هناك بعض الملصقات لا أستطيع النظر إليها
أو استخدامها لأنها تذكرني بكِ!
ألا تجدين الأمر مضحكا على نحو ساخر. نعم انا أؤمن أن لكل عصر طريقته المبتذلة في الحب وكتابة الخطابات والقصائد الشعرية، وربما يبدو غريبا على كل جيل جديد تربى في أحضان أجيال قديمة مقتبسا عاداتهم وتقاليدهم أن يحس الظرافة وعدم القدرة على تصديق وسائل الحب الجديدة. لم الاستغراب؟ بعد مئات من السنين ولا يزال (الشاعر)عاجزا عن استبدال الحصان بسيارة، لا يستطيع أن يضرب مثلا من حاضره وحياته، لا يملك الجرأة على اختراق السائد. وحتى أفسره لكِ بشكل أوضح وأدق، حيث في الأمر شيء من الغرابة، أن تكون سبّاقا ومحدثا، يحتاج إلى الكثير من النضج والشجاعة، ولكن كيف يمكنك أن تكون شاعرا وأنت لست شجاعا؟ قد يقول أحدهم ما حاجة الشاعر إلى الشجاعة، وربما يفهمني أحد بشكل خاطئ فيحمل سيفه ويلوّح للجميع يمينا وشمالاً، قبل أن ينهي قصيدته.
لا أقصد طبعا أن يكون مندفعا بسذاجة، لكن الشجاعة التي أتحدث عنها هي تلك اللحظة النارية التي تفيق في قلب الشاعر، وتومض في رأسه مثل جمرة يثيرها التفكير فتضيء وتنطفئ حتى تستقر، إنها تتشكل وتتخلق مرتكزة على عناصر معنوية تقع ضمن نطاق منظومة الشاعر وتركيبته السحرية لحظة الكتابة.
المهم أنا أتذكرك بهذه الطريقة الحديثة وبهذه الوسائل المتعارف عليها، بالطبع لن أكون مصطنعا وأتذكرك عبر حكايات ألف ليلة وليلة، ولن أقطع فيك أراجيز ودفوفا أو أجعل أمنياتي راقصاتٍ في حداد. هل تريدين الحديث عن ذلك أيضا؟ أعلم أنك تحبين طريقتي في الامتعاض والسخرية، وكأنني أفهم لكنه مضر بعض الشيء أيضا.
لكنني سأقصُّ عليكِ حادثةً من نوع مختلف، هي ليست لشاعر أو فنان، حادثة لم تأخذ نصيبها من الفحص، لكنها بالطبع أخذت نصيبها من الشتائم، وأكيال لا تحصى من الفظاظة والمقت. هي لشاب يبدو في مقتبل عشرينياته، يفتح كاميرا الموبايل، ويظهر من أول وهلة أنه على سطح أحد البيوت أو العمارات، فالغيوم الخفيفة والفراغ الأزرق المخفف، يشير إلى سماء تحفه من الجهات كلها. يحاول تثبيت الكاميرا بطريقة محترفة. يمسك سكيناً بيده اليمنى، ومسدساً ربما من عيار 9 ملم في يده اليسرى لا أميز نوعه. ولأنه ليس ممثلا بارعا ويفكر بالانتحار حقا، تبدو كل ملامح الإحباط والارتباك مهيمنة على حركاته، حتى أنه يبدو واضحا عليه، أنه يريد فعلها، لكنه في الوقت ذاته هناك ما يثنيه عن فعلها، حالته تقول إنه يريد الحياة، وإن هناك أشياء جميلة، لا يريد التخلي عنها، أو ربما هي حواسه وغرائزه، التي تصر على جعله في حيرة من أمره. ما أثار انتباهي حقيقة أنه كان يحاول جاهدا استعراض حالته وأسبابه عبر خطاب تمتزجُ فيه الكلماتُ الفصحى بالعامية، لكنه كان يبدو مصرًا على أن ينتحرَ بالفصحى، ترى ما الذي يجعل شابا يريد الانتحار مجبرا على قول كلمات فصيحة مرتبكة وفظيعة وغير مصاغة جيدًا؟
صدقيني أنه يواجه الموت ويريد الموت، لكن جنّيا ما تسرب إلى لاوعيه، وأخبره أن يقوم بمقدمته هذه، وربما كان الجنيُّ يشترطُ عليه أن تكون فصيحة؟ أو حسب ما أظن أنه كان محرجاً أن يموت بطريقة اعتيادية وغير مثيرة، حتى وهو يريد الموت يريد أن يبدو جيداً، لكن لماذا يريد أن يبدو جيدا في هذه اللحظات؟
لا تصدقي كل ما أقول، لكنه يريد من الناس أن يظنوا به ظنا حسنا، يهمه رأي الآخرين حتى في لحظة موته هذه، حتى في أقصى درجات إحباطه ويأسه العميق. إنه مهتم فعلا بكيفية ظهوره، هذا ما يخص قصة هذا الشاب غير المكتملة، ربما ستقولين ما علاقته بما تحدثت به مسبقا ؟
وسأقول لك: إن الشاعر الذي «لا يكافح للخروج من البيضة»، لن يستطيع مطلقا أن يكون شاعراً، وما ترينه من أسماء وافرة لا تعدّ ولا تحصى لا تعني شيئاً أمام لحظة وعي واحدة، تشتعل من الأعماق فتعمي تاريخاً من الانقياد والخنوع. ما يرتبط به الكثير من الشعراء وقصة هذا الشاب العشريني، على الرغم من اختلافهما في طرق الحياة، إنهما لم يبلغا الوعي اللازم الذي يمنحهما لحظة الإدراك والوعي تلك، التي تتشكل بمثابة الأرجل وهي تكسر «قشرة البيضة»، ومن ثم تزيح الستارة عن العالم الداكن، إذ أن العالم يُرى كل يوم بصورة مختلفة قد تكون جيدة أو سيئة، لكن الاختلاف في الرؤية يعتمد كليا على مقدار ما يكتشف المرء عن نفسه وعن محيطه، وما تتيحه المعارف من سبل لفتح الأبواب. والهاوية هي عندما لا يرى أنه يحتاج إلى الخروج من البيضة، بل إنه يمسك البيضة؟
الشاعر في حالته هذه غائب أو مغيب، لا تزال سلطة المجتمع اجتماعية وثقافية مستحوذة على أفكاره، وطاغية على مدخلاته ومخرجاته، إنه يشبه الإلكترون الذي يدور بثبات في مساره المعتاد، لكن الثبات هنا ليس جيداً لا يمكن عده مدحاً أو تفوقاً.
ذاك التكوين أو المخلوق غير الناضج تماما، القابع داخل كيان الإنسان، ذاك الذي يضع رجله في عالم تنشأ فيه ولم يضع رجله الأخرى خارج حدود عالمه، ليكمل الصورة، لن يكون سوى هذا الشاب العشريني المغيب تلك اللحظة، وهو يود الموت على طريقة المسلسلات والأفلام والشخصيات الروائية وأبطالها.
وكدليل على ذلك، هناك ذلك الشعور الذي نظنه غريزيا إلى حد ما، يميل بنا إلى ترك رسالة أو علامة أو تسجيل صوتي نخبر العالم فيه عن مدى وجعنا، وسبب ذلك الوجع. ربما هي حاجة إنسانية الحاجة إلى ذلك البوح، لأن الأمر ليس يسيرا أن يخسر المرء حياته. إذ أن الشخصيات في الأفلام والروايات لم تكن لتجيء من فراغ محض، لا شك في أنها تخلقت بفعل سلوكيات محددة لأفراد وجدوا داخل هذا العالم. لكننا يجب أن لا نهمل أن سلوكيات هذه الشخصيات وما يدور حولها أصبح مشاعاً، وان معظم المجتمعات بثقافاتها المختلفة، تعرضت للاختراق، بفعل المسلسلات والأفلام والروايات، حتى توالدت مع الأجيال وانصهرت معها، مثل أي سلوكيات يومية ومألوفة، تتوقع الفعل ورد الفعل مسبقاً، حيث المشهد جاهز ومعد وما عليك الا أن تأخذ الدور.
مثلا عندما يدخل طرفانِ في علاقة حب، لابد أن يظهر روميو وجولييت في قصتهما، بدون إرادة من العشيقين، حيث أصبحت قصة روميو وجولييت جزءا من الثقافة العالمية تطل على المجتمعات، رغم أنها ضاربة في القدم، كذلك سيميل كل فرد إلى الانتحار بأن يخضع بدون وعي منه لتلك الرغبة في البوح، وكتابة شيء ممثلا لتلك الصورة التي يعرفها مسبقا.
فالشاعر/ الفنان، الذي لا يستطيع إدراك هذه المحركات والدوافع، لن يكون سوى روبوت، يفعل ما تمليه عليه الإيعازات والبرامج التي وضعت فيه، لن يكون بمقدوره كسر النمطية الثقافية والاجتماعية التي تنشّأ عليها، وسيبقى ذلك الكائن أو المخلوق، ذلك التكوين الداخلي خاضعًا ومسيّراً، ولا يمكن له أن ينتجَ خارج حدود معرفته، ما دامت تلك الحدود تفرضُ قيودها.