يهيمن على كل مجربات الحياة العامة، وتفاصيل الحياة الخاصة، وربما يمكننا استبدال المرجعية الأيديولوجية المشكلة لمتخيل العمل الروائي «1984» بسطوة الشركات متعددة الجنسيات، والليبرالية المتوحشة التي تسعى اليوم إلى تجريد الإنسان من إنسانيته ومحاصرته بوسائل الحراسة والرصد، خاصة منها الرقمية، لأن الأهم لديها هو إلغاء العقل وتسطيح الوعي، ونشر التفاهة، وتعميم العماء، وزيادة منسوب الخوف والرعب.
وبموجب ذلك فإن هذه السطوة ستجعل أعداد الناس المرضى في تزايد؛ والأولوية – وفق هذه الأنساق – ليست لتوفير شروط الحياة البسيطة، بل لزيارة الطبيب النفسي، وتقييد حرية المريض عبر التزامه بالبرنامج العلاجي. قد ينتج عن هذه الممارسات رُهاب الحياة العامة، ومحدودية السفر، والعزوف عن ولوج الفضاء العام، والمناسبات الاجتماعية والأعياد وغيرها من مظاهر فن العيش في ميسمه الأنثروبولوجي والثقافي.
يُحَقِّقُ الفضاء العام بوصفه وسيطا بين الذات والعالم الوساطة والمواءمة بين مكونات المجتمع، تتشكل فيه الرؤى والمواقف، ويتم في رحابه التباحث والنقاش بين الناس بما يَسْمَحُ بتَشَكُّلِ القيم المَدنية، والإعلاء من التسامح والتماسك الاجتماعي. ويترجم الفضاء العام رغبة الذات في تأكيد وجودها بالفعل لتشكل من جديد باراديغم المعرفة بنفسها وبالعالم، وفق هذا الراهن وما يهدده (العدم الأسود).
كيف يمكن للطفل أن يدرك ما ليس في معهود وعيه وتعلمه، وأنماط سلوكه، وأن يتقبل قوانين صارمة جديدة لم تعمل مختلف المؤسسات (المدرسة، الأسرة..) على تفسيرها وتبسيطها، وجعلها من أولويات فن العيش؟ بعد فقدان الخُلاَّن، وحِلْيَةُ الأصفياء، مشكلات محورية نصادفها كل يوم، ولا نجد لها جوابا بصيغة قطعية. كل شيء قابل للتحول والفقدان، والاختلال، ولا مدخل لضمان الحياة وفق ما كانت عليه، قبل سطوة «العدم الأسود» على معهود فن العيش. ينبغي إذن إعادة تسمية الأشياء وفق علاقاتنا الجديدة بالمؤسسات الاجتماعية والرمزية، لتأسيس فهم جديد في ما يبدو عشوائيا، وغير معلوم، ومحاولة تأسيس معرفة – تدعي أنها عقلانية – لرصد مرجعيات ومآلات الأحداث والوقائع. لأن الأساس الآن هو العبور من الخوف إلى الأمل، ومن خطاب النهايات وموت السرديات، والمرجعيات، وضعف الهويات الثقافية، وهيمنة السوق الرقمي المفتوح، إلى ممكنات الحياة الفسيحة.
إن الأمل في تنظيم الحياة من جديد ربما سيتجدد على نحو مغاير وفق مستجدات فن العيش والقوانين الجديدة، والسعي إلى تحقيق مصالحة شاملة مع الفضاء العام، والاتجاه عكس ما هو سائد ومهيمن، أي الاتجاه نحو الأمل والخروج من القوة إلى الفعل، والتخلص من رُهاب الأرقام وشَقِّ طريق الحياة من جديد. إن الأمر شبيه بإمساكِ فرس حَرُونٍ يَرْفُضُ الانْقِيَاد. وكأنه انتظار أسطوري لعودة «ديونيزوس Dionysus « إلى ساحات أثينا، وتحقيق النصر على ظلال الموت. وبعيدا عن نَعيب الجوقة المُمَجِّدَةِ لتراجيديا الفراغ والمصلحة الخاصة، فإن الرغبة في ارتفاع منسوب المَحَبَّةِ سَتَزْدَاد، والأمل في التَّخَلُّصِ من الوَضع الهَشِّ سَيَزدَاد كل يوم، وحتما فالدعوة إلى الاحتفال مجددا سَتُجَرِّد الرُهَاب من بريقه، وكما قال الحكيم أرتور شوبنهاور Arthur Schopenhauer» العالم هو من امتثالي».
التوجه نحو الأمل يتساوق مع نقد العقل الذي أفرط في ثقته في منجزه، ومركزية الوجود، وتعاليه عن الميتافيزيقا، والرغبة في تأمل دوائر الفلسفة مند بواكير سقراط، والإرث التنويري، وفلاسفة الارتياب، ومفكري الاختلاف، وصولا إلى ما سمي بفلاسفة» ما بعد الحداثة». إن الأمر يقتضي امتلاك إرادة التأويل واستثمار المرجعيات المعرفية بغية رصد هذه المعرفة بوصفه فعلا تداوليا، هذا الملمح قد يساهم – في تقديري- في كشف فاعلية التفكير الفلسفي بعيدا عن الوصايا الأيديولوجية، أو خطاب العزاء الذي يُعَجِّلُ بموت الفكر الإنساني لصالح العدم. إن النزعة السوفسطائية الجديدة التي تعلي من خطاب الحداد وصفا وتفسيرا مردها سطوة الدوغمائية، وغياب أصالة التفكير، والقبول بالجاهز والعابر النابع من المرافعات السياسية، وربما تسعفنا الفيلولوجيا وطاقتها المدهشة على الفهم والتفسير، ونسبيتها المؤثرة في الاتجاه نحو تأصيل الفكر وحصر مجالاته من جهة، وإنجاز خطوات نحو المستقبل من جهة اخرى، بغية اتساع دوائر هذا التفكير بوصفه استعارات رفيعة للفن ولمختلف تمظهرات الحياة.
