الجيش والليكود: الديمقراطية العسكرية الصهيونية على محك الحرب 

وسام سعادة 
حجم الخط
0

قامت السردية الإسرائيلية على استيحاء أسطورتها السياسية من النموذج الأثيني القديم أكثر مما قامت على محاكاة أيّ من النماذج المستلّة من أسفار الكتاب المقدّس “التاناخ” والموزعة بين تجربتي “حكم القضاة” و”حكم الملوك” وما تنامى بازائهما من “مرجعية الكهنة”.
بعيداً من ثلاثية “القضاة والملوك والكهنة” هذه، التي اتسمت اجمالاً في العهد القديم بالاحتقان في معظم الأحيان مع “النبيين” المتشائمين والمنذرين، قامت إسرائيل على سردية التشبّه بالنموذج الأثيني، من حيث أنه “ديمقراطية” لها طابع عسكريّ.
فالديمقراطية الأثينية لم تكن فقط حكم الجمهرة من المواطنين الأحرار الذكور في التئامات “الاكليزيا” في ساحة “الآغورا” ولم تكن فقط حكم اللجوء إلى القرعة لتعيين مواطنين للمهام الضرورية لتسيير حال المدينة – الدولة بين اجتماعين شعبيين. كانت أيضاً نموذجاً يهيمن عليه العسكر، بدءاً من قائد الجيش، “الاستراتيجيوس” الذي كان، كما في حالة بيريكليس خطيباً مفوّهاً أيضاً.
هل معنى هذا أن إسرائيل هي بالفعل “جيش له دولة، لا دولة لها جيش” كما اشتهرت المقولة؟ هذه المقولة هي بالأساس لوصف مأثور عن المملكة البروسية من أنها “ليست بلداً، بل هي جيش له بلد”. وقد انتشرت هذه المقولة قبل قرن تقريباً من تمكن بروسيا من تحقيق الوحدة الألمانية لعام 1871 تحت قيادتها. الفارق هنا أن بروسيا التي آثرت في النصف الثاني من القرن الثامن عشر تجربة “الاستبداد المستنير” قبل أن تتحول إلى واحدة من القوى المحافظة بازاء الثورة الفرنسية والامبراطورية النابليونية، لم تكن تطرح نفسها كقوة ديمقراطية، بل على العكس من ذلك، وقفت بروسيا ضد الوحدوية الألمانية في ثورات 1848 عندما كان لهذه الوحدوية مضمون شعبي ديمقراطي، وآثرت في المقابل فرض الوحدة الألمانية بالقوة في سلسلة حروب مع الدنمارك والنمسا وصولا إلى الحاقها الهزيمة بفرنسا.
بعد ذلك، في ظل الوحدة الألمانية المتممة بالقوة، بات ملوك آل هوهنتسولرن أباطرة، إنما على رأس نظام ينتخب فيه البرلمان، الرايخستاغ، بالاقتراع العام المباشر، دون أن يكون في الوقت نفسه سلطة تشريعية بشكل فعلي، بل أقرب ما يكون إلى الهيئة الاستشارية.

