الرباط ـ «القدس العربي»: استعرض الدكتور إدريس لكريني، الخبير في العلاقات الدولية، حصيلة عودة المغرب إلى منظمة الاتحاد الإفريقي، مؤكداً أن انضمام المغرب جاء في ظروف سلسة، تعكس الخطوات المحسوبة التي اتخذتها على هذا الطريق. وأبرز لكريني في حواره لـ “القدس العربي” أن التعاون المغربي في إطار الدائرة الإفريقية من الثوابت ضمن السياسة الخارجية المغربية، ويجد أساسه ضمن مقتضيات الدستور.
■ المغرب ـ الاتحاد الإفريقي، عنوان عريض لعودة المملكة بشكل قوي إلى المنتظم الإفريقي. بصفتك خبيراً في العلاقات الدولية، ما هي الدوافع وراء هذه العودة من الناحية السياسية؟
■ جاء انضمام المغرب إلى الاتحاد الإفريقي في ظروف سلسة، تعكس الخطوات المحسوبة التي اتخذها المغرب على هذا الطريق، ويجسد الانضمام تتويجاً طبيعياً لمجهودات ومبادرات كبيرة قامت بها الدبلوماسية المغربية في العقود الأخيرة، والتي عمّقتها ودعمتها الزيارات الملكية لعدد من البلدان الإفريقية، وهي أيضاً تعبير عن قناعة المجموعة الإفريقية بالقيمة المضافة التي تشكلها هذه العودة عبر مؤسسة الاتحاد على مستوى تطوير العمل المشترك ودعم التنسيق الإفريقيين في إطار التعاون جنوب – جنوب، المبني على تبادل المصالح بشكل ندّي ومتوازن.
شكّل الانضمام فرصة لتجاوز الصورة القاتمة التي راكمها خصوم المغرب داخل الاتحاد في غيابه، وتوضيح مجموعة من العناصر ذات الصلة بقضية الصحراء، إضافة إلى تعزيز العلاقات الاقتصادية المغربية – الإفريقية من داخل مؤسسات الاتّحاد.. كما يمثّل الأمر فرصة لاستثمار الأجهزة المختلفة للمنظمة في سبيل التأثير في صياغة القرار الإفريقي بما يخدم مختلف القضايا الاستراتيجية للمغرب.
وإذا كانت العودة إلى المنظمة ستسمح للمغرب بتعميق علاقاته مع الدول الإفريقية؛ والمرافعة بنفسه بشأن قضاياه الحيوية؛ وتكسير منطق الصوت الأحادي الذي ظل يتردد داخل أروقة المنظمة منذ منتصف الثمانينيات من القرن الماضي مروّجاً لمغالطات تهم ملف وحدته الترابية؛ فإنها ستسمح للمنظمة أيضاً بلمّ الشمل الإفريقي وتعزيز التعاون جنوب ـ جنوب، والاستفادة من التجربة المغربية في مختلف المجالات.
■ المغرب منذ عودته إلى الاتحاد الإفريقي مد جسور التعاون مع عدد كبير من الدول في القارة السمراء، وعزز الجسور السابقة مع الدول التي تربطها علاقات تاريخية معه. كيف تشكلت، في نظرك، رؤية المملكة في هذا الاتجاه؟
■ يعد التعاون المغربي في إطار الدائرة الإفريقية من الثوابت ضمن السياسة الخارجية المغربية، ويجد أساسه ضمن مقتضيات الدستور، ويبدو أن المغرب واع كل الوعي بالإمكانات التي تزخر بها القارة الإفريقية، والتي تستوجب إرساء تعاون بناء، قادر على التخلص من التنافس الدولي على خيرات القارة، وبلورة علاقات ندية مبنية على تبادل المصالح والتجارب والخبرات.
إن هذا التّوجه هو امتداد لخيار استراتيجي يسعى المغرب من خلاله إلى بلورة نموذج واعد على مستوى التعاون جنوب – جنوب؛ بعيداً عن كل أشكال الهيمنة والاستغلال، وهو خيار لا يمكن إلا أن يكون في صالح المغرب والدول الإفريقية أيضاً.
ويبدو أن المغرب مقتنع بأن الدول الإفريقية تواجه في الوقت الراهن تحديات مشتركة، في علاقتها بالتنمية والصراعات والنزاعات الداخلية، والتهديدات المرتبطة بالهجرة والإرهاب والتهريب.. والتي تفرض مجابهتها في إطار من التنسيق والتعاون.
يمثل الانضمام بداية ستحمل رهانات وأولويات اقتصادية مرتبطة بتعميق الشراكات والتعاون مع الدول الأعضاء، والدفع نحو انكباب الاتحاد على القضايا والأوليات الحقيقية للقارة في علاقتها بمكافحة الإرهاب وإدارة الأزمات وتعزيز الاستقرار وتعميق التعاون وتشبيك المصالح بين الدول الأعضاء ومواجهة التهافت الخارجي المتزايد الذي تتعرض له القارة وتحقيق التنمية الكفيلة بوقف نزيف الهجرة بكل أشكالها… علاوة على ترسيخ الحس التضامني بين الدول لمواجهة عدد من الإشكالات والمخاطر التي تواجه دول القارة.
■ الزيارات الملكية العديدة للدول الإفريقية كرست سعي المغرب إلى جعل التعاون جنوب – جنوب أولوية. في رأيك، هل استوعبت إفريقيا هذا المعطى؟
■ لم تتوقف جهود المغرب باتجاه توفير المناخ الداعم لهذا الانضمام؛ وهو ما عكسته الزيارات الملكية المتعددة إلى مجموعة من الدول الإفريقية، بما فيها تلك التي ظلّت فيها العلاقات بين الجانبين سطحية لسنوات عديدة، بما سمح بعقد عدد من الشراكات والاتفاقيات التجارية والاقتصادية.. وأتاح توضيح مواقف المغرب إزاء مختلف القضايا المشتركة.
وجدير بالذكر أن هذه الزيارات الملكية التي قوبلت بترحاب رسمي وشعبي كبير داخل عدد من البلدان الإفريقية، تعكس عمق العلاقات بين الجانبين وامتدادها في عمق التاريخ، وقد كان لها الأثر الكبير في إعداد الأجواء السليمة والبناءة للانضمام إلى الاتحاد الإفريقي الذي تم بشكل سلس، وعقد عدد من الاتفاقيات التي عمقت العلاقات المغربية – الإفريقية.
لقد أولى المغرب في السنوات الأخيرة أهمية كبيرة للشراكات الاقتصادية والتجارية سبيلاً لتطوير هذه العلاقات، كما لا تخفى الجهود المتخذة على مستوى تثبيت الأمن والسلم في الكثير من مناطق التوتر والأزمات الإفريقية، في إطار مبادرات فردية أو ضمن جهود الأمم المتحدة وعمليات الأمم المتحدة في هذا الإطار.
■ ماذا عن حصيلة عودة المغرب إلى الاتحاد الإفريقي؟
■ إن انضمام المغرب إلى الاتحاد الإفريقي هو عودة إلى العمل من داخل التكتل الإفريقي من موقع أقوى بالنظر لعدة اعتبارات متصلة بطرح مشروع الحكم الذاتي كمقترح واقعي يوازن بين مطلبي الوحدة والاستقلال، ويتيح للساكنة تدبير شؤونها بشكل ديمقراطي من خلال مؤسسات جهوية، وبحجم التشابك والتطور اللذين طبعا العلاقات المغربية بعدد من الدول الإفريقية التي بادر عدد كبير منها إلى سحب اعترافه بالبوليساريو تحت وقع الدلائل التاريخية والواقعية التي يطرحها المغرب، وأهمية المشاريع التنموية التي أطلقت في هذه الأقاليم؛ التي استفادت من الدينامية السياسية والاقتصادية التي شهدها المغرب في العقود الأخيرة. كما أن القارة شهدت صعود نخب سياسية جديدة تستوعب الأولويات الحقيقية للقارة الإفريقية.
ومن هذا المنطلق، فالانضمام إلى الاتحاد لم يمثّل رهاناً مغربياً فقط، بل إنه رهان إفريقي أيضاً، عكسته الدعوات المتزايدة لعدد من الدول الإفريقية في هذا السياق، اقتناعاً منها بالإضافة النوعية التي سيشكلها هذا الانضمام بالنسبة للقارة الإفريقية وانعكاسها الإيجابي على أداء هذه المنظمة.
استطاع المغرب خلال هذه الفترة أن يعزز علاقاته مع عدد من البلدان الإفريقية، ويتموقع داخل الأجهزة التقريرية للاتحاد، ويتجاوز كلفة المقعد الشاغر، ما سمح له بتصحيح مجموعة من المغالطات المتعلقة بقضية الصحراء، ما دفع عدداً من الدول الإفريقية إلى مساندة الطرح المغربي، بل وإلى فتح قنصليات داخل الأقاليم الجنوبية في كل من العيون والداخلة وعياً بالفرص الاقتصادية والاستثمارية والاستقرار في المنطقة.
■ كيف تقيم هذه الحصيلة وفق المعطيات السياسية والاقتصادية، وطبعاً علاقات الانتماء إلى مصير واحد يجمع كل دول القارة السمراء؟
■ يتقاسم المغرب العديد من المقومات المشتركة مع مختلف البلدان الإفريقية، بما يدعم هذه العلاقات ويعطيها بعداً أكثر عمقاً واستراتيجية. فهذه العلاقات تمتدّ لزمن بعيد، وأسهمت ظروف الاحتلال الأجنبي لعدد من دول القارة في كبح تطورها؛ غير أنها سمحت من جهة أخرى في تعزيز مظاهر التعاون والتنسيق بين الجانبين قبيل الحصول على الاستقلال وبعده أيضاً، في إطار منظمات إقليمية ودولية.
وتواجه الدول الإفريقية، مجتمعة، تحديات مشتركة في الوقت الراهن، من قبيل دعم التنمية والحد من تنامي الصراعات والنزاعات الداخلية، والتهديدات المرتبطة بالهجرة والإرهاب والتهريب، التي تفرض مجابهتها في إطار من التنسيق والتعاون.
إن دعم العلاقات المغربية مع الدول الإفريقية، في أفق بلورة شراكة متوازنة، هو خيار استراتيجي يمكن أن يسهم في تقديم نموذج واعد على مستوى التعاون جنوب – جنوب، بعيداً عن كل أشكال الهيمنة والاستغلال.
وأعتقد بأن وعي الطرفين بحجم القواسم المشتركة سيدعم تعزيز هذه العلاقات. وبالنظر للموقع الاستراتيجي للمغرب، فبإمكانه أن يلعب دوراً متميزاً على مستوى انفتاح القارة على محيطها الأوروبي والعالمي. ويمكن لانخراط الدبلوماسية الموازية التي تقودها الأحزاب السياسية والبرلمان، والإعلام والجماعات الترابية والنخب الأكاديمية.. أن تدعم تحقيق المزيد من المكتسبات في هذا الخصوص.
■ لو سألناك عن المستقبل في القارة الإفريقية في ضوء المعطيات التي أفرزتها جائحة فيروس كورونا، ما الذي يمكنك الخروج به كأفق؟
■ رغم التداعيات الخطيرة التي أفرزتها جائحة كورونا على عدة مستويات، صحية واقتصادية واجتماعية.. فإنها تشكل فرصة لاستخلاص الدروس كسبيل لتحصين المستقبل، ونهج التعاون والتنسيق لمواجهة تهديدات ومخاطر حقيقية عابرة للحدود، لا يمكن مواجهتها بصورة انفرادية. حقيقة، إن تأثر البلدان الإفريقية بالجائحة لم يكن بحجم خطورة ما شهدته عدد من الدول في أمريكا وأوروبا… غير أن الكثير من التقارير العلمية تحذر من أن كل الاحتمالات السيئة ما زالت قائمة، بالنظر إلى تحور الفيروس من جهة، وضعف الإمكانات الاقتصادية والبنيات الصحية في عدد من الدول الإفريقية من جهة أخرى.. وكل هذه المعطيات تفرض التنسيق والتعاون، وطي الخلافات الضيقة في أفق إرساء تعاون إفريقي – إفريقي، يدعم التعاطي مع التداعيات الصحية والفرعية لكورونا بشكل أكثر فعالية.
كما تشكل هذه الأزمة الوبائية فرصة سانحة للدول الإفريقية لاستيعاب المستقبل عبر التركيز على الإشكاليات الحقيقية للتنمية من قبيل تسوية المنازعات ومواجهة الأوبئة وتطوير البنيات التحتية الصحية، وتحقيق الاكتفاء الذاتي في عدد من المنتجات الغذائية والصناعية.