هذا كتاب فريد كالعادة صادر عن دار العين في القاهرة لشاكر عبد الحميد، الذي أتحفنا بعدد كبير من الكتب المهمة والفريدة في الأدب والفن وعلم النفس مثل، «العملية الإبداعية في التصوير» و»الطفولة والإبداع» و»الحلم والرمز والأسطورة « و»التفضيل الجمالي» و»عصر الصورة ـ الإيجابيات والسلبيات» و»الخيال من الكهف إلى الواقع الافتراضي»، وقائمة طويلة من الدراسات المهمة، وهو الحاصل على أكثر من جائزة مهمة، على رأسها جائزة الشيخ زايد، عن كتابه «الفن والغرابة»، فضلا عن ترجمته لكتب فريدة الموضوع مثل «قبعة فيرمير» لتيموثي بروك، الذي تتسابق دور النشر العامة والخاصة لتحظى بأعماله، وهو الإنسان الشديد التواضع مع الناس في الحياة، يمارس دوره كأستاذ جامعي مرموق في إتاحة المعرفة من الكتب والمقالات واللقاءات. صاحبته عبر أربعين سنة، إنسانا وهب نفسه للعلم والمعرفة، حتى حين صار وزيرا للثقافة، وجد حياته الفكرية أكثر رحابة فلم يُطِل البقاء. فقط عدة شهور ولم يغره المنصب. دراساته دائما بحث علمي رصين وعميق، يضع بين يديك في النهاية كنزا من المعرفة عن الفنون والآداب وسائر العلوم عبر التاريخ والواقع.
كنت أعرف كالعادة أنني سأجد كنزا من المعرفة والتحليل، رحت أضع علامات على ما يمكن إبرازه في المقال، فوجدت أنني أحتاج عدة مقالات، لذلك سأكتفي بعرض سريع للكتاب المهم بحق. في مقدمة الكتاب رحلة عميقة عن معنى الدخان واللهب عبر التاريخ، منذ بروميثيوس سارق النار، النار التي جعلت الإنسان في مرتبة تماثل الآلهة، فبدأت الحضارة من صنعه. ويمشي مع دلالات الدخان والنار، عبر التاريخ والمفكرين، فالدخان يماثل الاكتئاب، واللهب يماثل الهوس، ويدرس الأمر في أعمال توماس ويليس في القرن السابع عشر، وأعمال ميشيل فوكو في ما بعد، ودراساته للعباقرة مثل بيتهوفن وبرليوز وبروخن ومالر ورحمانينوف وشومان وهوغو، والاكتئاب وحالات الانتحار التي وصلها بعضهم، أو كاد يصل، وغيرهم من العالم، ومصريون مثل أحمد عاصي ومنير رمزي وفخري أبو السعود.
ويقلب الأمر فلسفيا منذ أفلاطون حتى نيتشة عن معنى الجنون، الذي يبدأ به الفصل الأول. عن الجنون المقدس الذي أتي من ارتباط المبدع في أذهان الناس بالسلوك اللاعقلاني، وكيف يرتد هذا الجنون المقدس إلى أفكار الفلسفة القديمة، باعتبار الابداع منحة الهية ومن هنا قداسته منذ أفلاطون. هذا الجنون يختلف عن الجنون المرضي، فجنون الإبداع فضيلة وما يحتاجه هذا الجنون من مواد محفزة مثل الخمر أو المخدرات، ثم يفصل بين الهوس والشغف ويربط بين تاريخ الكرنفالات من عصر الآلهة اليونانية، وتطور الاحتفال بها لتأتي التراجيديا والكوميديا، وكيف كانت الحركة الرومانتيكية تأكيدا على حرية الفرد وعلاقته بذاته، فصار مثل النبي مطلعا على الأسرار. وتفسير الفلاسفة للعبقرية بين الإرث والحرمان وغير ذلك.
يخصص الفصل الثاني للكلب الأسود الذي هو الاكتئاب، في رحلة بين شعراء وأدباء أصابهم هذا الكلب الأسود مثل صلاح عبد الصبور وونستون تشرشل، الذي وجد في هذا التعبير الأكثر مناسبة. ويتقصي تاريخيا اصطلاح الميلانخوليا أو السوداوية، منذ العصر اليوناني، ويفصل بينه وبين الذُهان. نجد أهم الاسماء التي عانت منه في الفن والأدب وأوقات ظهوره ومواسمه، حين يتوقف المبدع عن العمل، في الوقت الذي يوضح أيضا أعراض هذا الهوس خفيفا أو قاتلا، ويفرق بامتياز بين الهوس والشغف والسلوك القهري، فالإبداع يتصل بالشغف الذي يشتعل بالهوس ويضعف بالاكتئاب والملل، ويستعرض أهم الدراسات في المسألة، ويفرد فصلا لأثر الكحوليات والمخدرات والانتحار بعنوان «مياه ونيران ورماد»، مستعرضا حياة كثيرين من المشاهير، وأهم الدراسات عنهم، حتى يدخل بنا في أكبر فصول الكتاب عن الحزن الذي يدوم إلى الأبد.
لقد صار فان كوخ رمزا للحالة التي يمكن أن توصف بكل الأمراض النفسية، فتم تشخيصه أنه مصاب بالصرع والفصام والتسمم الكحولي وغيرها
عن فان كوخ وإبداعه ومرضه وهو فصل كان يمكن أن يكون كتابا وحده، فهو يصل إلى مئة صفحة، وفيه لوحات لفان كوخ، هي من أبرز إبداعه في المصحات النفسية، تضيف الكثير من المعاني لحالته، هو الذي اختلف الكثيرون حول من قطع أذنه، هل هو أم غوغان البارع في المبارزة بالسيف، كما اختلفوا فيمن أطلق عليه الرصاص، هل هو أم غوغان أيضا، الذي ترك له سلاحه في البيت الذي عاشا فيه معا في فرنسا قبل أن يغادره غوغان. وسرد لحياة فان كوخ منذ الطفولة ورحلاته في أوروبا.
إن كوخ يمثل هنا بلغة شاكر عبد الحميد «الحزن االذي يدوم إلى الأبد» أو كما قال فان كوخ نفسه «نحن الفنانين في المجتمع المعاصر، لسنا سوى جِرار مكسورة، والجرار المكسورة يصعب إصلاحها». لقد صار فان كوخ رمزا للحالة التي يمكن أن توصف بكل الأمراض النفسية، فتم تشخيصه أنه مصاب بالصرع والفصام والتسمم الكحولي وغيرها، كما أن تاريخ الأمراض النفسية في عائلته واضح، فأخوه «تيو» أكبر مناصر له كان يعاني من الاكتئاب المتكرر، وأصيب بحالات ذهانية في آخر حياته، وبقيت اخته «ميلماين» حوالي أربعين سنة في مصحة نفسية لإصابتها بفصام مزمن، أخوه الأكبر «كور» أنهى حياته بالانتحار. لقد بلغت لوحات فان كوخ أكثر من ألفين عبر عشر سنوات في المصحات وخارجها، وكان الصيف هو ذروة إنتاجه، بينما كان الشتاء موجات خالصة من الاكتئاب ونوبات مختلطة، ما بين الحزن والفرح. يتقصي حياته منذ ترك الدراسة في سن الخامسة عشرة عام 1869 ومسيرة حياته حتى الانتحار، وخلالها كان فان كوخ كما يرسم يكتب في الفن وفي الحياة، وله آراؤه في فنون العالم ومنها الياباني والمصري القديم، وتنقلاته بين المدن الفرنسية ومصادر إلهامه، وفقره الدائم يأكل الخبز الحاف ويدخن بشراهة، وكيف كان فنه بديلا عن الانتحار.
في الفصل دراسة شاملة ايضا للوحات فان كوخ وألوانه وتكوين اللوحات، وغير ذلك من معاني الفن التشكيلي، برع شاكر في كل كتاباته. كثير جدا يمكن قوله عن هذا القسم الخاص بفان كوخ في الكتاب، إلا أنني أتوقف وأدخل مع شاكر عبد الحميد في نهاية حاسمة عن الفصاميين وأشباه الفصاميين من البشر ومن الكتّاب والفنانين. أسماء مثل جون ناش عالم الرياضيات الحائز جائزة نوبل، وكيف أمضى وقتا طويلا من حياته في المستشفيات النفسية. بعدها دراسة عميقة عن الإبداع والفصام. عدد العلماء والباحثين الذي ذكرهم شاكر عبد الحميد في التحليل والدراسة للظاهرة يفوق أي توقع، ما يعني دراسة فائقة الروعة والدقة، وأسماؤهم وحدها قد تشغل مقالين أو ثلاثة.
ثم يختتم الكتاب بعنوان دال» قمم شاهقة وسفوح عميقة» مقدما نماذج ممن انتحروا وتفسيرات متعددة لها، ومنهم الإنكليزي ريتشارد رَداد الذي جاء مصر عام 1842 ثم عاد برسوماته ومنها لوحة «الهروب من مصر» وغيرها، وكيف عاش بقية حياته مجنونا، بعد أن قتل أبيه زاعما أن أوزوريس أمره أن يفعل ذلك. ومنهم الفنان البريطاني أيضا لويس وين صاحب لوحات القطط الشهيرة، التي فيها تحاكي القطط البشر، وكيف أمضى الخمسة عشر عاما الأخيرة من حياته في مصحة نفسية يبدع فيها أعظم اللوحات. وكذلك الموسيقار روبرت شومان، ثم فرجينيا وولف التي انتحرت وسيلفيا بلاث الشاعرة الأمريكية ومحاولتها المتكررة للانتحار، حتى فعلته وهي في سن الثلاثين عام 1963، حتى يصل همنغواي خاتما بانتحاره الكتاب.
٭ روائي من مصر