لو رُمنا تبيُّنَ ملامحِ التجربة الشعريّة لأمجد ناصر لقلنا مع الناقد فخري صالح قولَه: «يُمثل شعر أمجد ناصر، على مدار الثلاثين عاماً الماضية، مختبراً نموذجياً لتحولات القصيدة العربية في الفترة نفسها. فهو يلتقط دبيب التغير في الشكل الشعري والانشغالات التي ينجدل منها ذلك الشعر، وانزياحات الذائقة، والأهم من ذلك كله أنه ينعطف باتجاه التصورات النظرية لمعنى الشعر وضرورته في مرحلة يمكن القول إنها نسفت الكثير من المفاهيم السائدة حول الشعر والشعرية. ورغم أن قصيدة أمجد ناصر، في مجموعاته كلها، على ما أزعم، تحتفظ بنفس غنائي ضارب في أعماقها، إلا أن مشروع أمجد الشعري مضاد للغنائية بطبيعته، يحاول كسر تلك الشفافية العاطفية والصوت الفردي الصافي الملتاع، الذي يسم معظم الشعر العربي في النصف الثاني من القرن العشرين». وتهمّنا هنا إشارة الناقد إلى أنّ من وَكْدِ شعر أمجد ناصر هو الخروج عن الانغماس في الذّات، لصالح الدخول في مواجهة العالَم، إنه شعرٌ يُصارِعُ كلَّ شيءٍ ويُقارِعُه: ذاتًا شاعرةً، وحاضِرًا، وتاريخًا، وثقافةً، وأحلامًا كونيةً، وفنونَ قولٍ. وهو ما نزعم معه القولَ إنّ كتابةَ أمجد ناصر نجحت في أن تصنع بلاغتَها الجديدةَ: بلاغةَ مادّةِ شكلها وبلاغةَ مادّةِ مضمونها، وهي إذْ تفعل ذلك تفعله لتُقارِع نِظاميةَ معنى العالَم ومن ثَمَّ تَبْني عوالمَها الخاصّةَ بناءً لا تُحدُّه القراءةُ، إنها كتابة يتضافر فيها الشعريّ بالحياتيّ، ويمتح أحدُهما ماءَه من نبعِ الآخر، فإذا القارئ واجدٌ صدًى لكلِّ واحد منهما في فضاء الثاني، وإذا حياةُ الشاعر يُعْرِبها نصُّه، وإذا دلالةُ نصِّه تُغذّيها تجربتُه، وإذا شعرُه «جميلُ الجُمْلةِ والتَّفْصِيلِ» على حدِّ ما يُقالُ.
لقد خَبَرَ أمجد ناصر المدائنَ وعَرَكَتْه أزمنتُها – بناسِها ومواجِعها- منذ رحيله الباكر عن الأردنّ، فلا تراه العينُ إلاّ «وهو يدخل في العواصم، وهو يخرج منها، ناحلاً ومُبْتلاًّ كريش الحَمَام، هائمًا كنَبِيٍّ، وحيدًا كذِئْبِ الفرزدق؟» (رعاة العزلة).
لقد خَبَرَ أمجد ناصر المدائنَ وعَرَكَتْه أزمنتُها – بناسِها ومواجِعها- منذ رحيله الباكر عن الأردنّ، فلا تراه العينُ إلاّ «وهو يدخل في العواصم، وهو يخرج منها، ناحلاً ومُبْتلاًّ كريش الحَمَام، هائمًا كنَبِيٍّ، وحيدًا كذِئْبِ الفرزدق؟» (رعاة العزلة). فالمكانُ في قصيدته فمٌ جائعٌ يأكل الأحلامَ والأجسادَ واللغةَ بشراهةٍ، والشاعرُ فيه مشّاءٌ تذروه الريحُ من حيرة النّعمان إلى مقاهي لندن، مرورًا بعَمّان وبيروت ونيقوسيا. يمشي ويُسمعنا قولَه: «طاردتني قصيدة المدينة كنبوءة أشدّ شؤمًا من نبوءة أمّي عن نفسي التي لن تعرف الراحة مهما طال الزمان وبدّلت الأماكنُ وجوهَها» (حياة كسَرْدٍ متقطّع). وهي نبوءة جعلته «قليلاً ما يُقيم في الوضوحِ»، فإذا هو في أُفُقِ تأويلِها «مُشَرَّدٌ في الألفاظِ» (رعاة العزلة) تشريدًا هو من رحلة الشِّعْرِ ورحلةِ الشاعرِ معًا سبيلُ إبداعٍ، وطريقةُ وُجودٍ، وكونُ جَمالٍ، وقُوّةُ كائنٍ لا يملك من قَدَرِه إلاّ أنْ يحملَ جسدَه وفِكرَه ويُسافِر بهما باستمرارٍ، كأنّ الإقامةَ شأنٌ عموميٌّ لا يعنيه، بل قُلْ: إنّ تشرُّدَ أمجد ناصر في اللغة وفي الحياة إنّما هو شكلٌ من أشكال إقامته الدّائمة في حيِّزِ المُؤقَّتِ والمرتَجِّ المُضْطرِبِ، في حيّز ذاك الذي «كأنّ الرّيحَ تحتي».