يرتكبون الخطأ الفادح ذاته، إذا واصل أفراد من الأجيال الجديدة ممن تولعوا بالأدب توظيف تجاربهم لخدمة الدين والمذاهب والطائفة، واقتراف الخطأ ذاته. إنه الخطأ ذاته الذي تجلى في مستويات مختلفة الدرجة، لكنه، دائماً، يبقى نوعاً واحداً، مثلما كان توظيف الأدب والفن لخدمة السياسة أو أوهام المشروع السياسي.
عندما كان أفراد من جيلنا يقعون تحت سطوة النضال (بوهم الأيديولوجيا) مأخوذين بفكرة (الالتزام) ليجري بسط الطاقات الأدبية الشابة في هامش المشروع والمنظورات والمنظومة السياسية، وقتها كنا نفعل ذلك ببراءة تُضاهي السذاجة، وبقدر ما كان حلمنا بريئا، كانت سلطة السياسي حينها تصدر عن أكثر القيادات السياسية جهلا بكل ما يتعلق بالفن والأدب وبكل ما يتعلق بشأن الثقافة الأدبية.
لكن لحسن حظنا، سرعان ما اكتشفنا سذاجة فكرة الالتزام التي تسعى إلى توظيف الإبداع لخدمة الحزب، وتجيير الفعالية الثقافية للمشروع السياسي، في محاولة بالغة البؤس لمصادرة حرية نشاط المخيلة في شغل المبدع، وهي الحرية الجوهرية في حياته، الحرية التي هي أيضا نقيض القسر. لحظتها شعرنا بأن فكرة (الالتزام) القائمة على توصيف سطحي مفاده أن يكون الأدب والفن معبرين عن تجربة الإنسان وأحلامه وحقه في الحرية والعدل. وهو سلوك لا يقل فانتازية عمن يسعى إلى تلقين الطائر فنّ الطيران، فيما هو يمعن في قص أجنحته بضراوة الجزار جاهل المهنة.
هذا ما يمكننا وصفه الآن بأحد أكثر الأخطاء فداحةً، التي تعرّض لها جيلنا، فيما هو يصوغ تجاربه المبكرة في الأدب والفن، عندما كان يصدر عن حلم تغيير العالم نضالياً، فعندما يكون النضال السياسي والحزبي مشروعاً لأي إنسان كان، ليس من الحكمة القول بحتمية خضوع هذا المناضل (عندما يكون مبدعاً) للحدّ الضاري نفسه الذي يفسد الكتابة الصادقة، ويفتك بالجوهر النقي في فطرة المبدع.
٭ ٭ ٭
الخسارة هنا، بعد ذلك الدرس الفادح، هي أن يذهب بعض الأجيال الجديدة (هنا وهناك وهنالك) إلى تجاربهم دون أن يأخذوا هذا الدرس بقوة الموهبة ويقظة الوعي. وهذا بالضبط ما صرتُ أرقبه في السنوات الأخيرة متمثلاً في عدد لا بأس به من نشاطات الكتّاب الشبان (كتابةً وتنظيراً وادعاءً متفاقماً). غير أن هذه الاستعادة البائسة لوهم توظيف الأدب والفن قد طلع بها علينا عددٌ من الفتية الجدد بدوافع دينية وطائفية أكثر بؤساً مما كنا نظن أننا تعثرنا به في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، فقد بدأ البعض يصوغ تجاربه كما لو أنه يواصل طقوسه التي يراوح في أروقتها بين المسجد والحسينية، بين حلقات الذكر ورداديات اللطم. وسوف نصادف هذا في فعاليات تمتد من الكتابة ولا تنتهي في الرسم. فيتحول الأمر إلى خطاب مرتجل من مزاعم الأدب والفن، دون أن يتوفر لدينا ما يمت إلى الإبداع بصلة، بل إن هؤلاء لم يعودوا يعتنون بأبسط الشروط البديهية التي يتطلبها العمل الفني. ولعل في كثير من تجارب هؤلاء الفتية المستجدين توهّم ساذج بأن النضال هو ما يفعلون.
وسوف يغيب عن هؤلاء أن الإبداع بعد كل ذلك التاريخ الإنساني، هو أمر لا يخضع لمثل هذه الأوهام، ويستطيع من يفعل ذلك أن يسمي صنيعه أي شيء إلا أن يكون أدبا أو فناً. وعليهم خصوصاً، فيما يستغرقون في وهمهم، أن ينتبهوا إلى أن ثمة شحناً دينياً ومذهبياً سوف ينتج عن توظيف عملهم لتلك الغايات، قصدوا ذلك أم لم يقصدوه، أدركوا ذلك أم لم يدركوه، شعروا بذلك أم لم يشعروا.
