لم تكن أحداث ونتائج الحادي عشر من أيلول/سبتمبر لمصلحة الولايات المتحدة، بل يمكن القول إنها صبت لصالح كل من إيران والصين وروسيا. والسبب في ذلك لم يكن عملية القاعدة التي استهدفت ألوف المدنيين في برجي التجارة العالمية والبنتاغون في العاصمة الأمريكية، بل كان بصورة أوضح توظيف العملية من قبل الادارة الأمريكية لأهداف سياسية مدروسة. كانت عملية القاعدة هدية للمحافظين الجدد، لكن بنفس الوقت أخطأت هذه المجموعة التي سيطرت على قيادة الولايات المتحدة تقدير الموقف وذلك عندما وجهت قوة الجيش الأمريكي التدميرية نحو أهداف سياسية يصعب تحقيقها. سيسجل التاريخ أن تلك الحروب أفقدت الدولة الكبرى الاولى والمنتصرة في الحرب الباردة توازنها وميزانياتها. إن ردة الفعل الأمريكية من خلال غزوها في حينها لكل من افغانستان في 2001 والعراق 2003 استنزف الولايات المتحدة وأدى بنفس الوقت لتخليص إيران من عدوين لدودين واحد في العراق والثاني في افغانستان. هكذا مرة واحده لم يعد العراق يوازن ابدا إيران لا من قريب ولا من بعيد.
منذ 2003 انتقلت الولايات المتحدة من التركيز على مصر ومناطق بلاد الشام الى التركيز بصورة أكبر على منطقة الخليج. هذا عنى أن ثقل الشرق الأوسط انتقل هو الآخر نحو الخليج، هنا بالتحديد مع اختفاء النظام العراقي عن الساحة برزت بعد 2003 السعودية بدور جديد أكثر قوة في الإقليم. لكن الولايات المتحدة لم تكتف بتغير النظام العراقي والأفغاني، فقد أعلنت الحرب على الإرهاب منذ 2003، ولازالت تلك الحرب مستمرة ليومنا هذا. لكنها أعلنت في ذلك الوقت أن إيران هي أحد أضلاع محور الشر، وهذا وضح لإيران بأنها قد تكون الهدف التالي، ولهذا استعدت للعودة لسياسات تصدير الثورة وتجيش الحالة العربية لمصلحتها. بعد 2003 بدأ التوسع الإيراني يأخذ أبعادا جديده، لقد انكشف الوضع العربي بسبب الدور الأمريكي في حرب 2003.
وهذا يعني في الرؤية الإستراتيجية سيطرة حالة استنزاف مستمرة للدولة الكبرى في منطقة الشرق الأوسط خاصة في العراق وفي أفغانستان ثم في اليمن( قبل حرب اليمن) وفي مناطق اخرى. لهذا عندما جاءت الأزمة الاقتصادية العالمية في 2008 تراجعت الثقة بالكثير من بيوت المال الأمريكية.
الدولة الكبرى الأمريكية في هبوط وتراجع، وما سياسات ترامب الراهنة إلا تأكيد على أن رحلة الهبوط الأمريكي تجاوزت منتصف الطريق. إننا نقترب من حالة إقليمية وشرق أوسطية ما بعد أمريكية كما نقترب من عصر ما بعد النفط
إن الخلفية التي أتت بأوباما رئيسا للولايات المتحدة 2009، جعلته الرئيس الأكثر سعيا لإخراج أمريكا من الورطة التي سببتها الحروب السابقة، لكن أوباما، بنفس الوقت، عمل جاهدا لإخراج الولايات المتحدة من أزمتها الاقتصادية. لقد نجح أوباما في تهدئة الكثير من المواقف المحيطة بالدولة الكبرى، وكان من أهمها الاتفاق النووي مع إيران في العام 2016. ذلك الاتفاق يعني عمليا بداية جديدة لتنظيم العلاقة بين إيران والعالم بهدف منعها من امتلاك السلاح النووي في المدى القريب والمتوسط.
لكن الموقف تعقد مع ترامب الذي أنتخب رئيسا للولايات المتحدة عام 2017. إن شعار أمريكا أولا في ظل حالة الشعبوية الأمريكية خلق الكثير من الشروخ مع الولايات المتحدة. هكذا بدأت تصريحات ترامب من شاكلة: «الخليج لا يحيا بلا دعمنا»، ثم تصريحات مثل: «إن لم تدفعوا لن أحميكم»، ثم أعلن: «أمريكا لم تعد تحتاج للنفط». في هذه الأجواء قام الرئيس ترامب بالغاء الاتفاق النووي من طرف واحد، ثم اعطى على ما يبدو أنه موافقه أو غض للنظر عن قيام عدة دول خليجية بمحاصرة قطر. لكنه في ظل هذا العبث أرسل لقطر وزير خارجيته تيليرسون لإيجاد حل وسط وتهدئة للموقف وتوقيع اتفاق ضد الإرهاب. هذا التناقض في سياسات الدولة الكبرى أفقدها الكثير من الثقة. في هذا الإطار أصبح لتركيا قاعدة عسكرية واتفاقات عسكرية في منطقة الخليج، بينما تستعد المنطقة للمزيد من التدويل في ظل الارتباك الأمريكي المستمر.
لقد بدا للكثير من المراقبين في ظل توتر علاقات البيت الابيض مع أوروبا ومع الصين والمكسيك واحيانا كندا ان الولايات المتحدة في ازمة. وقد توج الرئيس ترامب في 2019 كل هذا الوضع بانسحابه المفاجئ أمام تركيا متخليا عن الأكراد. حتى الناتو العربي، سقط ولم يتبلور. كما لم يستطع ترامب تأمين حماية حقيقية من الهجمات الصاروخية لأهم منشأة نفطية في العالم وهي أرامكو الواقعة في المملكة العربية السعودية. ومن جهة أخرى إن قيام الرئيس ترامب بالترويج بقوة لصفقة القرن حول القضية الفلسطينية وقيامه بنقل السفارة الأمريكية للقدس ثم اعترافه بالاستيطان في الضفة الغربية 2019 ساهم بنزع ما تبقى من احترام للسياسات الأمريكية في الشرق الأوسط.
إن الشيء الذي لم تنتبه اليه الولايات المتحدة أن تلك الحروب والاستنزاف المالي والبشري المرافق لها ساهم في تشتيت انتباه الولايات المتحدة عن صعود الصين الهائل. الصين هي المستفيد الاول من الاهتزاز الأمريكي، وهي نفسها المستفيد من التورط الأمريكي الجديد في دائرة صراع مع إيران. ملخص القول أن الدولة الكبرى الأمريكية في هبوط وتراجع، وما سياسات ترامب الراهنة إلا تأكيد على أن رحلة الهبوط الأمريكي تجاوزت منتصف الطريق. إننا نقترب من حالة إقليمية وشرق أوسطية ما بعد أمريكية كما نقترب من عصر ما بعد النفط. هذه تحديات جديدة ستزداد أهميتها في المدى المنظور والمتوسط.
استاذ العلوم السياسية في جامعة الكويت
تشتت امريكا ليس له علاقة بصعود الصين ، فهي كانت ستصعد على جميع الاحوال ، والامر الثاني هو ..هل حقا ما فعله ترمب من سياسات خرقاء ومتناقضة كما توصف ليس مخطاطا له ؟ اليس هذا ايضا من السياسة التي تبدو خرقاء ولكنها في مضمونها فعالة ولها تأثير قوي ونتائج ملموسة ! الاهداف النهائية ونتائجها هو المعيار الحقيقي لأي سياسة وليس الاسلوب او الطريقة وفي نهاية المطاف آتت سياسات ترمب الخرقاء اكلها وحققت النتائج المطلوبة وفي خضم هذا كله ظهرت امريكا بريئة وطاهرة وشريفة ولكن الشرير هو الرئيس … لاتكرهوا امريكا الشريفة ولكن اكرهوا الرئيس السيئ .
أعتقد أن أمريكا هي المستفيد الأول، على النقيض الكامل من تحليلات الأخ شفيق ناظم الغبرا… لاحظ أنه لا ترامب، ولا أي من أسلافه كذلك، يستطيع أن يقدم على أي فعل حاسم، وخاصة فيما يخص السياسة الأمريكية الخارجية، دون الموافقة المشتركة من أعضاء مجلسي الكونغرس بالإجماع، وحتى دون الموافقة من إدارتي البنتاغون والـ CIA، إن اقتضى الأمر كذلك في الحالات الحساسة جدا… فما يبدو للعيان بأن أمريكا في تراجع وهي الخاسرة، في الظاهر،ليس سوى سياسة تمويهية لإعطاء ترامب التجاري “الحرية” الكاملة للتصرف على “طريقته الخاصة” بغية حلب الدول الغنية في المنطقة (كالسعودية والإمارات) كيما يساهم في الحفاظ على التوازن الاقتصادي الأمريكي عموما… !!!