الخبز السوري والكاتيوشا الروسية

حجم الخط
0

يبدو ان مفتاح الحل للمعضلة السورية اصبح بيد الروس، فلا الامريكان ولا العرب استطاعوا ان يؤثروا في الحالة السورية بقدر ما اثرت روسيا، فبعد أن سلم النظام السوري أمره للكرملين ونام في حضنهم، غدت روسيا لاعبا مؤثرا في تغيير موازين القوى على أرض المعركة، وتوجيه البوصلة السياسية لنظام الاسد كيفما تشاء، لا سيما بعد الاتفاق مع واشنطن على تفكيك الاسلحة الكيماوية السورية، وعقد مؤتمر بين الاطراف المتناحرة في جنيف، على نحو يشير الى تحقيق موسكو صفقة دبلوماسية مع قادة البيت الابيض، وشطب مصطلح الحرب من قاموسهم العسكري، على الاقل في هذه المرحلة.
ووفقا لصورة المشهد السوري الحالي، هل يمكن القول ان سورية تحولت الى ‘محمية’ روسية؟
الدب الروسي يعود من جديد الى الساحة الدولية عبر دمشق وابوابها السبعة، التي استقبلت الروس ايام الاتحاد السوفييتي في عهد حافظ الاسد، حيث كان العالم ينقسم بين منظومة إمبريالية ومنظومة اشتراكية، في ظل ايام الحرب الباردة، ومن ثم بسطوا نفوذهم العسكري والتجاري مع الاسد الابن وصولا الى اعلى المستويات، فلم تعد المسألة بالنسبة لروسيا مجرد دعم البنية العسكرية والصناعية لدمشق، أو التنقيب عن النفط في المنطقة الشرقية، وانما اصبحت شريكا محليا للقرار الوطني وقائدا للسيمفونية السورية.
فبعد سنتين ونصف السنة من اندلاع الثورة ضد نظام الاسد، ما تزال كل انواع الاسلحة الروسية الفتاكة والمحرمة دوليا تتدفق عليه، اذ لم يتوقف بيع السلاح وارسال السفن والناقلات الى ميناء طرطوس. ناهيك عن دعمه سياسيا ودبلوماسيا في المحافل الدولية، وكأن قادة الروس حسم خيارهم بالبقاء مع الاسد الى ما لانهاية، باعتباره آخر حليف لهم في منطقة الشرق الاوسط، بعد خسارتهم المريرة في ليبيا وقبل ذلك في العراق.
وبهذا المعنى لا شك ان روسيا راضية عن سير المعارك في ارجاء البلاد، وخلط الاوراق، ما دامت الامور تجري وفق سياساتها واجنداتها، مع انحسار دور المعارضة السياسي على الارض واندلاع الاشتباكات بين الكتائب المسلحة من جهة والجيش الحر من جهة اخرى.
قادة الروس يصفون الوضع في سورية ‘بانه حرب اهلية، طويلة الامد ودموية، وبدون نهاية واضحة’، مستندين في ذلك إلى خبراتهم العسكرية والاستخباراتية، لذا يحاولون الاستفادة قدر الامكان من الحالة الهشة التي تعيشها الدولة منذ اذار/مارس 2011، وتعزيز مكانتها، سواء في المرحلة الراهنة من عمر الدولة او القادمة، فمن الصعوبة بمكان ان تنسحب موسكو من الحلف السوري وتترك مصالحها الجيوسياسية في المنطقة، ففي نظرهم القلعة السورية تتحول الى فخ لاصطياد ‘الذئاب’ من القاعدة والمجموعات المسلحة،، خاصة القادمة من القوقاز، وبذلك تخفف عنها حمل القتال في بعض جمهوريات الاتحاد الروسي كالشيشان، ناهيك عن استغلالها، اي سورية، كورقة ضغط دولية واقليمية للحفاظ على مصالحها الاستراتيجية وللضغظ على الغرب في مسائل دولية عالقة كالنووي الايراني.

محامي الاسد

ما من حل يظهر في الافق، وكل السيناريوهات تشير الى ان روسيا ماضية في دعمها الدموي للاسد بالمال والسلاح، إذ ظهرت بمظهر محامي الدفاع عن جرائمه واعماله الوحشية بحق المدنيين، لدرجة انها ادعت امتلاكها لادلة دامغة على استخدام المعارضة للسلاح الكيماوي ضد اهالي الغوطة. الزعم الروسي يروج له اعلامه الذي يصور الطبقة الحاكمة في دمشق على انها ضحية للمجموعات المسلحة وللمؤامرات الدولية، وغالبا ما يبعث رسائل مضادة عن الثورة ويصفها بانها مجرد حرب اهلية وقتل على الهوية، وطبقا لهذه الصورة، يبدو في النهاية ان القيصر الروسي غير مكترث بمئات آلاف القتلى، ولا بالملايين التي شردت وهجرت، ولا بمجازر الاطفال والنساء، وقصف افران الخبز بالصواريخ، بل انها عطلت مجلس الامن، واستخدمت حق الفيتو للحيلولة دون إدانة نظام بشار وفرض العقوبات عليه.
ثمة اعتبارات لمجريات الاحداث في سلوك روسيا تجاه الازمة السورية، أولا: رغبتها في التخلص من اسلحتها ومعداتها القديمة، والسوق السورية، نقطة ساخنة لتصريف السلاح، إذ يقدر المركز الروسي لتحليل الاستراتيجيات والتقنيات، أن دمشق أبرمت مع موسكو عددا من العقود لشراء أسلحة بقيمة خمسة مليارات ونصف المليار دولار، وهناك امتيازات وصفقات اخرى من الصعب التفريط فيها، فسقوط بشار يعني فقدان مليارات الدولارات وخسارة الشركات بالملايين، بعدما جربوا طعم الهزيمة، جراء تعثر الصفقة التي كانت تنوي إبرامها مع ليبيا بقيمة أربعة مليارات دولار.
ثانيا: احياء التوازنات الدولية ورسم خارطة العالم الجيوسياسية من جديد، واثبات للغرب ان روسيا ند صلب وقوي في المعادلة الدولية، فقد شلت مجلس الامن اكثر من مرة لصالح الاسد، خوفا من تكرار السيناريو الليبي، حيث خسرت القذافي وخرجت من المولد بلا حمص.
ثالثا: تهدديد مصالح الغرب في منطقة الشرق الاوسط عبر رسائل واضحة في مجلس الامن، مفادها ان القيادة الروسية لديها الكثير من الاوراق، رغم هزيمتها في الموضوع الليبي، ولا تهمها الخطوط الحمراء. لكن كيف سيتصرف الفرقاء والحلفاء بعد تدمير الترسانة الكيماوية؟
هنالك حقيقة مفادها ان روسيا انقذت الاسد من الغرق عدة مرات، واخرها إجبار العم سام على إلغاء الضربة العسكرية، أما الرهان فهو كسب الوقت للمحافظة على حليفه لمدة اطول. بيد أن التاريخ القديم والحديث يحمل قصصا وعبرا عن زوال الحلفاء وخيانتهم، ولنا في تجربة العراق وروسيا خير مثال، فهل نشهد نهاية درامية لهذه اللعبة؟ ام أن المشهد السوري سيطول لسنين عديدة مقبلة؟

‘ كاتب واعلامي سوري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية