الجسد الفلسطيني أرض المعركة للاستعمار الصهيوني وحقل تجارب لصناعاته الحربية والتجسسية
بيروت-»القدس العربي»: تختزن ذاكرة جرّاح التجميل والترميم الدكتور غسّان أبو ستة الطبية والإنسانية كماً من المشاهدات الحية، عن المجازر المتتالية التي يرتكبها الاستعمار الصهيوني على أرض فلسطين وبخاصة في غزّة. والد أبو ستة من قطاع غزّة، ووالدته لبنانية، ولد في الكويت ودرس الطب في بريطانيا، يأبى أن تفوته منازلة عسكرية مع العدو وهو بعيد عن أهله وناسه. ففي معركة سيف القدس اتبع حدسه السياسي، ودخل القطاع عن طريق مصر قبل بدء المعركة، فيما منع الاحتلال كافة الطواقم الطبية العالمية من الدخول للقيام بواجبهم.
الطبيب الذي يداوي الجراح الجسدية التي يخلّفها الصهاينة بأجساد أهل الأرض، يدرك جيداً أن جرح النكبة واللجوء مقيم في النفس إلى أن يأتي اليوم الذي يندحر فيه الاستعمار الإحلالي نهائياً. مع الدكتور غسّان أبو ستة هذا الحوار:
○ أن تكون من فلسطين ومن غزّة فما هي تبعات الانتماء عليك كطبيب؟
• طبيعة الانتماء هي العلاقة بالجرح الجسدي إضافة للعلاقة بالجرح النفسي والتاريخي والاجتماعي. كل فلسطيني يحمل في طياته جرح النكبة واللجوء، وجراح القمع الصهيوني، إلى جراح عائلية كثيرة. كطبيب يضاف إلى جراحي السالفة الذكر جراح الإصابات في المواجهات مع العدو، والتي أراها بطريقة لا يراها فيها الآخرون.
○ هل فاتتك حرب أو انتفاضة أو مسيرة ضد الصهاينة ولم تجد طريقاً لدخول البلاد للقيام بواجبك الطبي؟
• الحرب الوحيدة التي لم أتمكن من المشاركة فيها هي حرب عام 2006 في لبنان، وليس لعدم القدرة، بل لكون إبني سليمان كان حديث الولادة. كنت بمفردي مع زوجتي في بريطانيا وحدثت الحرب وأنا أب للمرة الأولى، وهذا منعي من تركها وحيدة مع طفلنا والمغادرة.
○ كم علّمك الميدان الفلسطيني المفتوح على الإجرام الصهيوني دروساً في الطب؟
• للأسف تعلمت طب الحروب ومداواة جراح الحروب نتيجة مشاركتي المتكررة في الحروب التي شُنت على الشعب الفلسطيني. ما تعلمته من الناحية الفكرية أن ما يميز الاستعمار الاستيطاني والذي هو استعمار إحلالي عن الاستعمار الآخر أو حتى القمع، أنه في الاستعمار الإحلالي يكون جسد المُستَعمَر أرضاً للمعركة. فالاستعمار الاستيطاني مشروع طويل الأمد، يبدأ من لحظة الإنتهاء من احتلال الأرض. سرمدية المشروع الاستيطاني تُحتّم أن يَقْمع ويُدجّن المُستَعمَر إلى ما لا نهاية. والصهاينة يتحدثون عن ذلك بوضوح، كمثل القول بـ»كي الوعي» بعد حرب سنة 2014 على غزّة. نحلل هذا التعبير ونخلص إلى هدف حرق الجسد للتأثير على الذهن أو التفكير.
○ آخر الدواء الكي؟
• وأكثر العلاجات استمرارية. كي الجسد يعني حمل الأثر بشكل مستمر. فالجسد الفلسطيني المستهدف من آلة الحرب الإسرائيلية هو أرض المعركة مع هذا الاستعمار. والاستعمار معني بكسر إرادة ووعي المُستَعْمَر، لينتهي أي إحساس بالتهديد لدى المُستَعْمِر. فمشكلة المستَعْمِر ورغم التباين الكبير في ميزان القوة بينه وبين المُستَعْمَر أن أحساس التهديد يلازمه. ولهذا يغلبه الإحساس بضرورة الهيمنة على المُستَعْمَر جسداً وعقلاً وفكراً ووجداً، في محاولة للتخفيف من إحساس التهديد المستمر.
○ في العسكر والسياسة كيف كان الصهاينة يطورون وسائل القتل وتجارب السلاح؟ وكيف كانت المواجهة في قطاع الطب؟
• ردي سيكون أكثر تعقيداً. في مقارنة فلسطين بجنوب أفريقيا حيث احتاج المستَعْمِر العمالة الجنوب افريقية للعمل في مناجم الذهب والألماس من أجل إنتاج رأس المال، نجد الاستعمار الاستيطاني الصهيوني تعمّد أن لا يعتمد على اليد العاملة الفلسطينية بأي مشروع. وما حصل في الثلاثين سنة الماضية أن الرأسمال الصهيوني طوّر صناعة القمع. أي الدمج ما بين الجانب الشُرْطي والجانب العسكري للقمع، أي عسكرة الشرطة. ولهذا تميز الإسرائيليون بالطائرات المسيرة. وما وصلنا مؤخراً من فضيحة بيغاسوس والتجسس عن طريق الهواتف الخلوية. الصناعة الأمنية الإسرائيلية متميزة، وباعترافهم هي كذلك لأنها تستخدم الفلسطيني كحقل تجارب. لهذا يمكن القول بأن الرأسمال الإسرائيلي الصهيوني سلْعن الجسد الفلسطيني لخلق رأسمال. ففي كل حرب يختبر الصهيوني أسلحة جديدة، ويعلن ويسوِّق عبر النار لصناعاته الحربية. وبالتأكيد حول الرأسمال الإسرائيلي الجسد الفلسطيني إلى المنجم الذي يخلق من خلاله رأسمال، بعد أن تمكن من تسليع القمع وإيذاء الفلسطيني.
○ هل دخلت القطاع في خلال معركة «سيف القدس»؟ وماذا سجّلت في الذاكرة؟
• نعم. سجلت الذاكرة اختلافاً عن المعارك السابقة. الاستهداف خلال معركة «سيف القدس» كان للمناطق السكنية والأبنية التي تسكنها الطبقة المتوسطة في وسط القطاع كانت محور المعركة. وهكذا إما كانت العائلات تباد جميعها، أو تصاب جميعها بجروح، فكانت المستشفيات تخصص غرفاً للعائلات من الأم والأبناء.
○ جرائم تفوق قدرات العقل تشهدها غزة تباعاً هل من دور للطب بتوثيقها ورفعها للمحكمة الجنائية الدولية؟
• برأي نحن حيال منحيين. أما الطبيب واجب أخلاقي وليس فقط تقديم المساعدة الطبية، بل ليكون شاهداً على استباحة الحياة البشرية أينما تكون. أحد السبل الفعّالة لتجنّب الرقابة الغربية لإسكات أي صوت معادي لإسرائيل، عن طريق شهادات الأطباء عن الجرائم الإسرائيلية. عندما تنشر مجلة «لنسيت» أو مجلة «بريش ميديكل جورنال» الطبيتان مقالات عن أنواع الإصابات في حروب غزّة فهذا تطور ملحوظ. المنظومة التي تلعب دور حماية إسرائيل من أي نقد، لم تعد قادرة على منع وصول المعلومات الطبية عن أنواع الإصابات. ولهذا السبب وخلال حرب «سيف القدس» منعت اسرائيل دخول الطواقم الطبية الأجنبية عن طريق معبر إريتز. حتى الصليب الأحمر الدولي وأطباء بلا حدود لم يتمكنوا من الدخول.
○ وكيف دخلت؟
• توقعت تطوراً عسكرياً مختلفاً سيلي اشتباكات القدس، فسافرت عن طريق رفح كفلسطيني.
○ يمكن القول أن هذه المعركة انتهت من دون شواهد طبية دولية؟
• بالضبط. احتج الأطباء الذين طلبوا تأشيرات دخول إلى اسرائيل للعبور من مطارها إلى غزّة. ولأن الحرب قصيرة الأمد تمكنت إسرائيل من استيعاب هذا الاحتجاج. لم يقل الإسرائيلي بمنع الطواقم الطبية من الدخول بل علل التأخير بدراسة الطلب.
○ ما هي المشاعر التي تخالجك في كل مرّة تدخل غزّة وتغادرها؟
• المشاعر التي تخالجني لدى الدخول هي أقل عناء من التي أعيشها لدى المغادرة. في الدخول يلعب الأدرينالين دوره لأني أتوقع ما سأراه كطبيب. وهكذا يعمل عقلي اللوجستي. تبدأ الكارثة مع المغادرة، حينها أشعر بالجرحى الذين داويتهم وبأني سأتركهم. أشعر بمسيرة العلاج الطويلة والألم الذي ينتظرهم نتيجة الإصابات. مغادرة غزّة بعد كل معركة صعبة جداً.
○ كنت في بيروت لسنوات مسؤولاً عن قسم التجميل والترميم في مستشفى الجامعة الأمريكية. لماذا جذبتك بيروت ولماذا غادرتها؟
• جذبني صرح طبي وعلمي كما الجامعة الأمريكية له مكانته في العالم العربي. الجامعة الأمريكية عملت لتوسع ولتأكيد مكانتها كصرح علمي أول في العالم العربي. تستقبل المرضى من العراق واليمن وليبيا، وهذا ما جذبني كما غيري من الأطباء الذين عادوا للعمل في بيروت من بريطانيا والولايات المتحدة. كما أن والدتي لبنانية ونصفي اللبناني ناداني إلى بيروت. للأسف الكارثة الاقتصادية مضاف إليها إحساسي بأننا لسنا حيال أزمة، بل حيال نفق طويل شبيه بالنفق الذي أدخلو فيه العراق في تسعينيات القرن الماضي. نحن دخلنا في مرحلة تدمير الدولة العربية التي ظهرت بعد الاستعمار.
○ ولهذا السبب غادرت؟
• العامل الحاسم في المغادرة هو إبني سليمان الذي اقترب من الشهادة الثانوية. كنا حيال اختيار المغادرة ليحصل على الشهادة البريطانية، أو المخاطرة في البقاء وعدم الذهاب إلى المدارس مع جائحة كورونا. غادرنا وتمكن سليمان من الحصول على الشهادة البريطانية.
○ كيف تنظر إلى الوضع الطبي في لبنان إنطلاقاً مما ينقله لك زملاؤك؟
• مأساوي خاصة لجهة هجرة الكوادر الطبية. أن يجتمع الأفراد في مؤسسات هو ما ميز لبنان طبياً. النزيف الحاد الذي تعرّضت له المؤسسات الطبية، وبالتالي عدم قدرتها على تلبية احتياجات المرضى نظراً لإختفاء المواد مأساوي. وأثره السلبي لا ينعكس فقط على لبنان بل على العالم العربي جميعه بعد أن شكلت بيروت الملاذ لمرضى العراق وسوريا واليمن وليبيا. ولنفترض بقاء الكوادر في لبنان فبدون مؤسسات علمية طبية وأكاديمية حاضنة ستكون فائدتهم للمجتمع محدودة. فالطب ليس فقط افراداً مبدعين، بل نظام مبدع يعمل ليبدع الأفراد من داخله.
○ كنت في بيروت في الرابع من آب. كيف تصف مشاهداتك كطبيب بعد أكبر تفجيرات العالم؟
• في تلك اللحظة كنت في منزلي والكهرباء مقطوعة، فتحت الأبواب والنوافذ للتهوئة فلم ينكسر أي منها. لكني علمت أننا حيال أمر كبير، وفي التجارب حيال السيارات المفخخة في بيروت من واجبي الذهاب فوراً إلى المستشفى. منزلي يبعد عن الجامعة الأمريكية مسافة خمسة دقائق سيراً. بوصولي إلى شارع المعماري بدأت تلمُس هول ما حدث، كانت الناس تخرج من البنايات والدماء تغطيهم، ويتجهون نحو المستشفى وكأننا في فيلم رعب. بالوصول إلى المستشفى شعرت وكأننا حيال تسونامي إصابات لا يتوقف. ملأ الجرحى قسما الطوارئ، والاستقبال والممرات وقرب المصاعد. قصدت العيادات في الطابق الرابع وفتحتها، وكذلك غرف العمليات الصغرى، وصارت عيادات الطابق الرابع امتداداً للطوارئ.
○ هل هي المعايشة الأصعب للجروح بالنسبة لك كطبيب؟
• أردد دائماً ثلاثة أحداث جسام لا يمكن نسيانها وهي: مجزرة حي الشجاعية في غزّة في حرب سنة 2014. وخلالها وصل 250 جريحا وشهيدا إلى طوارئ مستشفى الشفاء في دقائق. ويوم انتقال السفارة الأمريكية إلى القدس وخلال مسيرات العودة في القطاع جرح الإسرائيليون حوالي 2500 في زمن لا يتعدى الأربع ساعات. وصلتنا سيارات الإسعاف وبداخلها 6 أو 7 جرحى. وكذلك لا أنسى الرابع من آب 2020. في مثل تلك المواقف يشعر أحدنا بأنه مُقبل على الغرق، إنما في بحر من الصراخ والدماء.
○ هل من ظلم في ذاكرة العالم فاق ما يعيشه الشعب الفلسطيني منذ وعد بلفور؟
• استمرار نظام الاستعمار الاستيطاني الذي يخلق حالة استباحية واحلالية في القرنين العشرين والحادي والعشرين، يدفعنا لإستعادة مشاهد من القرون الوسطى. مثلاً اكتشاف المقابر الجماعية لأطفال الهنود الحمر مؤخراً في كندا استوقفني وأنا أعيش مع الجرحى خلال الحرب الأخيرة على غزّة. فأزمة المُستَعْمِر أنه يواصل إبادة المُستَعْمَر حتى مع إنعدام الأمل من انتصار هذا الأخير. ففي الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي واصل المستَعمِر الكندي إبادة أطفال السكان الأصليين الهنود، رغم كونهم كادوا ينتهون كشعب ولم يعودوا يمثلون أي تهديد للمستعمرين البيض. استمرت النزعة الإبادية لأنها جزء من علاقة المُستَعمِر بالمستَعْمَر.
○ هل يصبح المستَعمِر مدمن أبادة؟
• صحيح لأن هاجساً رهابياً يتحكم به. ليس فقط على صعيد الإبادة الجسدية، بل أيضاً للإبادة التاريخية والمعنوية. الفكرة التي يبني عليها الاستيطان سواء كان صهيونياً أو أوروبياً وجوده أن هذه الأرض كانت فارغة. المُستَعمِر الأوروبي والصهيوني بررا وجودهما بأن الأرض فارغة، سواء في فلسطين وأمريكا الجنوبية والشمالية وأوستراليا. هاجس الرهاب لدى المستَعمِر أن تكون الأرض فارغة.
○ التضامن العالمي بعد «سيف القدس» هل أشعرك بتغيير في ميزان العدالة العالمي؟
• إزدياد محاولات إسكات الأصوات المؤيدة لفلسطين والمطالبة بالعدالة للشعب الفلسطيني في أوروبا وأمريكا الشمالية خاصة في نطاق الجامعات، سببه أن الرأي العام الأوروبي بنسبة أكبر، والشمال أمريكي بنسبة أقل بدأ يتغير. لكن من غير الممكن أن يتم اخفاء ما حدث في حربي 2014 و2021 على غزّة. ووصل الحال أن صحيفة «نيويورك تايمز» كأهم مؤسسة إعلامية صهيونية نشرت صور الأطفال الـ60 الذين قتلتهم إسرائيل في حرب2021. إذاً لم تعد المعلومة محتكرة كما الحال في اجتياح سنة 1982 للبنان. حينها غطت إسرائيل على جرائمها. الإعلام الآن في مرحلة تشظي، وإن لم تنشر «نيويورك تايمز» صور الأطفال ضحايا العدوان الصهيوني، فكافة المواقع الإلكترونية ووسائل التواصل الإجتماعي نشرت تلك المجازر.
○ هل ستكتب مذكراتك الطبية عن مجازر الاحتلال؟
• أنجزت مع الأخ ميشال نوفل كتاباً بعنوان «سردية الجرح الفلسطيني» ونشرته دار رياض الريس، وجزء من هذا الكتاب سيرة ذاتية. وحالياً أعمل على موضوع مسيرات العودة التي استمرت لسنتين. وخلال تلك المسيرات أطلق القناصون الصهاينة النار على 8 آلاف شاب وشابة من الفلسطينيين بهدف الإعاقة والتشويه وليس بهدف القتل. إنها ظاهرة العقاب عن طريق التشويه. ففي الحرب الأهلية في سيراليون كان المتقاتلون يقطعون أيدي بعضهم البعض. كذلك كان يفعل ملك بلجيكا بأهل زائير حين كان يعاقبهم. العقاب عن طريق التشويه قديم العهد، إلا أنهه جديد في العلاقة بين الإسرائيلي والفلسطيني. ومفاد هذا العقاب أني سأغير في جسدك ليكون شاهداً على سطوتي عليك. ما أحاول العمل عليه هو العقاب عن طريق التمثيل تماماً كما حال الدولة في أوروبا التي كانت تعاقب عن طريق التمثيل وليس السجن. كان المُعاقب يُمزق إرباً وهو حي أمام الناس. إنه خلق للرعب في نفوس الناس كحاجة للتحكم بهم. الاستعمار الذي مرّ على العالم الثالث مارس هذا العقاب في محاولة للسيطرة على السكّان. والجنود الذين كانوا يتمردون على الجيش البريطاني كانوا يعدمون بإطلاق قذيفة مدفع عليهم بهدف تمزيقهم. هذا هو كتابي المقبل.