الدرس السوري والدرس المضاد

حجم الخط
1

لم يمض وقت طويل على تحول الثورة الشعبية في سوريا إلى حرب مدمرة خاضها النظام على سوريا والسوريين، حتى بدأ طغاة من العالم العربي، وإعلامهم، يستثمرون الحالة السورية بوصفها «درساً» لشعوبهم ليعتبروا به، ويتخلوا عن كل أمل في التغيير، بدعوى أن التمرد الشعبي هو المسؤول عن دمار سوريا وقتل مئات آلاف السوريين وتشريد ملايينهم.
مضمر هذا التلفيق هو أن الأنظمة الدكتاتورية المزمنة هي قدر لا مفر منه، وأنها من الوحشية ما يجعلها تدمر البلدان التي تحكمها ولا تسلمها لشعوبها. هذه «طبيعتها» المجبولة عليها، كحال الذئب الذي لا يمكن أن نتوقع منه أن يمتنع عن افتراس الشاة.
والحال أن هذا الوصف المضمر وحده سبب كافٍ لكي تحسم الشعوب المقهورة أمرها، فلا تستكين حتى إسقاط تلك الأنظمة الذئبية والتخلص منها إلى الأبد، حتى لو كان ثمن ذلك الفناء التام. أي أنه في مقابل شعار «الأسد أو نحرق البلد» لا يمكن أن يقوم إلا شعار «يسقط الأسد حتى لو دمر البلد». ذلك لأن الاستكانة والخضوع، أمام خطر الفناء، وبخاصة إذا كان بعد تمرد فاشل، يعني العبودية المطلقة التي لا يمكن لإنسان أن يتحملها.
ربما في فترة أولى فعل «الدرس السوري» فعله، فتوقفت التمردات الشعبية في عدد من البلدان، واستكانت مصر التي شهدت، في العام 2011، واحدة من أجمل ثورات الربيع العربي وأكثرها وعداً، لحكم عبد الفتاح السيسي، فبدا أن موجة تلك الثورات قد انحسرت بعد ارتطامها بالجدار السوري القاسي. لكن عودة الربيع من الباب السوداني تكاد تعيد إشعال شرارة أمل جديدة تخبرنا بأن ما بدأ في العام 2011، ثم انتكس بسبب وحشية قطيع الذئاب الذي انقض على الربيع العربي، لن يدفن بسهولة كما أملت تلك الذئاب. وهذه لا تقتصر على نظام بشار الكيماوي أو ذئاب الجهادية العالمية الذين انخرطوا في الصراع على وأد الثورة السورية، بل تشمل أيضاً تلك الأنظمة المرعوبة من يقظة شعوبها التي استبقت أي تمرد في بلدانها بالعمل على ضرب الثورات القائمة في البلدان الأخرى، سواء بمساندة نظام الأسد أو أشباهه، أو بإغراق الثورة الشعبية بوحشية الجهاديين. وبعض من تلك الأنظمة يتلهف اليوم لتطبيع علاقاته مع نظام الأسد، بعد عداء ظاهري استمر لسنوات. فهذا، في نظرها، أوان قطاف الحصاد، بعدما أوشكت الحرب على النهاية، كما يذهب بها الظن.

عودة الربيع من الباب السوداني تكاد تعيد إشعال شرارة أمل جديدة تخبرنا بأن ما بدأ في العام 2011، ثم انتكس بسبب وحشية قطيع الذئاب الذي انقض على الربيع العربي، لن يدفن بسهولة كما أملت تلك الذئاب

سفاح السودان عمر البشير الذي انتقل من الدعوة إلى قتل الأسد إلى فاتح باب التطبيع معه، عاد من دمشق إلى الخرطوم ليستقبله الشعب السوداني بتمرد عفوي لا يبدو أنه قابل للاحتواء بسهولة. لقد طفح الكيل وانتهت فترة السماح، بعد عدد من المحاولات السابقة المحبطة. من شأن النجاح المأمول للثورة السودانية القائمة الآن أن يعيد الأمل إلى حركة التاريخ بعد الانتكاسة السورية ـ الليبية ـ اليمنية.
والحال أن فقدان القدرة على تحمل ما لا يطاق لا يقتصر على السودانيين أو العرب، وإن كانت ظروفهم هي الأشد قسوة. فحركة السترات الصفراء في فرنسا، على رغم انتمائها إلى مجال حضاري مختلف، كانت أيضاً، بمعنى من المعاني، رداً على التردي السياسي الذي بات يطبع العصر بطابعه. تردٍ من علاماته المشؤومة صعود اليمين الشعبوي وخطاب الكراهية والعداء للاجئين والأجانب في أكثر من بلد في أوروبا والولايات المتحدة وأمريكا اللاتينية.
كذلك هي الحال مع الإيرانيين الذين لم تتوقف احتجاجاتهم منذ ما قبل بداية العام الماضي. تخبو حيناً ثم تعود من جديد. فأربعين سنة من حكم الملالي وفسادهم وقبضتهم الحديدية ومغامراتهم الحربية المكلفة والحصار الخانق الذي تسببوا به، قد جعلت الحياة في ظل تغولهم لا تطاق.
ربما هذا هو الدرس المضاد الذي سيعمل في الاتجاه المعاكس للدرس السوري. بل حتى في سوريا نفسها، وفي لحظة سياسية يبدو فيها النظام وكأنه «انتصر»، وحليفه الروسي متفرداً في تقرير مصير البلد، ولم يبق في الميدان «المعارض» غير بقايا منظمات جهادية معادية للثورة أو مجموعات مرتزقة فالتة ملحقة بالأجندة التركية أو مقاتلو «قسد» الذين يستعدون للعودة إلى حضن النظام… في هذه اللحظة القاتمة، إذن، تظهر شعارات مناهضة لنظام الأسد على جدران مدن وبلدات استعاد السيطرة عليها خلال العام الماضي، ويتم تنفيذ عمليات نوعية متفرقة ضد تجمعات ميليشياته.
ربما من المبكر تحميل هذه التطورات الأولية أكثر مما تحتمل. لكنها تحمل رسائل لا تحتمل الجدال فحواها أن هناك حدوداً لطاقة البشر على التحمل. فإذا تجاوز الطغاة الذين ظنوا أنهم آلهة مؤبدون تلك الحدود، فلا شيء يمكن أن يقف أمام السيل الجارف.
إذا كانت الأنظمة ـ الذئاب حيوانات مفترسة بطبيعتها، فالبشر ليسوا خرافاً دائماً.

كاتب سوري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول AMMAR:

    فحركة السترات الصفراء في فرنسا، على رغم انتمائها إلى مجال حضاري مختلف، كانت أيضاً، بمعنى من المعاني، رداً على التردي السياسي الذي بات يطبع العصر بطابعه. تردٍ من علاماته المشؤومة صعود اليمين الشعبوي وخطاب الكراهية والعداء للاجئين والأجانب في أكثر من بلد في أوروبا والولايات المتحدة وأمريكا اللاتينية.

إشترك في قائمتنا البريدية