ألم تتساءل يوما عن أسباب ما يطرأ عليك أو على المجتمع من تغييرات، وقد تكون جذرية في الذوق أو السلوك؟ ألم يؤرقك الهاجس المتمثل بكيفية حدوث هذا التغيير عليك بدون أن تعي أو تدرك؟ فالوقوع في هوة التغيير قد يحدث بشكل سلس، لا تدري مبدأه، ولا تستطيع السيطرة على أبعاده.
ففي الآونة الأخيرة ـ على سبيل المثال ـ طرأت على مقاييس الجمال – لدى كل من المرأة والرجل على السواء – تغييرات غير مفهومة، وبمحاولة استقصاء الظاهرة يلاحظ أن مقاييس الجمال تتغير من حقبة لأخرى، والغريب في الأمر أننا في كل حقبة نتقبل هذا التغيير بصدر رحب. فمثلا، في العصور القديمة كان من أهم مقاييس الجمال عند النساء هو تمتعها بوزن زائد، وكلما زاد وزنها دلّ ذلك على أنوثة طاغية.
وبالمقارنة، يلاحظ أن مقاييس الجمال الخاصة بالنساء حاليا تشدد على النحافة الزائدة، ويا حبذا لو برزت بضع من عظام الجسد؛ فجمال النساء حاليا يكمن في الرشاقة، التي على إثرها ظهرت تجليات أخرى إزاء الجمال ومقاييسه، للحفاظ على تلك الرشاقة ومن أهمها المداومة على أداء الرياضة البدنية. ومن الغريب أيضا، أن ذلك المفهوم انتشر كانتشار النار في الهشيم.
وفيما يبدو أن تلك الظاهرة كانت الأقل ضررا وصدمة للباحثين في أسباب هذه الظاهرة؛ حيث أن المفاجأة الكبرى هي تغيير مفهوم الأناقة بشكل عام. فبعد أن كانت قمة الأناقة الملابس الباهظة الخامات اللافتة بقصاتها المبتكرة، صارت الملابس الممزقة المتسخة هي قمة الأناقة، ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل صارت قيمة الملابس تكمن في مقدار تمزقها واهترائها واتساخها، بل مدى قدرتها على كشف أجزاء البدن.
وبالوقوف عند تلك الظاهرة التي تتلاعب بالذوق والسلوك والأخلاق، بشكل واضح نجد أن تلك التغييرات لا تأتي بشكل عفوي، بل إنها خطوات مدروسة تسعى إلى السيطرة على الوعي الجماهيري وتشكيله، وفقا لخطط مسبقة، ولقد تنبه لذلك الأمر العديد من المفكرين والفلاسفة منذ عقود طويلة. ومن أجل حبك التلاعب بالأدمغة والأذواق يلاحظ طرح العديد من الخيارات التي هي في الأساس وجه واحد، لفكرة واحدة فقط – وإن اختلفت أيديولوجيا الطرح – ومن ثم يتوهم الفرد أنه هو من قام بالاختيار، في حين أن الفكرة كانت مطروحة مسبقا وليس لفرد أي خيار حتى يرفضها أو يبحث عن حقيقتها أو حتى مدلولها.
بعد أن كانت قمة الأناقة الملابس الباهظة الخامات اللافتة بقصاتها المبتكرة، صارت الملابس الممزقة المتسخة هي قمة الأناقة، ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل صارت قيمة الملابس تكمن في مقدار تمزقها واهترائها واتساخها، بل مدى قدرتها على كشف أجزاء البدن.
ومن فلاسفة العصر الحديث الذين تنبهوا لتلك الظاهرة كان الفيلسوف الفرنسي الجزائري المولد لوي بيير ألتوسير (16 أكتوبر/تشرين الأول 1918-22 أكتوبر 1990) عند شرحه للأيديولوجيات الماركسية. وكانت نظريات ألتوسير من القوة ما جعلها تؤثر على أجيال لاحقة من المفكرين والفلاسفة الفرنسيين الذين أثروا العالم بنظرياتهم وأفكارهم، مثل ميشيل فوكو، وجاك داريدا وجوليا كريستيفا ورولان بارت، وجيل دولوز.
ويؤكد ألتوسير في كتاباته أنه عندما يعتنق المرء إحدى الأيديولوجيات فإنها تعمل على السيطرة على أفكاره وأفعاله. وعمل ألتوسيرعلى إيضاح هذا المفهوم عند مناقشته لمعنى كلمة «فرد تابع» الذي يحمل في طياته ازدواجية في المعنى. فقد يشير معنى المصطلح إلى «شخص لديه وكالة ما أو حيثية»، وعلى النقيض تماما قد يعني «شخصا واقعا تحت هيمنة سلطة عليا». والمحك هنا هو نوع الأيديولوجية التي يعتنقها الفرد التابع.
ومن ثم صاغ ألتوسير مصطلح «المساءلة» (Interpellation) الذي يبحث في طبيعة ووظيفة الأيديولوجية، وفي الوقت نفسه في طبيعة ومعنى مصطلح الفرد التابع. وفي هذا الإطار يعتقد ألتوسير أن «المساءلة» تصف العملية التأسيسية للأيديولوجيا، التي من خلالها يمكن استدراج أحد الأفراد، في المرحلة التجريدية قبل أن يكون أيديولوجية محددة، وفي هذه المرحلة تتم تغذيته بإحدى الأيديولوجيات عينها، التي من بعدها يصبح فردا يتميز بسلوك ما.
ومن الممكن تطبيق ذلك المفهوم في معناه المبسط ـ على سبيل المثال ـ على صناعة الأفلام في يومنا هذا. فجميع الأجيال السابقة تتساءل عن انحدار الذوق وكيف اختفت منظومة أفلام الزمن الجميل، التي تتميز برقي المضمون والموضوع، وعلى النقيض يمجّون الأفلام التي تروج للعنف وانحطاط الأخلاق. في حين نجد أن من ينجذب لذلك اللون من الأفلام العنيفة المنحدرة الذوق، الشباب الذين خرجوا توهم من الفئة العمرية التي كانت تميزهم كأطفال، وقد تنجذب لها أيضا فئات عمرية أكبر، أو حتى بعض الأفراد البالغين الناضجين ممن لم يحظوا بكم مناسب من التعليم والثقافة، أو ممن ظلوا طوال حياتهم على هامش الحياة؛ ومن ثم وجدوا في تلك النوعية من الأفلام معلما. وعلى هذا يلاحظ من ينظر بعين فاحصة للعملية برمتها أن شركات الإنتاج هي المستفيد الوحيد من الترويج لتلك الفكرة التي جعلت منها هاجسا مسيطرأ على العقول جمعاء، شاملة بذلك من يمجون هذا الطرح الأيديولوجي الذين شيئا فشيئا سوف تستدرجهم الفكرة؛ حيث سوف تبدأ في مستهل الأمر وكأنها محاولة للاستطلاع والنقد، لكنها تنتهي إلى الوقوع في براثن هذا الطرح الواحد؛ ومن ثم تعددت الأيديولوجيات المتبعة، ولكن في نهاية المآل تم تحقيق النتيجة المرجوة عند تقديم هذا الطرح الغريب، ألا وهي: هيمنة الأفلام التي تدعو للعنف ونبذ السلوك الراقي.
وبالنظر إلى أفلام فترة السبعينيات، يلاحظ أنه قد اعتراها تغيير جذري سلخها عن رقي أفلام الستينيات وموضوعاتها العميقة، التي قد تكون مأخوذة عن أعمال أدبية شهيرة؛ ولقد ساد أغلب أفلام تلك موضوعات إيروتيكية دخيلة على المجتمع الشرقي، وترويج لأزياء السبعينيات التي اتسمت بالتحرر الشديد، ولقد تفاقم ذلك التدني عند نشر مجموعة من القيم والسلوكيات الدخيلة على المجتمع الشرقي. وكان صدى ذلك التدني هائلا على الحياة الاجتماعية والثقافية؛ حيث انتشر التحرر في الملبس، ومطالبة المراهقين والشباب بحقوق دخيلة على مجتمعنا المحافظ، بل انتشرت في المجتمع فئات تدعى «الهيبيز» تدعو للحرية الكاملة وتعاقر الكحوليات وتتعاطى المخدرات.
الأيديولوجيا لها القدرة على خلق وعي جماهيري في إحدى المجتمعات، الذي قد يكون من القوة والرسوخ ما يجعله ينتشر ليس فقط بين الدول المختلفة، بل قد يكون عابرا للقارات.
وبدراسة تلك الظاهرة عن كثب، تبين أن تلك السلوكيات ما هي إلا تقليد بدون فهم لظاهرة انتشرت في أوروبا، التي كان السبب في ظهورها المفكر والفيلسوف الفرنسي جون بول سارتر، الذي أصّل الفلسفة الوجودية في فرنسا بعد أن نقلها عن الفلاسفة الروس والألمان عن طريق محاضرات نارية، تكالبت عليها جميع فئات المجتمع وخاصة الشباب.
ففي دعوته الإنسانية، دعا لإعطاء المزيد من الاحترام لحريات الفرد وإرادته الحرة للتعبير عن الذات أعطى للحريات الفردية الجانب الأكبر. بسبب أن الحرية كانت مطلبا عالميا، خاصة أن العالم كان قد خرج منذ فترة ليست بالبعيدة من تبعات الحرب العالمية الثانية؛ فانتشرت مفاهيم سارتر ليس فقط في جميع أرجاء أوروبا، ولكن أيضا في العالم أجمع، لكن نجد أن تلك الفلسفة انزوت فجأة، عندما تنبهت الدولة إلى أن الوعي الذي صنعته وجودية سارتر كان ذا صدى مدمر، حيث التقطها العديد من الفلاسفة والمفكرين وأججوها ببث المفاهيم العبثية ومسرح القسوة، التي نتج عنها انتشار «فلسفة الانتحار»، التي هي تتويج لحريات الفرد، والتي تخوله الحق في إزهاق روحه لطالما كان غير سعيد في حياته. وعلى إثرها انتشرت حوادث الانتحار الجماعي.
ونستخلص من ذلك أن الأيديولوجيا لها القدرة على خلق وعي جماهيري في إحدى المجتمعات، الذي قد يكون من القوة والرسوخ ما يجعله ينتشر ليس فقط بين الدول المختلفة، بل قد يكون عابرا للقارات. وبتطبيق نظرية «المساءلة» لألتوسير نجد أن الأيديولوجيا قد جعلت من «الفرد الحر» الذي له الحرية في تكوين ما يحلو له من مفاهيم «فردا تابعا» لقناعات غريبة قد يرفضها إذا لم يكن قد تم بث ذلك الوعي في داخله.
——————–
٭ ترجمت مصطلح (Subject) بـ«فرد تابع» لأن المعنى المرجو لا يتأتى أبدا إذا تم ترجمتة بـ«شخص».
٭فيما ترجمت مصطلح (Interpellation) بـ«مساءلة» لأنه حتى الآن لم تتم ترجمة هذا المصطلح بشكل رسمي في العالم العربي، وكلمة مساءلة هنا تفيد المعنى المنوط للمصطلح الإنكليزي والذي يعني «يتساءل بشكل رسمي عن سياسة ما أو شأن حكومي».
٭ أكاديمية سعودية
تحليل عميق مبنى على اساس فلسفى و تطبيقى احست يا دكتورة
أثار لدي ما كتبته السعودية (نعيمة عبدالجواد) تحت العنوان (الخطاب الأيديولوجي واختيار الوهم) وحرصها على إظهار أمانتها اللغوية، في موضوع الترجمة بين اللغات سؤال:
ما الفرق بين مصطلح (التابعية) في دول مجلس التعاون في الخليج العربي، وبين (الجنسية) في بقية الدول الأعضاء في نظام الأمم المتحدة، لتعريف معنى (الوطنية) لأي مواطن في دولة الحداثة (الأوربية)، بعد الحرب العالمية الثانية؟!
خصوصا بعد أن بدأت أمريكا في نشر (لغة العولمة) من خلال مشروع مارشال عام 1945 والإقتصاد الإلكتروني عام 1992 من خلال ربط كل أسواق المال للأسهم بواسطة الآلة (الإنترنت)،
لأن مفهوم المواطن الصالح ومفهوم الحكومة في أمريكا، يختلف تماما عن مفهوم المواطن الصالح ومفهوم الحكومة في أوربا، خصوصا في ضوء معنى المعاني (للمساءلة والمحاسبة) لغويا وقانونيا ودستوريا، بواسطة الإنسان أو الموظف والمسؤول على أداء الأمانة في أداء الوظيفة أم لا؟!
لأن معنى الترجمة في لغة دولة الحداثة يعني النقل الحرفي ( مثل البيروقراطية والديمقراطية والديكتاتورية)، بينما الترجمة في لغة العولمة والإقتصاد الإلكتروني، تعني التوطين (التعريب من خلال إيجاد جذر وصيغة بنائية مناسبة مثل (الشّابِكة) بدل (الإنترنت)).
وما علاقة ذلك بما قاله دلوعة أمه (دونالد ترامب) في عام 1988 عن (جنة رجال الأعمال) في دول مجلس التعاون في الخليج، مقارنة حتى بأمريكا، التي من وجهة نظره، كانت مقصرة بالمقارنة، في هذا المجال حينها؟!?
الأخت الكريمة نعيمة،
أنسب ترجمة عربية للمصطلح الماركسي المُصاغ بالإنكليزية (Interpellation) هي المقصود الوزني الانعكاسي بـ«الاسْتِسْآل» وليس بـ«المساءلة»، نظرًا لأن المصطلح الإنكليزي مكوَّن من المقطع البادئ inter الذي يعني «بين» مضافًا إليه الصيغة الاسمية (اللاتينية) من الفعل appeal الذي يعني «يستأنف (دعوة قضائية، إلخ)». وهكذا، على غرار «الاستئناف»، فإن المقصود الوزني الانعكاسي بـ«الاسْتِسْآل» إنما هو الالتماس المطاوعي للسؤال بنيابة فاعلية داخلية، لا بنيابة فاعلية خارجية، كما هي الحال في «المساءلة»!
شكرا للسيدة نعيمة عبد الجواد على موضوعها الشيق شخصيا تساءلت
–
ابان انتشار موضة حلق الشعر لدرجة الصلع بين الشباب المغاربة في التسعينات
–
تقليدا لنجوم رياضية وكان الى وقت قريب من تلك الصرخة حلق الشعر بذلك المستوى
–
عنوانا على المنتهية مدة محكوميتهم حديثا من السجون انتشار هذه الموضة بين شباب
–
مغلربة حينها دفع بي للتساؤل في ظرفية الموضى و محدودية زمنها ربما يكون للسوق
–
حسب تعبير ألتوسير الدور الكبير في توجيه الاذواق و التحكم في زمنها
–
تحياتي