السياسات الأمريكية لم تتغير كثيرا طيلة فترة حكم الجمهوريين لثلاث عهدات متتالية. ثم مجيء بيل كلينتون من الحزب الديمقراطي، وتداول الحزبين للسلطة بعد ذلك بشكل دوري، بوش الابن ثم أوباما والآن دونالد ترامب الذي يتمترس خلف البيت الأبيض، ولا يرغب في مغادرته. ويشككك في نوايا الانتخابات قبل أوانها.
وفي كل هذه المراحل التي احتلت فيها الولايات المتحدة الأمريكية دور الريادة على العالم، بعد تفكك قوة اتحاد الجمهوريات السوفييتية المنافسة لها زمن القطبين، مازالت دوائر الأعمال والهيئات السياسية الأمريكية تتصرف على أساس أنها تستطيع أن تمد في كل حين القيم الأمريكية إلى أبعد أركان الأرض، بدون أن تتحمل الخسائر البشرية والمالية التي يتطلبها عادة إنشاء الامبراطوريات. وهو ادعاء غريب، لا يكون مفهوما إلا إذا كانت النخبة الأمريكية تتصور أن الولايات المتحدة قد أعفت نفسها بطريقة ما من العبء الذي تعين أن تتحمله كل دولة إمبريالية على امتداد التاريخ. ومنذ فترة حكم رونالد ريغان انتقد كثيرون الأثر الرئيسي غير المباشر لرئاسته، والمتمثل أساسا في التغاضي عن عدم المساواة في المجال الاقتصادي في الداخل الأمريكي، وتجاهل التكاليف الاجتماعية للأنشطة الاقتصادية، وإنتاج ثقافة لدوائر الأعمال هي بمثابة بيئة مواتية لكل ذلك. وقد عبّر غودفري هودجسون بوضوح عن هذا المناخ السياسي، معتبرا أن ثبات الدخول على حالها في الولايات المتحدة، وتفاقم عدم المساواة، هما من الناحية الجوهرية النتيجتان الأساسيتان لتصرفات إدارة الشركات، سواء بصورة مباشرة داخل الشركات الصناعية، أو بصورة غير مباشرة كحصيلة للموجات الفكرية السائدة في القطاع المالي. وأدى التحرر من الضوابط السياسية إلى إطلاق يد المديرين، كما ساد مناخ سياسي شجعهم على تقليل الاهتمام بالاعتبارات غير الاقتصادية، وفرضت دوائر الأعمال مزيدا من عدم المساواة. وكان للعقيدة السياسية دور في إيجاد المسوغ لهذا الوضع.
وما يحدث الآن في أمريكا ليس مختلفا عن وضعها خلال رئاسة ريغان. فالظروف نفسها لا تسمح بازدهار ثقافة الرضا والارتياح عند معظم الأمريكيين. وبات واضحا أن الولايات المتحدة، أصبحت مجتمعا منقسما على نفسه، توجد فيه أغلبية قلقة، واقعة بين طبقة دنيا لا أمل لديها، وطبقة عليا تنكر عليها أي التزامات مدنية. وقد لا تكفي صور الاحتجاجات التي تتناقلها وسائل الإعلام، لتعكس حجم الاضطراب الاجتماعي المشحون سياسيا، وحدة التباعد الوطني، وغياب التجانس بين فئات المجتمع المختلفة. وما أشار إليه جون غراي أواخر القرن العشرين مازال صالحا وبقوة، وفحواه ما يتواصل إلى الآن داخل أمريكا من تباعد بين الاقتصاد السياسي للسوق الحرة، والاقتصاد الأخلاقي للحضارة البورجوازية.
أزمة العنصرية داخل المجتمع الأمريكي تؤكد أن أمريكا اليوم ليست النظام المتسم بالتساوي الديمقراطي، كما تحاول أن تدعي ذلك
والأرجح أن يكون تباعدا دائما، وله تبعات كان مؤيد الليبرالية الأمريكية وأبرز روادها خلال القرن العشرين جون كينيث غالبريث قد ناقش بعضها منذ عام 1993، في إشارة إلى أن الجديد في ما يسمى الاقتصادات الرأسمالية هو أن الارتياح المحدود والعقيدة الناتجة عنه هما الآن موقف الكثيرين من السكان. وليس موقف مجرد عدد قليل منهم. وتلك مشاعر تتحرك تحت الغطاء القوي، للديمقراطية. ولو أنها ديمقراطية ليست لجميع المواطنين، وما يحدث من محاكمة سياسية بطلب أمريكي للصحافي الأسترالي جوليان أسانج مؤسس موقع ويكيليكس مثال بارز على وهم الادعاء الأمريكي بحرية الصحافة والرقابة والاستقصاء. وهي فعلا ديمقراطية من يذهبون إلى صناديق الانتخاب، للدفاع عن مزاياهم الاجتماعية والاقتصادية.
ويبدو أن ترامب يراهن كثيرا على هذه الفئة في المعركة الرئاسية المقبلة، إضافة إلى اللوبي اليهودي المؤثر في الأوساط الأمريكية والمؤسسات الرسمية والمدنية. وتكون النتيجة هي وجود حكومة تتوافق مع معتقدات من يشعرون بالرضا والارتياح، وقد يكونون أغلبية من يدلون بأصواتهم في الانتخابات، ولكنها لا تتوافق مع الواقع، ولا مع الاحتياجات العامة، بمثل حصيلة حكم دونالد ترامب المخيبة لآمال فئات واسعة من الأمريكيين، من جميع نواحي حياتهم الاقتصادية والاجتماعية، وهذا التفاوت هو نتيجة للسياسات الأمريكية، وليس نتيجة للضغوط التي تواجهها المجتمعات المتقدمة، كما يحاول البعض تقديمه. والولايات المتحدة على خلاف أي دولة ديمقراطية أخرى في العالم المتقدم، كانت منذ أيام ريغان تتعامل مع الاقتراض الواسع النطاق، باعتباره وسيلة دائمة بدرجة أو بأخرى لتمويل النفقات الحكومية في وقت السلم. وهو ما أضر بمصالح الأجراء العاديين ورجح ميزان من يملكون أصولا مالية. على نحو تحويل هائل للثروة من العمال الأمريكيين المنتمين إلى الطبقة الوسطى الأقل مهارة، إلى أصحاب الأصول الرأسمالية، وإلى ما أطلق عليه الخبير المالي فيليكس روهاتين «أرستقراطية تكنولوجية جديدة يتوافر لها عنصر تعويض يرتبط بقيمة الأوراق المالية».
أزمة العنصرية داخل المجتمع الأمريكي تؤكد من جديد، أن الولايات المتحدة اليوم ليست هي النظام المتسم بالتساوي الديمقراطي، كما تحاول دائما أن تدعي ذلك. وعدم ثقة الجمهور بالنخب السياسية بات واضحا، من جهة التفاوتات الاقتصادية الفادحة داخل الأوساط الاجتماعية. ولم يعد منطق التساوي الديمقراطي، الذي أشاد به دي توكفيل، صالحا لوصف بلد زاخر بالنزاعات الطبقية، والحركات الأصولية. وما سماه غراي «الحروب العرقية التي لم تصل بعد إلى حد الانفجار». كما أنها ليست مجتمع الفرص المتزايدة الذي جسدته سياسة النيوديل لفترة ما بعد الحرب، ورؤية فرانكلين روزفلت التي تقوم على تدخل الدولة من أجل استعادة دورة الإنتاج والاستهلاك.
وارتباك السياسة لا ينذر بحلول لهذه الآفات، التي تفترض مسبقا إصلاح السوق الحرة، وتوفير العدالة الاقتصادية. ومن المشكوك فيه أن يكون هذا الإصلاح ممكنا في نظر كثير من المراقبين للحياة السياسية الأمريكية، التي لا تلتفت إلى مثل هذه القضايا، وساكن البيت الأبيض ينشغل دائما بهاجس البقاء في هذا المكان وتحصيل عهدة رئاسية ثانية.
كاتب تونسي