الدراية والوشاية

حجم الخط
0

لا يحتاج المراقب إلى أكثر من نظرة يلقيها على مكتبات البحث في أفضل الأعمال التي كرّسها باحثون مرموقون للمرحلة المعاصرة أو الراهنة في البلاد العربية التي كانت أو هي ما تزال خاضعة لأنظمة سياسية موصومة بالاستبداد ليعلم أن حالة القمع الرازح على الحرّيات، من عامّة وخاصّة، تشتمل آثارها أيضاً على ما ينتجه  الباحثون المكرّسون من أعمال تعرّف المجتمع المدروس بنفسه وتظهّر له إمكاناته ومشكلاته وترسم له سبلاً يسلكها في حركته نحو المستقبل.
فإن هؤلاء الباحثين يكونون موضع متابعة مركّزة من جانب الأجهزة المولجة بالسهر على نفاذ المعايير الرسمية في إنتاج المعرفة بالمجتمع وبالنظام السياسي الاجتماعي. فيظلّون عرضةً لما هو أشدّ ممّا يتعرّض له تلامذتهم، مثلاً، إذا هم حاولوا الدخول إلى الدوائر المسوّرة لاستطلاع الوقائع المفضية إلى طرح المسائل المحظورة وتعزيز الحجج الآيلة إلى طلب التغيير السياسي.
عليه تبدو الأبحاث التي يمكن الرجوع إليها والبناء عليها نزرةً حين يتّصل الأمر بدواخل المجتمعات الخاضعة للاستبداد وبتوجهات النظام السياسي في تصريفه شؤونها وسعيه إلى حفظ هيمنته عليها. وأكثر ما يظهر الشحّ في كلّ ما يقتضي استقصاءً مباشراً للمعطيات المؤثّرة في موازين المجتمع وأعرافه واستطلاعاً موسّعاً للمواقف من حركة هذه المعطيات ومن وقع السياسات المعتمدة في قطاعٍ أو فئةٍ أو جهة أو في ما هو أوسع من ذلك.
ولا يرادف الشحّ الملحوظ في هذا النوع من الأبحاث، أي في ما يتناول حاضر المجتمع، على الأعمّ، شحّاً إجماليّاً في إنتاج الباحثين بالضرورة. فإن الباحثين لا يتوانون في البحث عن مهارب يوجّهون إليها إنتاجهم بحيث لا يستفزّون عيون السلطة وأذرعها (بل هم قد يسترضونها). من ذلك اللجوء إلى البحث المعياري المستغني عن كلّ استطلاع حسّي لأحوال المجتمع الفعلية والمتّجه إلى مناقشة النماذج المجرّدة والمناظرة بشأنها للدعوة إلى هذا أو ذاك منها وللتوصية بالبعد عن غيره. عليه يحلّ الكلام على الديمقراطية بصيغها المجرّدة، مثلاً، محلّ البحث الحقلي الرامي إلى تبيّن الحال الفعلية للتوجه الديمقراطي في بيئة بعينها من بيئات المجتمع الوطني، مثلاً أيضاً. فالباحثون الذين يلبسون لبوس المرشدين يبدون وكأنهم لا يعرفون شيئاً يذكر عن حصائل اللقاء بين ما يلقونه من كلام وبين ما تثمره الأوضاع الحسّية المختلفة في بيئات المجتمع من تطلّعات.
هذا وليس الاستغراق في النماذج المجرّدة: من مضمرات المدارس الإسلامية المختلفة ومعلناتها إلى صيغ الديمقراطية إلى العلمانية وحدودها إلى الأصالة والحداثة إلى مهامّ المثقّف وأصناف المثقّفين إلى أفاعيل الإمبريالية إلى الدولة الوطنية والأمة، إلخ..، هو المهرب الوحيد الذي تتراكم في مسالكه المجلّدات. وإنما يمثّل الماضي، بما هو ماضٍ، مضماراً آخر، يوافق سابقه في كثيرٍ من الحالات، لبحثٍ لا يستفزّ ذوي السلطة أو يبقى ما ينطوي عليه من احتمالات غير محبّذة من جانبهم بعيداً عن دائرة انتباههم.
 وبقدْر ما يحضر البحث الاجتماعي السياسي في المكتبات المتعلقة ببلاد هذا المحيط، يُلْجأ، لإجراء الأبحاث، إلى المقابلات الفردية، غالباً،  وإلى كتب المذكّرات وإلى التقارير الدولية أو الرسمية، فيستعاض بها عن أعمال المسح المباشر والاستقصاء الميداني واستطلاع المواقف، إلخ. ذلك كلّه، على فوائده المؤكّدة، رهينٌ لحاجات واضعيه وغاياتهم وبعيد عن الوفاء بحاجات المعرفة المضبوطة لأحوال المجتمع المدروس. ومن آيات ذلك، أن المقابلات تجرى مع أناس أصبحوا في المنفى، على الأغلب، وينشرُ كتبَ المذكّرات منفيون آخرون ويكون البعض من أجود الباحثين إنتاجاً منفيين أيضاً أو يكونون أجانب أصلاً… فهذا كلّه لازم لحرية البحث، موضوعاً ومضموناً. ولكن هذا كلّه يحدّ من قدرة الباحث على ضبط النتائج والخلاصات والنفاذ بها إلى حيث يجب أن تصل.
هذا ولا نحتاج إلى القول إن ما يعتبر تناوله بالوصف والقياس والتحليل والتعليل محظوراُ أو بمثابة المحظور لا يُقْتصر على حركة المواقف السياسية للجماعات، على اختلافها، أي على ما قد يضمر مسّاً مباشراً بسطوة النظام وشرعيته. وإنما تردع أجهزة النظام الساهرة أيضاً كلّ تناول جادّ لمسائل من قبيل بطالة المتعلمين وذواء الأرياف ونسب البطالة فيها، وصيغ النموّ المديني ومشكلاته… وهذا ناهيك بأطوار المسألة الطائفية، في تجلّيها المؤسّسي، على اختلاف القطاعات، وبحركة البنى العشائرية وبآليات الضبط المعتمدة لحماية السلطة: مصادرها وصيغ عملها وحدودها، إلخ. وإلى محاصرة المواضيع المختارة للبحوث، لا يندر أن يصطدم الباحث بمحاصرة النظام دخائل المستجوبين وضمائرهم. ففي المناخ المهيمن، يرجّح أن يميل من يمكن استجوابهم إلى المقبول من الأجوبة وأن يحذروا التصريح بالرأي إذا كان يعرّضهم لشبهة المعارضة أو للمساءلة، وهذا أيّاً يكن ما قد يجرؤ الباحث على التعهّد به من حفاظ على سريّة هويّاتهم.
صفوة القول أن المُقْدم على البحث الاجتماعي السياسي، في ظلّ الاستبداد، يُلْفي نفسه منصرفاً إلى ما هو أشبه بالتجسّس على مجتمعه منه بدرسه. فهو مضطرّ إلى تسقّط الأخبار وجمع نُثار المعطيات عوض التحقيق المنهجي للظواهر. ولا غرو أن محفوظات الاستخبارات تبقى  هي المصدر الرئيس لمعرفة المجتمع  ولو انها لا تكون منظّمة لخدمة الباحثين ولا متاحةً لهم… ذاك ما تنبّه إليه، مثلاً، من اعتبر اطّلاع حنّا بطاطو على محفوظات مديرية الأمن العامّة في العراق الملكي ميزةً بارزة للسِفْر الجليل الذي كرّسه بطاطو للعراق المعاصر. أي أن الوشاية – على ما أشرنا إليه ذات مرّة –  هي، في ظلّ أنظمة الاستبداد، أهمّ مصادر الدراية.
 
كاتب لبناني

أحمد بيضون

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية