الدرون الإيراني والتركي يغير جزءا من العالم

تقدم عدد من الدول الغربية إلى مجلس الأمن الدولي بطلب لمناقشة استعمال روسيا الطائرات المسيرة الإيرانية في حرب أوكرانيا، وبالتالي معاقبة طهران. وهذه المبادرة تعتبر إحدى المنعطفات الكبرى التي حملتها هذه الحرب، ويضاف إليها استعمال الطائرات المسيرة التركية. وهي معطيات تؤكد التغييرات المقبلة في المشهد الجيوسياسي العالمي.
اعتاد العالم خلال العقود الأخيرة سماع أسماء السلاح الغربي والسوفييتي، ولاحقا الروسي، وعادة ما جرى استعمال أسلحة إما روسية أو أمريكية، وبدرجة أقل فرنسية وبريطانية. ولهذا، استأنس الرأي العام العالمي بسماع أسماء طائرات من نوع أف 16 أو أف 15، ثم منظومات صواريخ مثل باتريوت أو توماهاوك، وهي أمريكية. كما اعتاد سماع أسماء أسلحة روسية مثل ميغ بأنواعها ومنظومة صواريخ عائلة أس.
ورغم دخول الصين السوق العالمية للسلاح، وتقدمها المبهر في الصناعة العسكرية، لا يسمع الكثيرون عن السلاح الصيني لأنه لم يستعمل كثيرا في الحروب حتى الآن، علما أن دولا تعتمد عليها بشكل كبير لتحقيق نوع من الردع النسبي في مواجهة أطراف أخرى. ولعل المثال البارز هو اقتناء المغرب لأسلحة نوعية من الصين من راجمات طويلة المدى ومنظومة دفاع متطورة الدرع الدفاعي-2000 تقلل من خطر سلاح الجو الإسباني.

أدركت إيران وتركيا المفهوم العميق للأمن القومي، ولهذا استثمرت في البحث العلمي العسكري الذي يبقى في آخر المطاف مرتبطا كذلك بالتقدم الصناعي عموما

غير أن الحرب الروسية ضد أوكرانيا حملت جديدا في عالم السلاح، وكلمة جديد هنا دالة على أعمق معانيها، لأن الأمر يتعلق بقفزة ليست نوعية، بل تاريخية. ذلك أن منذ القرن الثامن عشر، سيطر الغرب ولاحقا روسيا على صناعة الأسلحة، وهو ما يفسر التوسع الاستعماري، فكل عملية استعمارية تعتمد على قوة السلاح وليس قوة الاقتصاد. وكان يكفي توقيع دولة كبرى صفقة سلاح كبيرة مع دولة معنية، وإن كانت صغيرة، لكي تجعلها قوة إقليمية قادرة على فرض شروطها على الدول المجاورة لها. في هذا الصدد، لا يمكن فهم قوة إسرائيل في الشرق الأوسط، من دون صفقات السلاح الأمريكي. وبدأت هذه اللوحة العسكرية تتغير خلال العقد الأخير وبشكل سريع بفضل دخول دول كانت، وبعضها ما زال يصنف من العالم الثالث، دول من الجنوب، الصناعة العسكرية بخطى ثابتة وقوية، بدأت تؤثر في الموازين على الأقل إقليميا. ويبقى المثال الساطع والنوعي هو أنه لأول مرة خلال القرون الأخيرة، تجري حرب في القارة الأوروبية، ويتم استعمال السلاح المقبل من الجنوب، من تركيا وإيران. علاقة بهذا، لم يصدق الخبراء في البدء الدور القوي للمسيرات التركية من نوع «بيرقدار» التي سمحت للجيش الأوكراني بنوع من المقاومة في مواجهة التقدم البري الروسي، بل واستهداف قطع سلاح بحرية في البحر الأسود. ويكفي أن الجيش الأوكراني ألف أغنية يتغنى فيها بمزايا هذا الدرون. في المقابل، لا أحد كان ينتظر من روسيا المتطورة في سلاح الجو وفي صناعة الصواريخ، أن تلجأ إلى الطائرات المسيرة من صنع إيراني «الشاهد 136» لتفادي منظومة الصواريخ الأوكرانية المكونة من خليط من صنع سوفييتي أس 300 وكذلك غربية. وكانت «الشاهد 136» قد سجلت حضورها يوم 14 سبتمبر/أيلول 2019 عندما هاجمت محطة بقيق السعودية، أكبر محطة لتكرير النفط في العالم، ولم تنجح منظومة باتريوت في اعتراضها. إيران لم تعلن الهجوم، لكن كل الأصابع كانت تشير إليها. ولا تقتصر موسكو على اللجوء إلى الشاهد 136 لضرب الجيش الأوكراني ومنشآت الطاقة، بل وقعت اتفاقا مع إيران لتصنيع هذه الطائرة في الأراضي الروسية، حسبما نقلت «واشنطن بوست» منذ أيام. وهذا يجر إلى تساءل عريض: إذا كان الدرون الإيراني بهذا المستوى، فكيف سيكون مستوى صواريخها؟ ويعد قرار موسكو توقيع اتفاقية مع طهران لتصنيع «الشاهد 136» وأنواع أخرى في روسيا تطورا لافتا يؤكد مدى التقدم الذي حققته الصناعة العسكرية الإيرانية. وقام عدد من الدول منها أوروبية بالتوقيع مع تركيا لشراء طائراتها المسيرة.
لعل العنوان البارز لهذا التطور هو لجوء الشمال إلى أسلحة من الجنوب، ثم حدوث أول مواجهة عسكرية بين أسلحة مصنعة في الجنوب في حرب في الشمال. وبعيدا عن مثل هذه العناوين التي تبدو براقة وقد تكون عاطفية للغاية، واعتمادا على نوعية السلاح التركي والإيراني في هذه الحرب، فالنتائج المرتقبة مهمة جيوسياسيا على جزء من العالم، ويمكن تلخيصها:
في المقام الأول، تدرك كل من إيران وتركيا المفهوم العميق للأمن القومي، ولهذا استثمرت في البحث العلمي العسكري الذي يبقى في آخر المطاف مرتبطا كذلك بالتقدم الصناعي عموما. فقد نجحت في سياستها بإعطاء البحث العلمي مكانته الحقيقية لتعزيز الأمن القومي، ليس فقط العسكري، بل كذلك الغذائي والطبي. ولهذا، فالتقدم المحرز في الصناعة العسكرية في البلدين يوازيه تقدم مماثل في الصناعة المدنية والطبية والغذائية وقطاعات أخرى. ويحدث هذا في وقت فشل فيه عدد من الدول العربية في مختلف القطاعات ومنها، الصناعة العسكرية مثل حالتي مصر والسعودية.
في المقام الثاني، لم يعد قرار صنع دولة إقليمية، بفضل صفقات الأسلحة، مقتصرا على الدول الغربية وروسيا، بل سيصبح بمقدور إيران وتركيا القيام بالدور نفسه نسبيا. فلنتأمل هذا المشهد: لو قررت إيران الآن تزويدها أي دولة عربية مثلا في شمال افريقيا بالصواريخ وطائرات الدرون ومنظومة الدفاع الجوي، فوقتها ستخلق قلقا حقيقيا في الاتحاد الأوروبي، خاصة لدوله المطلة على البحر الأبيض المتوسط.
عبر التاريخ، تميز السلاح بتغيير مجرى تاريخ العالم، والآن، يغير الدرون التركي والإيراني نسبيا «جزءا صغيرا» من هذا العالم. من كان ينتظر أن يشتكي الغرب في مجلس الأمن من سلاح كلاسيكي مثل الدرون الإيراني، ومن كان ينتظر إقبال دول غربية على الدرون التركي. التاريخ يحمل مفاجآت.
كاتب مغربي من أسرة «القدس العربي»

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول Ahmed:

    لو قررت إيران الآن تزويدها أي دولة عربية مثلا في شمال افريقيا بالصوايخ و طائرات الدرون و منظمة الدفاع الجوي فوقها ستخلق
    قلقا حقيقيان في التحاد الاوروبي

  2. يقول فريد:

    مقال مستفز للأنظمة العربية التي تقتني الأسلحة من الغرب دون التفكير في إقامة صناعة عسكرية محلية. شكرا للكاتب.

  3. يقول سامح //الأردن:

    *( الحاجة أم الاختراع).
    تركيا وإيران تقدمت في صناعة السلاح
    من مختلف الأنواع نتيجة نفاق الغرب وغطرسته..

إشترك في قائمتنا البريدية