تسطيح الوعي استراتيجية طويلة الأمد تفضي إلى تمجيد الشكل بدل الجوهر، وجعل العلوم الإنسانية والفنون التعبيرية تخصصات جامدة مجردة، معقدة، مخصصة للنخبة الفكرية، والسعي إلى تحويل إقامتها في المتحف بوصفها أثرا تشكل في الماضي، لأن العلوم الإنسانية والفنون التعبيرية لم تعد مساهمة – وفق أطروحتها – في العيش بشكل جيد، لأن الأهم هو اقتصاد السوق، ومؤشر الربح، وليس الرأسمال الرمزي، والقيم.
ما الفائدة التي يمكن أن تشكلها المعرفة إذا لم تكن مفيدة لنا في الحياة اليومية؟ هذا السؤال الذي قدمه الفيلسوف الفرنسي بيير هادوت Pierre Hadot يجزم بأن العالم خسر أمورا كثيرة حين تخلى عن الفكر، وأصبح مجرد نشاط نظري لا أكثر. إن الفلسفة ليست مجرد نظريات قديمة، وأبنية ذهنية، مرتبطة بمؤسسات مثل الجامعة ومراكز البحث، بل طريقة لتنمية فن العيش، وهذا ما يبرر أطروحته الرئيسية: «الفلسفة بوصفها أسلوب حياة». وعلى الرغم من بساطة هذا التصور، (وهي بساطة مذهلة) فإنها تخفي التباسات وأسئلة إشكالية حول اقتراح العيش فلسفيا. ولا يرتبط الأمر بالدعوة إلى التفلسف فقط، بل بتغيير النظرة إلى العالم والذات الإنسانية، وإلى مشاعرها، وتجاربها الوجدانية، وتجارب السفر، والتخييل في الكتابة والفنون المشهدية، وتشييد معرفة بالحياة.
الفلسفة هي إبداع المفاهيم تبعا لمنظور فريدريك نيتشه Friedrich Nietzsche، ووريثه جيل دولوز Gilles Deleuze، وهي في الآن نفسه نسغ للحياة في ما يشبه النشيد البطولي لديونيزوس. وقد عرفنا الفيلسوف من خلال أسلوب عيشه، وتصرفه وفقا لأخلاقيات الوجود. وكما قال المؤرخ اليوناني بلوتارخ Plutarchus صاحب كتاب «الأخلاق» «إن الممارسة اليومية لسقراط هي فلسفته الحقيقية». وبالعودة إلى هيراقليطس Héraclite فإن كل الأشياء تتغير، ولا شيء يبقى على شاكلته الأولى، وهذا التغيير هو ما يمنح العالم تناغمه. كل شيء يتغير اليوم، الأسماء، الأماكن، المدن، العمل، الطبقات الاجتماعية، بل إن الكثير من شركات «الميديا» تقدم استشارات وبرامج وخدمات تقنية لتحقيق (التغيير الشامل) لإحداث ما يسمى بالتفوق والابتكار في مجالات مختلفة. وهذا الأمر هو ما يفسر نشر الناس لأشكال التغيير في تسريحة الشعر، الجسد، الملابس، المسكن، الوسط الاجتماعي.. (على سبيل الذكر لنتأمل مشهدا مؤثرا يقدم مراجعة لمنتوج إلكتروني جديد، نشاهد جلوسه في مكتب مريح، غرفة مغلقة، أضواء قوية، ورفوف فارغة من الكتب، وحتى المشاهد الخارجية التي تبين جودة المنتوج الإلكتروني تركز على فضاء إسمنتي، لتكشف تباين الإضاءة وتدرج الألوان، محاولا الابتعاد عن تصوير الأشجار التي تعجز الكثير من المنتوجات الإلكترونية عن كشف ارتعاشها وإحساسها. إن تجريد المكان من بعده الإنساني، وتحويله إلى مجرد محتوى إلكتروني فارغ هو رهان صانع المحتوى.
الحياة اليوم في مأزق كبير، لكن كيف نفكر في أشكال التغيير في معهود الحياة، والعمل؟ وكيف يمكن للفكر أن يساعد في فهم الخطوات المختلفة لهذا التغيير في مناحي الحياة؟ وهل تمتلك الإنسانية اليوم شجاعة حقيقية لاستعادة أصالة الوجود الإنساني، والدعوة إلى ما سماه ميشيل فوكو Michel Foucault بتحريض الناس على الاهتمام بأنفسهم، عبر استعمال الفكر بوصفه اختبارا للحياة، واختبارا للوجود، وتطورا لأسلوب معين في الحياة.

كاتب مغربي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية