الخمسون يوما الأولى

حجم الخط
0

مرت خمسون يوما على عملية الجرف الصامد؛ خمسون يوما تبادل فيها الجيش الاسرائيلي وحماس الضربات؛ خمسون يوما تضرب اسرائيل فيها حماس وتغتال كبار قادتها من جهة، لكن تصيبها قذائف هاون وقذائف صاروخية وجرحى وقتلى ايضا؛ خمسون يوما لم يرفع قطاع غزة فيها يديه مستسلما. وقد التزمت الحكومة والجيش الاسرائيلي أن تكون هذه معركة قصيرة وسريعة لا يُشك بعد أن تنتهي فيمن هو المنتصر. لكن نهايتها ما زالت لا تُرى في الأفق بعد أكثر من شهر ونصف شهر. واذا كان يوجد في الجيش ضابط واحد قدر أن القتال سيستمر هذا الزمن الطويل جدا فليقف.
إن خمسين يوما زمن صالح للفحص عن انجازات هذه المعركة واخفاقاتها الى الآن. وهو زمن طويل بقدر كاف لاستيضاح ماذا حدث لاسرائيل في مواجهة العدو الذي يفترض أن يكون «الأسهل» في المنطقة، والفحص عن أنه كيف حدث أن جُر الجيش الى حرب استنزاف والتفكير في أنه كيف خسرنا بلدات الجنوب. يمكن أن نسمع قرع أقدام قادة الألوية الخائبي الآمال حول القطاع من الكرياه في تل ابيب، ويمكن أن نسمع صراخ السكان في خط النار من دار الحكومة. فيحسن أن يُفحص عن سبب ذلك الآن باعتباره استخراجا للدروس.

رئيس الوزراء ووزير الدفاع

يجب أن توجه النظرة الفاحصة أولا وبصورة طبيعية الى الرجلين اللذين يقفان فوق قمة الهرم الامني وهما بنيامين نتنياهو وموشيه يعلون. أظهر هذان الاثنان ضبطا كبيرا للنفس طوال الخمسين يوما الاخيرة وحظيا بذلك بالثناء حتى من خصومهما.
ومن جهة اخرى، ولا توجد طريقة لطيفة لنقول ذلك، المشاعر في الجيش عن وزير الدفاع الذي هذه أول حرب مهمة يقودها، مشاعر قاسية. وقد بدأ ذلك بالخطبة التي أعلن فيها أن علاج الانفاق سيستمر يومين أو ثلاثة، وكان ذلك مسارا طال آخر الامر من اسبوعين الى ثلاثة. وأفضى استقرار رأيه على عدم المجيء الى كيبوتس ناحل عوز في يوم السبت الاخير بسبب تهديد قذائف الهاون الى إضرار أعظم بيعلون. ومع كل الاحترام للشباك، يتوقع من وزير الدفاع أن يُبلغ حراسه أنه يتحمل المسؤولية عن نفسه. وعليه أن يُصر على أن يكون قدوة شخصية في بلدة لا قدرة فيها للسكان ومُربيات رياض الاطفال والاولاد – بخلافه – على أن يتجولوا في سيارة مدرعة جدا وهم يلبسون دروعا واقية.
وأشد من ذلك أن يعلون مع رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو هو الذي وافق على الهدنة الاولى التي اتخذت حتى قبل أن يعالج الجيش الاسرائيلي الانفاق. ومن المثير للقشعريرة أن نفكر فيما كان سيحدث لو نقضتها حماس آنذاك، ولو لم تفعل اسرائيل شيئا لتدمير غزة التحتية. بل عارض وزير الدفاع العملية البرية في بداية المعركة وحينما انطلقت آخر الامر في طريقها كانت محدودة نسبيا وغير كافية. ويتبين من كل ذلك أن رئيس الوزراء ووزير الدفاع يتحملان المسؤولية العليا عن أن هذه المعركة طالت زمنا طويلا دون حسم ودون أفق نهاية.

رئيس الاركان

ثبت الفريق بني غانتس من جهته للاهداف المحدودة التي عينتها الحكومة له، فقد دُمرت الانفاق الهجومية وأصيبت بنية حماس التحتية اصابة قاسية جدا، وأثبتت سلسلة اغتيالات في الاسبوع الاخير أن قيادة الذراع العسكرية العليا للمنظمة الارهابية ليست منيعة. وقد ضوئل اطلاق القذائف الصاروخية وقُضي معه على 800 – 1000 مخرب في القتال. ويقول ضباط كبار في الجيش إن غزة أصيبت بضربة قاسية ستفضي آخر الامر الى هدوء طويل.
إن بني غانتس رجل دمث الخلق وهو رجل صالح حقا، وحينما يُنتقد يبدو أن ذلك النقد يأتي من مكان مختص ومن أقل الاماكن الشخصية امكانا. ومع ذلك يقول اعضاء المجلس الوزاري المصغر ورفاق في هيئة القيادة العامة وجنرالات احتياط إن رئيس الاركان يعطي شعورا احيانا بأنه يريد في الحاصل العام أن ينهي ولايته بسلام.
كانت «خطبة شقائق النعمان» التي دعا فيها سكان الجنوب الى العودة الى ديارهم لا داعي لها، ومن المؤكد أنه يأسف لها، لكن يجب أن نقول في مستويات أعمق إنه لم تنشأ في مدته خطة متعددة السنين واحدة لصوغ مستقبل الجيش، ويمكن أن نتهم الحكومة بذلك لكن يجب أن نقول ايضا إنه لو وُجد رئيس اركان آخر لقلب الطاولة. وكانت النتيجة أن الجيش البري تعفن. وانخفض عدد تدريبات الألوية التي كانت تقف في المعدل على 20، انخفض في السنة الاخيرة الى 5 فقط. ولم تتدرب الكتائب الاحتياطية. وجُففت ألوية المشاة في أعمال عملياتية مدة عشرة أشهر.
صحيح أن ليس كل شيء في ضمن مسؤولية رئيس الاركان، لكنه قاد هو ويعلون تصور أنه يجوز التقليص من نفقة الجيش البري على ألا يكون التقليص من سلاح الجو أو الاستخبارات في الاساس. ولم ينجح الاثنان في أن يعطيا لرئيس الوزراء وللوزراء خريطة التهديدات الحقيقية في الاشهر التي سبقت الجرف الصامد في حين كانت تجري معارك شديدة بين وزارتي الدفاع والمالية. وفي هذا الشأن لا يقل وزراء الحكومة ذنبا إن لم يكن ذنبهم أكبر.

عمليات في العمق

إن الحرب في غزة يعوزها الى الآن عمليات قتالية لامعة وجريئة إن لم تحرز حسما عسكريا فانه يكون لها تأثير نفسي ومعنوي مهم في العدو وفي مواطني اسرائيل ايضا. ونقول من اجل المقارنة إن الجيش الاسرائيلي في حرب لبنان الثانية قام بـ 23 عملية خاصة في 33 يوما، أما في عملية الجرف الصامد فنفذت خمس عمليات كهذه فقط في خمسين يوم قتال.
عرف العدو كيف يقرأ الجيش الاسرائيلي ويستعد بحسب ذلك. فقد أحبطت حماس عملية قوات الصاعقة البحرية مثلا التي نفذت في ايام القتال الاولى، في بدايتها. فانسحب مقاتلو الوحدة البحرية تحت النيران وكان من حسن الحظ أن لم يقع قتلى. وفي الاسبوعين الاخيرين وبتوجيه من يعلون، قوي اتجاه الجمود، فالجيش الاسرائيلي يعمل بطريقة «من الشيء نفسه»: فهناك اطلاق نار من الجو بناءا على معلومات استخبارية، وهو لا يغير طريقة العمل حتى حينما لا يصيب اهدافه. وقد هوجم في الحاصل العام 5085 هدفا منذ بدأ القتال.

الاستخبارات

إن أكبر انجاز استخباري هو سلسلة الاغتيالات الناجحة في الاسبوع الاخير لكبار قادة الذراع العسكرية لحماس مع محاولة اغتيال محمد ضيف. وأثبت اغتيال رجل الاموال من حماس أول أمس للمنظمة مجددا أنه لا أحد منيع وأن سحابة موت تغطي اعضاء حماس، وقد جاء هذا متأخرا في الحقيقة لكن الشباك نجح في التزويد بالمعلومات التي أفضت الى عمليات سلاح الجو الناجحة للقضاء على قيادة حماس العليا.
وفي مجال المعلومات الاستخبارية التكتيكية التي قدمتها شعبة الاستخبارات، حصل قادة الألوية على معلومات استخبارية في الوقت المناسب بصورة مباشرة الى الحاسوب المحمول. وهذه ثورة حقيقية في ميدان القتال. فقبل بضع سنوات فقط كان قادة الميدان يستطيعون أن يحلموا فقط بصلة كهذه بمقر القيادة العام. لكن أمان أضاعت فرصة كبيرة في المستوى الاستراتيجي. إن شعبة استخبارات أفيف كوخافي – وهو الجنرال الذي كان يعتبره كثيرون من ضباط الجيش الاسرائيلي نجما حتى عملية الجرف الصامد – قدم السلعة في هذا الصعيد بصورة جزئية.
مع خطف الفتيان والخروج في عملية «عودوا أيها الأخوة» كان التقدير الاستخباري الخاطيء هو أن منظمة حماس غير معنية بمواجهة عسكرية، وتصرفت اسرائيل بحسب ذلك وجُرت الى الحرب في واقع الامر.
وتشوش شيء ما في الطريق ايضا في قضية الانفاق: إما صورة عرض اللواء لها وإما فهم رئيس الاركان ووزير الدفاع ورئيس الحكومة. فقد كان يفترض أن يترجم غانتس السيناريوهات التي عرضها كوخافي في ألواح العرض والتقارير الى خطة حربية عملياتية موجهة على الانفاق والى تدريب القوات على المهمة والى زيادة عدد وحدات الهندسة المختصة بذلك، لكن ذلك لم يحدث. واضطر قادة الألوية الذين جاءوا الى القطاع في واقع الامر الى الاكتفاء بالحصول على مواقع عيون الانفاق وعلى الامر العسكري «الى الأمام سر». وهكذا اختار كل قائد لواء لنفسه طريقة عمل مختلفة واستُخلصت الدروس خلال القتال، أما الثمن فدفعه جنود كثيرون من دمائهم.

قيادة المنطقة الجنوبية

كان قائد المنطقة الجنوبية سامي ترجمان خاصة هو الذي عرف تهديد الانفاق. فقد كان يحث على الخروج في عملية برية عليها قبل بضعة أشهر لكنه حصل على طلبه قبل شهر فقط حينما كان الجيش الاسرائيلي يقف وظهره الى الحائط. ومع ذلك اعترى النقص مجالات اخرى من ادارة المعركة البرية، في مستوى القيادة احيانا وفي مستويات أدنى في احيان اخرى. إن موت 7 مقاتلين من جولاني في ناقلة جنود مدرعة قديمة؛ والهجوم على الموقع العسكري الذي قتل فيه 5 مقاتلين؛ وحشد الجنود في مناطق استعداد سقطت فيها قذائف هاون فقتلت 9 مقاتلين؛ وقتل 3 من مقاتلي أغوز والجروح البالغة لقائدهم بعد أن تم ارسالهم الى معارك دون دروع واقية؛ وموت ضابط وجندي ايضا في بداية المعركة في سيارة جيب مدنية غير مدرعة – كل ذلك أخطاء عملياتية ينبغي الفحص عنها. إن الحديث في الحقيقة عن أخطاء وقعت اثناء القتال لا اثناء الأمن الجاري، لكنها توجب تحقيقات صائبة واستخلاص دروس.

قادة الألوية

برز من قادة الألوية العقيد أوري غوردن من الشباب الطلائعيين. فقد أظهر هذا الذي كان قائد دورية هيئة القيادة العامة إبداعا في العمليات وبرهن على أنه مصنوع من المادة الصحيحة لهيئة القيادة العامة. فاذا رعوه رعاية صحيحة فسيحظى على الأقل بالمنافسة في ذاك المنصب. لكن الامر أكثر تعقيدا شيئا ما مع العقيد عوفر فنتر قائد لواء جفعاتي. ويعتبر فنتر قائد اللواء ذا الخبرة العملياتية الكبرى. وقد جاء الى العملية وفي سجله قيادة سلسلة عمليات في القطاع، ولا اعتراض على قدراته. واسهامه ضخم في الروح القتالية والجرأة والحيلة والرغبة في الانطلاق الى الأمام والعمل. ولم يعد للجيش الاسرائيلي مثل هؤلاء الضباط المهاجمين. لكن كل هذه المزايا غطت عليها أقوال خلطت الدين بالحرب ووجه إليها انتقاد شديد. أحسنت المعركة الى قائد لواء المظليين العقيد اليعيزر طولدانو. فهو بالضبط مثل قائد لواء المظليين في عملية الرصاص المصبوب في 2008 – هرتسي هليفي الذي سيصبح رئيس أمان قريبا – بنى فيها زعامته، وجمع خبرة في ميدان القتال وأثبت أن تعيينه للمنصب المهم كان حقاً. ويمكن أن نبشر بأن حال الجيش الاسرائيلي ممتاز في عالم قادة الكتائب في الألوية المختلفة.

القبة الحديدية

في قائمة النجاحات المبينة تقف القبة الحديدية فوقها جميعا. فبفضل معطى لا نظير له – اعتراضات ناجحة لقذائف صاروخية أطلقت على مناطق مأهولة بدرجة 90 بالمئة – منحت المنظومة القادة الكبار والمجتمع الاسرائيلي طول نفس وأنقذت حياة عشرات كثيرين من المواطنين. وكانت تلك مهمة غير سهلة في ضوء حقيقة أنه أطلق على اسرائيل 4382 قذيفة صاروخية (وقذيفة هاون) في الحاصل العام. وبازاء هذا التفوق اختارت حماس أن تزيد في اطلاق قذائف الهاون التي هي أجدى. وقد أصابت المنظمة الارهابية انجازا معنويا كبيرا إذ نجحت في جعل سكان الكيبوتسات يهربون من غلاف غزة بازاء هرب سكان الشجاعية وبيت حانون بفضل قذائف الهاون.
وتتبوأ منظومة معطف الريح لحماية دبابات الجيش الاسرائيلي المكان الثاني في قائمة النجاحات. وفي خلال عملية الجرف الصامد استُعملت هذه المنظومة 15 مرة على الأقل ومنعت اصابة شديدة للمقاتلين.

دروس

من الصواب الآن استخلاص دروس من الاخفاقات ومن النجاحات ايضا والاستعداد للمواجهة العسكرية التالية التي يبدو أنها ستنشب في الجبهة الشمالية. وينبغي زيادة عدد بطاريات القبة الحديدية بلا تأخير، الذي يقف اليوم على 9، باعتباره خطوة اولى. بل يجب على جهاز الامن أن يسارع قدر المستطاع الى استيعاب المنظومة الدفاعية «العصا السحرية» التي عملها أن تعترض آلاف القذائف الصاروخية البعيدة المدى لحزب الله التي من الصحيح الى الآن أنه لا يوجد رد عليها.
وينبغي في المجال البري اعادة أكبر قدر من الجاهزية الى الجيش الاسرائيلي مع تأكيد جيش الاحتياط الذي لم يُدرب كما هو مطلوب في السنوات الاخيرة. وينبغي بعد ذلك الاهتمام بتدريع الدبابات بمنظومة معطف الريح والتسلح بناقلات جنود مدرعة مثل «النمر» التي جُمد شراؤها بسبب اعتبارات مالية. فقد رفض جنود احتياط في هذه المعركة دخول القطاع في ناقلات جنود غير مدرعة، ونشأت تحت السطح ازمة ثقة شديدة بينهم وبين الجيش الذي لم يهتم بوسائل مناسبة لهم. إن شراء ناقلات الجنود المدرعة المتقدمة ضروري لمنع حالة «تمرد» لأن والدي جنود الخدمة الالزامية هم الذين دفعوا ثمن اصابة القذيفة المضادة للدبابات لناقلة الجنود في الشجاعية. وفي نهاية الاسبوع الاخير قالت بضع أمهات قلقات: «من لم يشأ الموافقة على مشروع النمر فليُدخل إبنه الى غزة في ناقلة جنود غير مدرعة».
صحيح أن تكلفة كل ذلك باهظة تبلغ مليارات الشواقل، لكنه لا مناص بازاء النتائج غير المرضية والتهديدات التي تزداد قوة. وستضطر دولة اسرائيل الى أن تجري لنفسها حسابا يُبين أيهما أسبق: جودة الحياة أم الحياة نفسها.

يديعوت 26/8/2014‏

يوسي يهوشع

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية