عمل براين ريتشاردسون على ابتكار مفاهيم تعيد الهيبة للمؤلف، ومن ذلك كتابه «مقالات في السرد والخيالية: إعادة تقييم المفاهيم التسعة المركزية»2021، وفيه طوّر تصوراته وما اجترحه من مفاهيم في كتبه السابقة من قبيل اللاطبيعية والخيالية، التي هي ليست مجرد صيغة أسلوبية تسبب الخرق فيغدو السرد غير واقعي، بل الخيالية مفهوم يعطي للخارج السردي فاعلية جنبا إلى جنب فاعلية الداخل السردي. وفي هذا ولادة جديدة للمؤلف، بعد أن أخفى دوره علم السرد البنيوي حين أماته وغيّب فاعليته. فأعادت (الخيالية) له أهميته عبر توزيع الأدوار النصية والقرائية توزيعا جديدا، فيها المؤلف عبارة عن كينونة نصية تعمل على المستوى الداخلي وكيان خارجي يعمل بالتشارك مع القارئ. ومن تبعات (الخيالية) أن يصبح الشكل أو النموذج مفهوما نقديا للنصوص التي تتعارض في محاكاتها السردية مع الواقع بمفارقات فيها تتأكد لا حدية الخيالية كأشكال وبيانات وخطابات وأنظمة.
ومن مقتضيات نظرية ريتشاردسون في (الخيالية) أنها تعني واقعية ما نعيشه من فضاءات تنمو كل يوم وباطراد، ومعها تزداد واقعية ما نتداوله في حياتنا في ظل العولمة وما فيها من وسائط رقمية ووسائل تواصل اجتماعية كفيسبوك وتويتر ويوتيوب والسناب جات والإنستغرام. وهو ما يجعل فهم الواقعية كامنا في اللاواقعية، التي هي حسب منظري علم السرد غير الطبيعي تشمل كل ما هو لا منطقي أو مهمل أو مجهول أو مصطنع أو وهمي أو عجيب، فهذه كلها هي (اللاطبيعية) أو بالأحرى اللاواقعية التي بها نصل الى إدراك واقعية الحياة. ولعل نيتشه هو الرائد في النظر إلى الواقعية بانحراف، وأن الانحطاط هو السبيل إلى فهم الحياة التي لم تعد مفهومة في شمولها. وهذه السعة والشمولية واللامنطقية تتضاد مع التصور العام عند غالبية نقاد الواقعية، كونهم ينظرون إلى الواقعية بحدية وقطعية، أو لنقل بجزئية بوصفها اتجاها أدبيا قد يصور العالم بواقعية فوتوغرافية وقد يصوره بواقعية موضوعية أو نقدية أو اشتراكية أو سحرية، إلخ. لكن في إطار النظر المتسع والشمولي تكون (خيالية) براين ريتشاردسون وجها آخر لعملة واحدة هي الواقعية. فيها المؤلف والقارئ عبارة عن كيان فعلي ولكل واحد منها صورتان، داخلية كإنتاج خيالي، وخارجية كإنتاج معرفي.
والكتاب بفصوله التسعة ومعها المقدمة والخاتمة يصب في باب المعالجة النظرية للمسافة فائقة التباعد بين خيالية السرد وواقعية الواقع، وما يتمخض عنهما من واقعية أدبية لا حدود لها كمفارقة تاريخية وأيديولوجية. وعلى الرغم من أن الكتاب أعلاه عبارة عن مجموعة مقالات مستقلة نشرها المؤلف خلال السنوات العشر الماضية ـ كما ذكر ذلك في المقدمة ـ غير أن ذلك لم يؤثر في بلورة مفهوم الخيالية، ولا في تشكيل السرد ومفارقات هذا التشكيل الواقعي، وما يلتحق به من مفاهيم نقدية تدور حول المؤلف والقارئ، ودوريهما في بناء النصوص السردية غير الطبيعية وإنتاجها.
ومن تلك المفاهيم النقدية التي تأتي في سياق (الخيالية) مفهوم المحاكاة المضادة، وسبق أن طرحه ريتشاردسون في دراساته السابقة، لكنه في هذا الكتاب وسّع آفاق الفهم الفني للتضادية بين السرد والواقع من ناحية الاستجابة القرائية، ناظرا إلى المؤلف والقارئ بشمولية إدراج المؤلف الضمني والقراء الضمنيين في الفاعلية السردية. وهو ما يتقاطع مع نظرية السرد التقليدية التي قيدت المؤلف ونظرت إلى القارئ بتواضع وتراخ. وما دفاع ريتشاردسون عن القارئ والمؤلف، وحقيقة أدوارهما الواقعية سوى ردة فعل اختلافية تريد أن تتلافى الأخطاء التي وقعت فيها السردية البنيوية، ولم تفلح معالجات السرد ما بعد البنيوي في تصحيحها.
