صادقت اللجنة الرابعة، المختصة بالمسائل السياسية وبتصفية الاستعمار، على مشروع القرار الفلسطيني لطرح قضية استمرار الاحتلال والاستيطان وحرمان الشعب الفلسطيني من حقّه في تقرير المصير، على محكمة العدل الدولية في لاهاي. وصوتت إلى جانب القرار 98 دولة وعارضته 17، وامتنعت 52 دولة. ومن المقرر أن يعرض القرار، في شهر كانون الأول/ديسمبر المقبل، على الجمعية العمومية للأمم المتحدة لإقراره نهائيا. وقد عارضت القرار دول مهمّة ووازنة مثل الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا وإيطاليا، وتعوّل إسرائيل في تحركاتها الآتية على كتلة الـ69 دولة المعارضة والممتنعة، لمساندتها في إضعاف هذا التحرّك، وفي الضغط على المحكمة والتخفيف من حدّة وأثر قرارها المتوقّع، وهي تعوّل أيضا على قدرتها على تقويض ما تعتبره «الانفلات» الدبلوماسي للسلطة الفلسطينية من خلال الضغط الاقتصادي والأمني والسياسي.
مشروع القرار والمسار
جاء مشروع القرار الفلسطيني، الذي أقرت اللجنة الرباعية تحويله إلى الجمعية العمومية، تمهيدا لطرحه في محكمة العدل الدولية، في تسع صفحات ويشمل 19 بندا تفصيليا، طُرح عبرها سؤال شرعية بقاء الاحتلال، واستمرار الاستيطان والضم، وفرض تغيير الواقع وخرق الحقوق الأساسية للشعب الفلسطيني. وليس هنا المجال لاستعراض البنود كافة بالنقد والنقض، ويكفي التوقّف عند البند السادس الذي ينص على «مطالبة إسرائيل، القوّة المحتلة، إلى وقف كل أنشطتها الاستيطانية وبناء الجدار وكل الإجراءات الأخرى التي من شأنها تغيير الطابع والمكانة والتركيبة الديموغرافية للأرض الفلسطينية المحتلة». ولكن لماذا وقف وليس تفكيك الاستيطان والجدار؟ ومنذ متى جرى خفض سقف المطالب الفلسطينية بهذه الطريقة المريبة؟
المكاسب على الساحة الدولية تبقى خفيفة الوزن، إذا لم يحملها نضال شعبي فلسطيني على الأرض ولم يسندها تحرّك عربي فعّال ومفعّل
بالنسبة للاستيطان، ما زالت القيادة الفلسطينية تفاوض، حتى لو لم يعد هناك من يفاوضها، وهي تفاوض بمنطق أوسلو، ومن منطلق الالتزام به، رغم الرفض الإسرائيلي له. ويأتي التفسير للاكتفاء بمطلب الوقف بدلا من التفكيك، بأن موضوع الاستيطان هو من مسائل مفاوضات الحل النهائي. وهذا مطب من النوع الثقيل، والثقيل جدّا، لأنّ مشروع القرار هو نص فلسطيني قانوني ودبلوماسي رسمي مقدّم إلى أعلى هيئة قضائية في العالم، وهو ملزم لفلسطين، ومعنى طرح مطلب وقف الاستيطان هو أن لا إصرار على تفكيك كل المستوطنات، والتذرع بمفاوضات الحل النهائي، وفقا لمنطق أوسلو، «يدل على أنها «مسألة فيها نظر» ومطروحة للتفاوض. وتتضح الصورة أكثر، إذا أخذنا بعين الاعتبار، أن كل الجولات التفاوضية الفلسطينية الإسرائيلية، شملت طرحا بإبقاء كتل استيطانية تحت السيطرة الإسرائيلية، وما نقرأه في النص الفلسطيني الذي أمامنا هو تمسّك بما أفلتت إسرائيل يدها منه منذ سنوات طويلة، ولم يعد مطروحا كاحتمال واقعي. لقد جرى في الماضي طرح مطلب «وقف» الاستيطان كشرط فلسطيني للتفاوض مع إسرائيل (التي لم تلتزم به)، ولكن لماذا يطرح اليوم مجدّدا؟ يبدو أنه يجب تذكير السلطة الفلسطينية بأن المفاوضات ماتت، وجرى التأكّد من وفاتها. أمّا ما جاء في البند السادس من مطالبة بوقف بناء تشييد الجدار، فهو أكثر غرابة، لأن القرار السابق، الصادر عام 2004، للمحكمة التي يجري التوجّه إليها الآن، كان ضرورة تحطيم الجدار بالكامل، وتعويض المتضررين منه، وليس مجرد وقف البناء فيه. وهو في كل الأحوال يناقض ما جاء في البند 11 من الوثيقة نفسها، من مطالبة إسرائيل «بالالتزام بواجباتها بموجب القانون الدولي، المشار إليها في الرأي الاستشاري الصادر في التاسع من حزيران/يونيو 2004، عن محكمة العدل الدولية».
في كل الأحوال، نص البند السادس هو نص تعيس، لأنّه يُخضع مبدأ هدم الجدار لمطلب وقف الاستيطان، بدل العكس: المطالبة بقرار تفكيك الاستيطان تبعا لقرار إزالة الجدار.
بطولة العالم في الوقاحة
«الوقاحة هي أن تقتل أباك وأمك وتطلب الرأفة من المحكمة لأنك يتيم»، وهذا هو بالضبط، ملخّص ومعنى ما قاله سفير إسرائيل في الأمم المتحدة جلعاد أردان، وما صرح به رئيس الوزراء الإسرائيلي المنتهية ولايته يئير لبيد. فقد ادعى أردان أن مشروع القرار الفلسطيني هو محاولة لفرض خطوات من «طرف واحد» ويضر بالعملية السلمية وبالمفاوضات، وكأن العالم لا يعرف أن حكومته قضت تماما على المفاوضات، وعلى إمكانية أن تكون مفاوضات. ثم تناسى أنّه هو نفسه دعم الضم ودعا إليه، ويهاجم المسعى لاستصدار قرار أممي بأن الاحتلال الإسرائيلي تحوّل إلى ضم فعلي. ثم ينقضّ على الفلسطينيين ويتهمهم بعرقلة المفاوضات، متجاهلا الفرملة الإسرائيلية. ويمضي قائلا، إن القرار سيمنح الفلسطينيين مبررا لعدم الجلوس على طاولة المفاوضات، ما معناه أن على الفلسطيني أن يجلس إلى الطاولة حتى لو لم تكن موجودة. هذه وقاحة إسرائيلية معهودة، لكن الغريب أن يرددها، بمنتهى الجدّية، دبلوماسيو دول لها وزنها على الساحة الدولية، ما يستوجب الرد عليها وتفنيدها حتى لو كانت بمنتهى السخافة والصلافة. أردان نفسه هو من أشد السياسيين الإسرائيليين تطرفا، ويحمل عقيدة أرض إسرائيل الكاملة، وعارض على الدوام المفاوضات مع الفلسطينيين، داعيا إلى العمل من «طرف واحد» من خلال تنفيذ مشروع الضم وتكثيف الاستيطان. لبيد لا يقل وقاحة عنه، حيث صرّح بأن القرار «يقوّض أسس حل الصراع، وقد يمنع الولوج في عملية سلمية. الفلسطينيون يسعون لاستبدال المفاوضات (أين هي؟) بخطوات من طرف واحد». لبيد نفسه صرح قبل عدّة أشهر أن حكومته لن تدير أي مفاوضات مع الفلسطينيين تبعا للخطوط العريضة للائتلاف الحكومي.
ماذا ستفعل إسرائيل؟
بعد أن عبّر لبيد عن إدانته وعن رفضه لمشروع القرار الفلسطيني، شكر الدول التي لم تؤيّده وأوضحوا، كما قال، بأن «هذه ليست الطريق لضمان الاستقرار وحل الصراع»، وناشد «الدول التي أيّدت مشروع القرار بأن تعيد التفكير في موقفها، وأن تصوّت ضده في جلسة الجمعية العمومية. الطريق لحل الصراع لا تمر عبر أروقة الأمم المتحدة والمنظمات الدولية الأخرى». الخطوة الإسرائيلية الأولى إذن هي زيادة عدد الدول المعارضة والممتنعة، وهناك عدّة خطوات أخرى ستتبعها حكومة نتنياهو الجديدة، والطواقم البيروقراطية في وزارة الخارجية الإسرائيلية، والأجهزة الأمنية خلف الستار، ومنها: أولا، الاستعانة بالولايات المتحدة ودول أوروبية ودول التطبيع للضغط على السلطة الفلسطينية لتفريغ القرار من مضمونه وأثره. ثانيا، الضغط المباشر على القيادة الفلسطينية وتهديدها بفرض عقوبات اقتصادية وبتضييق الخناق على السلطة أمنيا وسياسيا.
ثالثا، العمل مع الولايات المتحدة وغيرها للضغط على المحكمة الدولية مباشرة لجعل قرارها أكثر ليونة وأقل خطرا، واستغلال أن الدول المعارضة والممتنعة لها وزن كبير وتأثير وازن في كل المؤسسات العالمية بما فيها المحاكم الدولية.
رابعا، مقاطعة المحكمة والادعاء بأن لا صلاحية لها للبت في الموضوع.
خامسا، تحضير ونشر رد مفصّل حول ما سيطرح ويقرر في محكمة العدل الدولية، كما فعلت بعد صدور قرار 2004 بشأن جدار الضم.
الدبلوماسية ليست بديل المقاومة
يندرج مشروع القرار الفلسطيني، الذي أقرّته اللجنة الرابعة، ضمن استراتيجية نقل القضية الفلسطينية إلى الساحة الدولية، وهي من حيث المبدأ توّجه صحيح جاء بعد سنوات عجاف من التعويل على المفاوضات وعلى انتظار المفاوضات. في المحور الثنائي، إسرائيل هي الطرف الأقوى وتستطيع عادة أن تفرض شروطها، أمّا في الحلبة الدولية، فهناك أطراف وعوامل كثيرة تخفف من حدّة انزياح توازن القوى لصالح الدولة الصهيونية، وتمكّن الفلسطينيين من كسب بعض النقاط المهمّة بحد ذاتها. لكن المكاسب على الساحة الدولية تبقى خفيفة الوزن، إذا لم يحملها نضال شعبي فلسطيني على الأرض ولم يسندها تحرّك عربي فعّال ومفعّل.
لقد أصدرت محكمة العدل الدولية، عام 2004، قرارا منصفا بشأن جدار الضم. وعقد الناس آمالا عريضة عليه وعلى إمكانيات استثماره لنصرة الحق الفلسطيني. لكن، وتبعا للتعامل الضعيف معه، بقصد وبغير قصد، ضاع الأثر المنشود وتلاشى معه الأمل المعقود. وقد ظنّ من ظنّ حينها أن وضع القرار على الرف يسهل التفاوض، وكان هذا الظن إثما، وأمّا اليوم فلا مجال للأوهام والظنون، ومن يعتقد غير ذلك فهو في حالة هلوسة. في الحقيقة لا حاجة لقرار ليوضع على الرف أو ليطرح للمقايضة، حتى لا يحصل ذلك يجب التحضير لحملة استغلال القرار الجديد المتوقّع كجزء من فعل المقاومة لا بديلا عنه.
رئيس حزب التجمع الوطني في أراضي 48
لا يفل الحديد الا الحديد ، ، الدبلوماسية بدون قوة فاعله تدعمها مثلها مثل من يذهب الى الهيجاء بدون سلاح ،،، ودمتم