ليس من الحكمة أن يكرر الفتية المستجدون في الأدب والفن الخطأ الفادح ذاته الذي أنقذتنا كتابتنا وفننا منه مبكراً، لكن إذا أرادوا أن يفعلوا ذلك، عليهم أن يسمحوا لنا بفضح أي تشويه أو تخريب لحقل إبداعي لا ينتسب إليه إلا الحر والبريء.
٭ ٭ ٭
المأزق المضاعف يكمن في أن هناك من سوف يطرح علينا تنظيراً لذلك الصنيع بوصفه التفاتاً غير مسبوق في تاريخ الكتابة والفن في الحياة الثقافية (هنا وهناك وهنالك) معتبراً أن أحداً لم يذهب، من قبل، إلى تسخير الأدب للفكرة الطائفية.
فهذا صحيحٌ لا يدعو إلى الاستنكار، لأنه من بين أجمل سلوكنا الحضاري البالغ الرحابة والدال على الأفق الإنساني الذي يتميز به الإبداع. فإن أديباً أو كاتباً، في حدود علمنا الحديث، لم يذهب إلى شحن الكتابة والفن بالغايات والأوهام الدينية زاعماً أنه يصنع إبداعاً، فكل ما كان ينتج كان يدخل في الحقل التقليدي المأثور ذاته (هنا وهناك وهنالك): «الأدب الديني السلفي» و»أدب الطفّ الحسيني». وهما أدبان يتحركان في حقلين بعيدين عما يعرف بالتعبير الإبداعي الحر، الصادر عن مخيلة المبدع وهو النقيض الكونيّ لكل ما يتصل (بواجب خدمة العَلم) الديني والطائفي، أو الخضوع لحدود الدين بوصفه سلطة ردع، تأخذ الآن في تشغيل كامل آلياتها (بنظام أكثر ضراوة من الأيديولوجيا المألوفة) من أجل العودة بالمجتمع نحو وهدة القبور بدوافع سلطة الماضي. ولن يخلو هذا السلوك من الخفة والارتجال ومن بؤس التنظير الفجّ، بالحجج ذاتها التي ترى في تلك الرجعة ضرباً من الفن والأدب، وسوف تصقل ذلك الوهم بما تروج له خطابات الدين والطائفة الملوثة بأكثر أوهام السياسة المهيمنة في الأقاليم العربية.
وفي مثل هذا التنظير الفج تسويق بالغ الجهل والادعاء، مستقوياً بخطاب الوهم الديني، الأمر الذي يمكن أن يفسد العديد من المواهب (المحتملة) من جهة، ويفتح الباب مشرعاً لكثير من فاقدي الموهبة وناقصي المعرفة والمهرّجين من جهة أخرى.
٭ ٭ ٭
أكثر من هذا، سوف يتوفّر لهذه الاجتهادات تشريعٌ معنويٌ مدعومٌ من قيادات تزعم أنها تشجع الخطاب السياسي بشتى تجلياته، معتبرة أن الأدب هو أحد تجليات الإخلاص والإيمان للدين، في حين أنها لا تفعل شيئا غير العمل على تخريب البوادر المحتملة في حقل إبداعي لا تفقه منه سوى «حتمية الوظيفة».
وعندما قلت إننا في تجربتنا السالفة، كنا عرضة لأكثر القيادات جهلاً بطبيعة الأدب والفن، وضرورة الحريات المطلقة المخيلة، فإن حظ الأجيال الجديدة، ممن يستغرقون في وهم توظيف وإخضاع الإبداع والفنون للخطاب الديني والمذهبي والطائفي هو الحظ الأسوأ بامتياز، إذ يبتلون فعلا بأكثر القيادات غباء وبلادة عندما يعتقدون بأن الإبداع هو خادم مشروعهم الديني أو المذهبي.
٭ ٭ ٭
ليس من الحكمة أن يكرر الفتية المستجدون في الأدب والفن الخطأ الفادح ذاته الذي أنقذتنا كتابتنا وفننا منه مبكراً، لكن إذا أرادوا أن يفعلوا ذلك، عليهم أن يسمحوا لنا بفضح أي تشويه أو تخريب لحقل إبداعي لا ينتسب إليه إلا الحر والبريء.
شاعر بحريني
مقال مهم وعميق شكرا قاسم