ولا خلاف في أن قيام المؤلف بتقديم تعليقات مفيدة للقراء، أو قيامه بتفسير نصوصه، هو أمر ليس بالجديد، لكنه كثر في العشرين سنة الماضية. وهو ما يفسره ريتشاردسون بردة فعل على إغفال دور المؤلف وضياع سلطته التي كان قد حظي بها في القرن التاسع عشر من خلال التمجيد الرومانسي لعبقريته كمبدع له ذاته الواضحة.
وقد عد ريتشاردسون دفاعه عن المؤلف، بأنه ولادة لقارئ جديد، هو غير القارئ الذي أراده منظرو ما بعد البنيوية كيانا يؤدي دوره في فضاء النص، بل هو كائن فعلي على مستوى خارج نصي وعن ذلك يقول ريتشاردسون: (أدافع عن مفهوم مراجعة شاملة لأهمية ما يضعه المؤلفون داخل رواياتهم من تعليقات هي تحديات فكرية وتكون هذه التعليقات أكثر فاعلية مع مؤلفي السرد الرقمي، الذين يتفاعلون مع القراء الفعليين حول معنى أعمالهم وأهمية هذه الأعمال) ومن الطرق المبتكرة في هذا المجال:
ـ تفاعل المؤلف داخل النص السردي مع القارئ الفعلي، والمثال على ذلك رواية «النار الشاحبة» لفلاديمير نابوكوف.
ـ بحث المؤلف عن التنازع بينه كمؤلف ضمني، والقارئ كما في روايات هنري جيمس.
ـ أن يتعدد المؤلف في شكل مؤلفين اثنين ضمنيين، مما نجده في رواية «بحثا عن الزمن المفقود» لمارسيل بروست.
ولا خلاف في أن قيام المؤلف بتقديم تعليقات مفيدة للقراء، أو قيامه بتفسير نصوصه، هو أمر ليس بالجديد، لكنه كثر في العشرين سنة الماضية. وهو ما يفسره ريتشاردسون بردة فعل على إغفال دور المؤلف وضياع سلطته التي كان قد حظي بها في القرن التاسع عشر من خلال التمجيد الرومانسي لعبقريته كمبدع له ذاته الواضحة. وكان وردزورث قد رأى أن المؤلف الشاعر رجل يتمتع بحساسية وحيوية وحماسة وهو العارف بالبشر. ووصفه شيللي بالعندليب الذي يجلس في الظلام ويغني، ورأى إليوت أن الموهبة الفردية في الشعر ليست فيضا تلقائيا للمشاعر وتطايرا في العاطفة، بل هما تعبير غامض، وفيه هروب من الذاتية. وركّز سانت بيف على سيرة المؤلف مفتتنا بهوميروس وشكسبير، لكن هذا الحال تغير مع الشكلانيين فصارت دراساتهم الأدبية تشدد على النص وتستبعد المؤلف والقارئ، وكذلك كان موقف أصحاب النقد الجديد في المغالطة المقصودة والمغالطة العاطفية. وجاءت البنيوية وزادت من التعالي على المؤلف وسخطت على ما له من سلطة ودعت إلى تفتيت هذه السلطة في عدة سلطات ضمن فضاء متعدد الأبعاد فيه تكون الواقعية متجلية ومعها تغدو الحقيقة أوضح.
ومن المفاهيم التي اجترحها ريتشاردسون مفهوم الخطية والتعامد معها أي تجاوزها transgress كسياسة تقليدية في الشكل السردي تكافئ بين النصوص أيديولوجيا دون تأصيل لشكل سردي فريد مؤاخذا ما سماها (السرديات الثقافية الأكاديمية المركزية) التي تهتم بشكل البدايات والنهايات ولا تسمح بإعطاء المضامين أو الموضوعات أهمية فغيبت من ثم فاعليتها. وإذا كانت الخطية والسخط عليها، هما سمة الخيالية، فإن السمة الأخرى لها هي اللاقدرة الواقعية في النصوص الساخرة والخرافية. وقد حاول ريتشاردسون تقديم تصور تعليمي لمفارقات بناء الحبكة التقليدية، التي تقوم على المحاكاة واختلافها عن الحبكة غير التقليدية التي تقوم على اللامحاكاة، وركز على الخيالية Fictionailty واختلافها عن السرد غير الأدبي Nonfictional Narrative الذي يجعل للقارئ الفعلي real reader حضورا مباشرا في السرد.
وتجدر الإشارة إلى أن ريتشاردسون لم يقصر تحليلاته السردية على الأعمال الروائية، بل جمع معها بعض المسرحيات ومنها مسرحية «اللعبة» لبيكيت، مفيدا من دراسة القصة والحبكة والفضاء والانعكاس والجمهور في فهم العمل المسرحي.
كاتبة عراقية