السردية الإسرائيلية

تحرص السردية الإسرائيلية على عدم التعرف على نفسها في مرآة النموذج البروسي، وهو النموذج الذي شغف به القوميون العرب، لا سيما في العراق، أيام فيصل الأول وغازي، وأملوا بأن يكون هذا العراق، رغم كونه كيان مشكل بقرار استعماري بريطاني، “الإقليم القاعدة” لقيام الوحدة العربية، محاكياً التحقيق البروسي للوحدة الألمانية “بالحديد والنار”. ومن وقتها أخذت القومية العربية تعيش دراما البحث عن “بيسمارك عربي” وانضافت هذه على دراما “البحث عن مارتن لوثر” مسلم، على صعيد حركة الإصلاح الديني.
إسرائيل فضلت بدلاً من ذلك محاكاة النموذج الاغريقي. لم تقدّم نفسها على أنها اسبرطة حيث حكم الأريستوقراطية العسكرية بل أثينا، بمعنى الجمع بين مشاركة المواطنين في تقرير الشأن وبين الطابع دور للجيش أكثر توطداً مما في أي نموذج ديمقراطي غربي.
لماذا؟ ليس فقط نظراً لمدى الخدمة العسكرية، والحيثية المديدة للبقاء في الاحتياط فيها، وكثرة الانتقال من قيادة الأركان إلى العمل السياسي فيها، بل لأن الجيش في إسرائيل هو الذي يقرّر فعلياً حال الحرب وحال السلم بالدرجة الأولى، وليس السلطة السياسية، ولأن نموذجه قائم على ضرورة التصرف في كل وقت كما لو كانت الحكومة غائبة. بالطبع هو يفضل أن تكون الحكومة موجودة، ومواكبة، وتسهل عليه الأمور، لكن نموذجه قائم أساساً على الاستعداد لغيابها.
في كتابه “جيش ليس كأي جيش” يشدد حاييم بريشيت زابنر على مركزية الجيش لفهم التجربة الإسرائيلية ويربط هذا بمعنى الديمقراطية في إسرائيل. فهو لا ينفي دلالتها بالمطلق، وإنما يحصر دلالتها بأنها ديمقراطية تشترط أن تكون يهودياً كي تنال كل حقوقك المدنية. هي ليست ديمقراطية لليهود فقط، وإنما هي ديمقراطية ينال فيها المواطنون اليهود الأشكيناز كامل حقوقهم المدنية، ويجهد غير الأشكيناز من اليهود لتحصيل هذه الحقوق، في حين يشارك غير اليهود في الانتخابات والبرلمانات من دون الحقوق المدنية الفعلية كاملة.
التشبيه الذي يعمله بريشيت زابنر هو مع نموذج الغيتو. عنده أن إسرائيل واجهت نموذج الغيتوات المشتتة في “المنفى” بنموذج الغيتو الحديث، الصناعي، المعسكر. لأجل هذا، وإذا كانت السيادة هي تقرير حال السلم وحال الحرب قبل أي شيء آخر، يمكن القول إن السيادة في إسرائيل هي للعسكر.
يقوم تسويغ هذا المدى الذي يشغله دور الجيش في إسرائيل على فكرة أنها قامت وسط محيط معاد لها. المفارقة أن هذه الفكرة تناقض هدفاً توخته الحركة الصهيونية في لحظة تأسيسها، وهي أن يسهم قيام الحل الكياني للمسألة اليهودية في تخفيض العداء لهم.

عسكرة مديدة

قامت كل فكرة ثيودور هرتسل أن الحل الوحيد لتفادي اللاسامية ومن ثم لتجاوزها هو في أن يقيم اليهود كياناً دولتياً لهم، وعلى الطراز الأوروبي، إنما خارج أوروبا، وهذا سيتكفل بدوره في تبديد معاداة السامية.
لكن الدولة العبرية قامت في المقابل على أساس جذرية معاداة المحيط لها، وأن هذه المعاداة تفرض عليها عسكرة مديدة، ولو أنها أقنعت نفسها بأن التأليف المنهجي والعميق بين الديمقراطية وبين العسكرة يمكن تحقيقه والمحافظة عليه جيلاً في إثر جيل.
الإحالة هنا لأثينا القديمة. إنما للتحديد أكثر للديمقراطية العسكرية الأثينية كما تظهر في “تاريخ حرب البيلوبونيس” لثوكيديدس، من خلال الحوار الذي تخيله المؤرخ بين الجنرالين الأثينيين وبين قادة مدينة ميلوس المحاصرة. أراد سكان جزيرة ميلوس البقاء على الحياد في الحرب بين أثينا واسبرطة. شيء يشبه وضعية أبو مازن في الحرب اليوم. لكن جنرالات أثينا جاءوا يخيّرون أهلها بين التسليم أو الدمار. اللافت أن الحوار كما يتخيله ثوكيديدس لا مكان فيه للتذرع بالأخلاقيات. لا من قبل المحاصر الأثيني ولا من قبل أهل ميلوس. الأثينيون في هذا الحوار لا يتباهون لا بحريات مدينتهم، ولا بمقاومتهم للفرس. جل ما يقولون أن الأقوى يقرر، والأضعف عليه أن يذعن. وبدورهم، قادة ميلوس لا يتوسلون قيماً أخلاقية. وإنما ينصحون الأثينيين بأن تدمير مدينتهم سوف يدفع بقية المدن المحايدة للانضمام إلى الحلف الذي تقوله اسبرطة. في النهاية، وبعد أشهر من الحصار ينجح الأثينيون في الاستيلاء على ميلوس. يقتلون جميع البالغين من ذكورها، ويسترقون النساء والأطفال.
بقي لغزاً لماذا حرص ثوكيديديس على جعل “حوار ميلوس” يفتقد إلى الرحمة، والى أي تسويغ للفعل بأي قيمة أخلاقية، وهل أن ذلك يرتبط عنده مع إشارة إلى انحطاط نموذج “المدينة” في أثينا، بفعل الحرب، أم أنها واحدة من سمات الديمقراطية العسكرية نفسها؟ حين قال سكان ميلوس أنهم سيفوضون أمرهم لآلهتهم في نهاية الأمر، أجابهم الجنرالان الأثينيان في الحوار بأن الآلهة كما البشر لا تحترم غير القوة.
هل يمكن أن تكون الديمقراطية عسكرية دون أن تكون عدوانية، بل أكثر عدوانية من استبداد غير ديمقراطي؟ هذا سؤال لا ينحصر باسرائيل.
في نهاية المطاف، الديمقراطيات الغربية في التاريخ الحديث، التي لم يكن في أي منها للعسكر هذا الشأو والمركز الذي له في إسرائيل، لم تكن ديمقراطيات مسالمة، بل امبريالية وعدوانية لمراحل بكاملها. لا يمكن القول أن بريطانيا العظمى كانت دولة لجيش، ومع هذا ديمقراطية الوستمنستر فيها لم تتناقض مع امبريالية واسعة النطاق. فكرة أن الديمقراطية مسالمة بالفطرة وإحدى الأوهام الليبرالية. ليس معنى ذلك أن الديمقراطية عدوانية بالفطرة في المقابل، إنما هذه العدوانية يمكن تبرر نفسها بهدفين حماية الديمقراطية، وهذه ستزداد كلما انساقت هذه الديمقراطية في خطاب أنها الوحيدة بين أشرار.

دولة لجيش

ما يرتبط بإسرائيل بشكل أكبر هي أنها شهدت تحولاً تاريخياً بين حقبتين. لم تكن فقط دولة لجيش في البدء. كان فيها قوة موازية للجيش وهي القوة النقابية – الحزبية لليسار الصهيوني (الهستدروت والماباي والمابام). هيمنة اليسار الصهيوني على العقود الأولى للدولة كانت تعرقل منطق التداول على السلطة، إنما كانت تسمح بايجاد قوة موازية للجيش. إنما وبنتيجة انتصار هذا الجيش في حرب 1967 بدأ المسار الانحداري لليسار، وبعد عشر سنوات فاز اليمين التنقيحي لأول مرة، بقيادة مناحيم بغين بالانتخابات، وكانت في وقتها مفاجأة للجميع، بما فيها لليمين نفسه. ولم يتمكن اليسار الصهيوني بعدها من العودة إلى الحكم الا بشكل محدود ومهلهل في التسعينيات، وتلى ذلك عقدين ونيف من حكم اليمين إلى يومنا.
المفارقة أن اليسار الصهيوني إذ تهافت وتبعثر، والهيمنة إذ آلت لليمين بدلاً منه، لم ينجح مع ذلك هذا اليمين في تأمين الموازنة التي كان يحققها اليسار مع دور العسكر. اليسار الصهيوني تصرف على أنه استبلشمنتي، “باني الدولة”. اليمين لم ينفك يتصرف على أن هذه الدولة لا تتسع لكل مراميه.
استطاع اليمين البقاء في الحكم لمدة طويلة، إنما بحكومات غير مستقرة، وانتخابات مبكرة مكررة. لكن في النهاية، وبعد عمليات حماس في 7 أكتوبر دخلت إسرائيل في حرب تدميرية شاملة ضد قطاع غزة، وظهرت السمة العسكرية للمجتمع والدولة فيها أكثر من أي وقت مضى. الجيش فيها يدرك تماماً أن عدم التمكن من القضاء على حماس في قطاع غزة ستكون نتيجته وخيمة عليه، وليس فقط على القيادة السياسية، بل ليس فقط على القيادة العسكرية.
كلما طالت الحرب دون أن تحرز نتيجة استئصالية لحماس كان ارتداد ذلك على الجيش الإسرائيلي هيكلياً أكثر.
بالتوازي، الجيش أكثر تأثرا بالضغط الأمريكي “لعقلنة” الحرب الحالية، أي لربطها بتصور لغزة، والأراضي الفلسطينية، بعد الحرب، يحيي شيئاً من منطق “حل الدولتين”.
اليمين الحاكم في مكان آخر تماما. هي عنده حرب على حل الدولتين قبل أي شيء آخر. ليس معنى هذا أن الجيش أكثر تقبلا لحل الدولتين، لكنه أكثر تأثرا بالضغط الأمريكي.
سيحاول أن يتجنب في الوقت نفسه حل الدولتين وتحوله إلى قوة يسيرها اليمين الليكودي الذي يتأثر هو الآخر بالسقف القصوى للمستوطنين وميليشياتهم في الضفة. المشكلة أنه في لحظة ما لا يعود من الممكن اجتناب الأمرين في وقت واحد.
بعد عقود من ترداد مقولة “إسرائيل جيش له دولة” يواجه هذا الجيش، وكلما طالت الحرب، وزاد استنزافه فيها، خطر تحوله إلى خاضع لليمين “المدني” الخاضع بدوره إلى “اليمين الميليشياوي”. لأجل هذا، التأليف الذي أقامته السردية الإسرائيلية مطولاً بين الديمقراطية والطابع العسكري للمجتمع والدولة فيها بات على المحك في الحرب الحالية أكثر من أي وقت مضى.
هذا يرتبط بالمسار الميداني للحرب قبل أي شيء آخر، لكنه قد يترتب عليه أن يضطر العسكر في إسرائيل في لحظة من لحظات التأزم الحكومي، أو تأزم العلاقة بين الحكومة “المدنية” وبين الولايات المتحدة، إلى ممارسة الحكم. الديمقراطية، حتى بمعناها الصهيوني، الاستعماري، الأبارتيدي، زادت هشاشة في إسرائيل من أزمة حكومية إلى أخرى، وكنتيجة لنظام انتخابي مشجع على بعثرة التمثيل في أحزاب صغيرة، لأجل استيعاب الجماعات والهجرات المختلفة، الأشكينازية والمزراحية، والبولونية – الليتوانية والروسية، والعلمانية والدينية، الخ. أساساً منذ سنوات تعيش إسرائيل محنة عدم قدرتها على الارتضاء بنتنياهو مدى الحياة، وعدم قدرتها على تجاوزه، بل تجاوز الليكود. لكن ارتبط هذا بافتراض أن الليكود يؤمن لإسرائيل أمناً نسبياً من دون سلام. الأمن على قاعدة السجن الكبير للفلسطينيين.
كل هذا من دون أن يكون الليكود يشكل بأي شكل كان ثقل اليسار الصهيوني (الهستدروت زائد حزبي العمال) في إسرائيل حتى 1977. ففي ذلك الوقت كانت إسرائيل “ما بين دولة الحزب ودولة الجيش” لكنها اليوم دولة “الجيش الإبادي” الذي يحرص في الوقت نفسه على الاظهار للامريكيين تحديداً أنه العاقل الوحيد في مجتمع من المجانين!
إسرائيل يهيمن من حوالي نصف قرن عليها تكتل الليكود الذي لم ينجح رغم كل هذه المدة في أن يكون “حزب الاستبلشمنت” ما زاد حصر الاسبتلشمنت بالجيش والأجهزة الأمنية. اليسار الاستبلشمنتي فيها تضعضع وقنع عملياً بنتيجة إعدامه سياسياً يوم اعدم إسحق رابين. أما ارييل شارون فحاول من خلال تجربة كاديما حل هذه المشكلة بأن يبني قوة سياسية استبلشمنتية جديدة. فشلت التجربة بسرعة من بعده، بسبب غيابه وبسبب حرب لبنان 2006. اليوم تعيش إسرائيل بقوى سياسية ليس أي منها له قدرة على التحول إلى قوة استبلشمنت الا الجيش.
هل يمكن أن تبقى الحال كهذه لمدة طويلة دون أن “يضطر” الجيش فيها للحكم مباشرة؟ حتى الآن، “ما لا يضطره” إلى الحكم فيها هو تملصه من أي تصور لوضع الأراضي الفلسطينية بعد الحرب. يرميها على نتنياهو والليكود. لكن النتيجة الفعلية لتعنت نتنياهو أمام أي طرح أمريكي لمستقبل غزة هو أنه يعود فيرمي المشكلة على العسكر.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية