كان أحدهم يبكي في كلّ صلاة أثناء القراءة، حتى وهو يقرأ آيات الحيض والنّفاس والبيع والشراء والطّلاق، وأثناء ذكر المنافقين والكافرين. وبالتأكيد لم يكن ذلك خشوعًا، بل حالة تيه عقلي ونفسي. أمّا عندما اقترب أحدهم من جاره وهو يبكي أثناء الدّعاء، لكي يفهم السرّ في ذلك، فقد سمعه يدعو بآية بإلحاح قائلا ” ربّي إنّي نذرت لك ما في بطني محرّرا فتقبل منّي”، فأدرك أنّه أحمق، إذ يرى نفسه مثل السيّدة امرأة عمران، التي نذرت ما في بطنها لله.
فلم يكن في بطن ذلك الرجل لحظة الدّعاء والبكاء، سوى بقايا الأكل الذي أكله ذلك اليوم. أمّا إحدى الأشياء الغريبة، فهي أن يخطّط الإنسان داخل الصلاة أحيانا لفعل الأشياء القبيحة لاحقا بعد الانتهاء، فتكون مخطّطاته بالغة الدقة والإتقان.
التأمّل والسكينة
لسنا مُطالبين بالبكاء في صلواتنا وأحوالنا، رغم أنّ البكاء أعلى درجات التعبير عن جوهر الإنسان. لكنّنا مطالبين بالمقابل بالهدوء والتأمّل والسكينة والتركيز والحضور.
وقد تساءلتُ مرارًا عن عدد المرّات التي استمع فيها الله إلى كلامنا؟ أجل، لقد شعرت بالخجل، من كونه يسمع كلّ كلماتنا، المغشوش منها والمخلص فيها، كلماتنا ذات المعنى والأخرى التافهة جدّا، ممّا يُفقدنا الاحترام لديه. وينظر إلى لحظات حضورنا الشكلي، وغيابنا المتعمّد عن هذا المشهد الكوني والتاريخي الهائل المتدفّق.
حضرتُ معارك عديدة في مساجد المسلمين، حول إسدال اليدين في الصلاة أو قبضهما. وكنت أشعر في بداياتي الأولى أنّ عدم قبض اليدين في الصلاة برهان على قلّة الخشوع، ولم يكن يهمّني موقف الفقه أو القول الصحيح في المسألة. فأقول في نفسي، كيف لمن أرخى يديه مستهترا، أن يقنعنا باحترامه وتقديره لهيئة الصلاة وهيبتها؟
لقد كنتُ أراه مثل الشخص الواقف في طابور أو صفّ، بانتظار دوره القادم. لم أنصح غيري بما كنت مقتنعا بصحّته، مخافة الأذى المتوقّع أو اللّكمات العابرة للحدود. غير أنّي ضحكت من نفسي بعد سنوات، لكوني لم أكن أختلف كثيرا عن بعض من يدعون الله بطرق عجيبة ومضحكة، ويقدّمون الظواهر على حساب البواطن.
الأبعاد المتعددة
لكنّ الأهم مما تقدّم هو أن الخشوع عملية يسيرة وممكنة بالنسبة للجميع، إلّا إذا قرّرت أن تفكّر في محتوى كتاب الإله والدّولة للكاتب الروسي ميخائيل باكونين وأنت تصلّي، أو تفكّر في معنى أرستقراطي للاشتراكية في سجودك. إنّ غياب الخشوع يعني أنّك كائن لا يحيا الأبعاد المتعددة، فشعورنا الدائم بأنّنا “حجّاج” باحثون عن المدينة المقبلة بالغ الأهمية. نظام الخشوع يمثل إذن مجموع اللحظات المعدودة الممنوحة للروح، طيلة اليوم أو الشهر أو السنة أو العمر بأسره.
رعاية الروح
الخشوع نظام اجتماعي، قبل أن يكون حالة فردية مؤقّتة بزمن ومكان محدودين. ومن دون نظام التأمّل، يصبح المتعبّد في أعلى قمم جبال التّبت في الصين، شخصا عاديا لا يجذب الزوار نحو حالته الشعورية العالية. فهي منطقة يرى أصحابها أنها مكان لرعاية الروح والاهتمام بها، ويقضون في عملية التأمل الساعات الطوال، في حين قد يجد المسلم صعوبة في هذه العملية لدقائق معدودة. والسبب في هذا هو أنهم جعلوا مسألة التأمل نظاما اجتماعيا، يتم القيام به في أماكن وأوقات مختلفة، إلى درجة أن يتمّ دفن بعضهم في القبور على وضعية التأمّل.
إنّنا لا نسأل أنفسنا كثيرًا عن درجة خشوعنا، وعن عمق انخراطنا في هذه العملية ومداه. وذلك لأسباب عديدة، من أهمّها أن الكثيرين قد أسقطوا من دون وعي هذا الواجب، من حساباتهم في الحياة، أو لحصول الاعتقاد لديهم بعدم ترتيب المحاسبة عليه في حال التقصير فيه، وربّما بسبب حالة الفوضى المنظّمة التي نعيشها بشكل عام، أو لاستصغارنا أهمية هذا النظام الاجتماعي والشعوري في حياتنا. ينظر الناس إلى ضعف الخشوع باعتباره مشكلة دينية وإيمانية، لكنهم لا ينظرون إلى هذا الأمر كمشكلة اجتماعية تمثل أهمية كبيرة. إنّ أول بداية لقصّة الإسلام وأوّل إعداد له، كان بالتأمّل في مكان ضيّق في كهف صغير فوق جبل. ونظام الخشوع أوسع وأعمق من أن يرتبط بالعبادة فحسب، فهو سلوك اجتماعي ونظرة إلى العالم والملكوت.
أمّا المجتمعات العربية الإسلامية في الوقت الحالي، مع الاستثناء طبعا، فتجد صعوبة في إيجاد البنية الأساسية لإنتاج هذا المستوى من الشعور والتناغم مع الكون، وروح الدين. وذلك بسبب تأثيرات الحداثة وأنماط التعليم الباردة، وجفاف الخطاب الديني. لقد كان الأوزاعي يقول: إذا جاء الإعراب ذهب الخشوع. والواقع أن الاهتمام المبالغ فيه بقواعد القراءة وتجميل الصوت قد يضيع الخشوع. البديل عن نظام الخشوع هو الفوضى، وفتح الأفواه الصادرة بشتى أنواع الأصوات، وحكّ أطراف الجسم. والسّرحان في جنبات المسجد بأعيننا وأبصارنا. والصراع مع الواقفين عن اليمين وعن الشمال، في الابتعاد بالأرجل أو تقريبها من بعضها. البديل هو استحضار كلّ همومنا ومشاكلنا في اللحظة الخاطئة، عوض نسيانها.
أمّا المشكلة الأساسية التي تحول دون إقامة نظام الخشوع في المجتمع، فهي ضعف الاستعداد لهذه العملية قبل ولوجها، فالخشوع بهذا الاعتبار نتيجة لما قبله. لكنّ استماعنا لاختلاف القراءات يجعلنا نخشع، لكوننا قد اعتدنا منذ الصّغر على نمط واحد من القراءة. ثم إذا اكتشفنا الجديد علينا من القراءات الأخرى، اهتزّ وعينا وإدراكنا، وانتبهنا أكثر لتعدد المعاني بتعدد طرق القراءة. فصرنا كأننا نسمع قرآنًا جديدا علينا، ونستمتع أن الله قد قال كل هذه المعاني، التي تجعل الصور متعددة في خيالنا.
الله متسامح مع تعدّد المعاني والصور، التي تجعل خيالنا واسعا لكي نهيم في معانيها. إن باستطاعتنا أن نقف في القراءة عند آية” فجاءته إحداهما تمشي على استحياء”. ثم نستأنف” قالت إن أبي يدعوك” فالصورة الأولى هي أن تكون تلك المرأة قد جاءت تمشي على استحياء، إذا وقفنا عند هذه الكلمة. بينما الصورة الثانية أن تكون “على استحياء قالت”. فالاستحياء إذن إمّا في طريقة المشي، أو في طريقة الكلام.
الإنصات للتلاوة أمر ضروري، حيث يرتبط الخشوع بالتجويد عبر الصوت الجميل، فالنّغم جزء من بنية القرآن. أمّا تأثر المسلمين بالقرآن ومعه ولأجله، فلم يُر مثله في باقي الأمم. ويضع القرآن الخشوع رغم كونه حالة شعورية، في سياق ومرتبة واحدة مع وظائف البدن، مثل الصّدقة والصلاة والصبر والصيام. ويجعل الخشوع ومشتقّاته في اللّغة، صفة لحركة الرّوح والجسم وحركة الكون. وبذلك يشترك الجسد والرّوح والأرض، في الخشوع ضمن وظيفة واحدة.
إنّ الأرض الخاشعة في القرآن هي المتهشّمة المغبرّة، وكذلك حال البشر، فإنّ خشوعهم يَحدُث في حال تهشّمهم وانكسار أفئدتهم وقلوبهم، ومن تم خضوعهم. أمّا الأرض الخاشعة فإنّها إذا نزل عليها الماء اهتزّت وربت. وكذلك روح الإنسان حال خشوعها، تستعد لاستقبال الأمداد.
يغفُل الوعي الإسلامي الحالي عن أهمية الخشوع، كصورة لنظام اجتماعي. ولا يتّضح دور الخشوع في التنظيم، إلّا عندما نشاهد سوء الانضباط في العبادات، واضطراب الانسجام بين الناس، أثناء تأدية الشعائر ذات الطابع الجماعي.
الأزمات الروحية
التركيز والاستغراق أمر ضروري، بالنّسبة لعدد من الثقافات في العالم. وهو الجزء الأهم في بنية البوذية وغيرها من المذاهب الروحانية. وأصحابها ناجحون في هذا الأمر إلى حدّ بعيد. بل يسوقّون هذا النمط من الخشوع إلى العالم، باعتباره دواء للأزمات الروحية، حتى تلك التي تصيب كبار المشاهير الأغنياء.
أمّا المسلمون فلم يفكّروا كثيرًا في قيمة الخشوع، كأداة روحية لاستقطاب الباحثين عن السّكينة والطمأنينة من باقي الشعوب. إنّنا لا نسوّق ما نمتلك من تجارب الروح، لكوننا لا نستفيد منها بالقدر المطلوب.
إنّ ما ذكرته من معاني الخشوع هنا، قد ورد على خاطري أثناء الصلاة. فكنت أفكّر في موضوع الخشوع من دون خشوع. فأدركت أنّ الخشوع ليس مجرد شعور عارض أثناء الصلاة، بل هو مسار من العناية بالروح.
أمّا جاري في الصلاة عن اليمين، فكان مشغولًا بالتثاؤب طيلة الوقت، وكان صاحبي عن الشمال قد شغله هاتفه الذي يرن في كلّ لحظة، ليسمعنا مقطعًا موسيقيًّا قد اختاره بعناية وذوق رفيع، فيضطر إلى إغلاقه. لكنّ الفرحة قد غمرتني أخيرًا، إذ رأيت أحدهم قد امتلأت عيناه بالدّموع بعد السّلام. غير أنّه أفسد عليّ فرحتي حين قام صارخًا طلبًا للمساعدة من الناس، فعرفت أنّها دموع القهر والفقر، لا ماء الخشوع.
كاتب مغربي