«عامل» تؤسس لمتحف دائم ضمن مبادرة «كي لا ننسى»
بيروت ـ «القدس العربي»: من بلدة الخيام الجنوبية إلى فرنسا حيث درس الطب، سنوات عايش خلالها الكثير من المحطات المهمة عالمياً وعربياً. محطات كوّنت شخصيته ليكون طبيباً ممارساً ومناضلاً في آن. إنه طبيب الأطفال الدكتور كامل مهنا رئيس مؤسسة «عامل» الدولية.
ترتيبه العاشر والأخير بين إخوته، آمن والده بضرورة تعليم أبنائه، فأرسلهم صغاراً إلى بيروت. في فرنسا التي وصلها سنة 1963 شغل فيها بعد سنوات منصب أمين عام اتحاد الطلبة اللبنانيين، ولاحقاً أمين عام اتحاد الطلبة العرب، وحرّكهم للتظاهر ضد العدوان الصهيوني على مطار بيروت سنة 1968. واحتلّ مع رفاقه في الاتحاد السفارة اللبنانية عندما أطلق الجيش النار على مظاهرة داعمة لفلسطين في 23 نيسان/ابريل 1969 في ساحة البربير، وثانية عندما قصفت طائرات الجيش اللبناني المخيمات الفلسطينية، وصدرت بحقه مُذكرة طرد، أوقفت بتأثير حملة عربية ودولية. ومع إنهائه لتخصصه بدأت الحرب الأهلية اللبنانية فكان حاضراً، حيث حمله واجبه المهني إلى مخيم تل الزعتر والنبعة، وبقي حتى أجلي مع الجرحى واللاجئين.
لم يسترح الدكتور كامل مهنا طويلاً، ففي آذار/مارس سنة 1978 اجتاح الصهاينة الجنوب حتى الليطاني. وفي الخيام مسقط رأسه قتلوا في ساحة البلدة 55 مسناً عجزوا من مغادرتها. سنة 1979 ولدت مؤسسة «عامل» المرشحة حاليا لجائزة نوبل للسلام للمرة الثامنة على التوالي، وكانت فتية حين بدأ غزو لبنان سنة 1982 وحصار بيروت، وثم استباحة العاصمة في ايلول/سبتمبر برفقة ميليشيات القوات اللبنانية، الذين قتلوا ثلاثة آلاف من سكان صبرا وشاتيلا العُزّل. وكانت عامل من أوائل المؤسسات التي اكتشفت المجزرة، ومنذ ذلك الحين وعامل تحيي المناسبة سنوياً وتطوّر أطرها.
مع رئيس عامل الدكتور كامل مهنا هذا الحوار:
○ 45 سنة مرّت على تأسيس عامل. كيف بدأت؟ وكيف تطورت كمؤسسة؟
• خلال الغزو الصهيوني سنة 1978 دُمرت بلدتي الخيام بكاملها بعد أن نزح أهلها، بقي فيها 55 مسناً عجزوا عن المغادرة، جمعوا في ساحة الخيام وقام العدو بتصفيتهم، وسرقوا وفجروا منزلنا العائلي مع عملائهم. تأسست عامل كحصيلة لتجربة مهنية بدأتها فور عودتي من فرنسا متخصصاً بطب الأطفال. مارست مهنتي في المخيمات الفلسطينية، ومع بدء الحرب الأهلية في لبنان قصدت مخيم تل الزعتر والنبعة، وحوصرت مع أهله، وخرجنا معاً بعد أن اُصبت مرتين. قبل تصاعد الضغط والقصف على تل الزعتر كان معنا رئيس منظمة أطباء بلا حدود حينها برنارد كوشنير وطبيب آخر، غادرا قبل سقوط المخيم بشهرين لخطورة الوضع، فيما غادرت بعد سقوطه مع بعض اللاجئين الفلسطينيين عن طريق عيون السيمان. وجدت عامل سنة 1979 بعد شعور بأن المواطن الجنوبي اللبناني كما الفلسطيني اللاجئ يحتاجان للمساعدة بفعل الاعتداءات الصهيونية المتكررة.
○ مهمات عامل توسعت مع اجتياح 1982 وحصار بيروت كيف تعاملتم مع المستجدات؟
• سريعا استجبنا للحاجة، أنشأنا ثلاثة مشافي ميدانية، إثنين في بيروت، والثالث في حارة حريك في الضاحية الجنوبية. وبتنا نمتلك 30 سيارة إسعاف، و27 مركزاً، وبدأنا إرسال الجرحى للعلاج في الخارج. دعمنا في ذلك برنارد كوشنير حيث كان وزيراً في الحكومة الفرنسية. في ذاك العدوان كانت عامل من بين أكبر المؤسسات العاملة في لبنان، وفي كافة الأزمات عملت لكافة الناس بدون أي تمييز وشعارها الأساسي «العمل على تعزيز إنسانية الإنسان».
○ لماذا اخترت هذا الشعار؟
• بعد هزيمة سنة 1967 اكتشفت أن القوة ليست للحق، بل العكس. وشعرت بضرورة العمل لنكون أقوياء، وأن نقلل كعرب من الكلام لصالح الفعل.
○ في اجتياح سنة 1982 هل من واقعة عسكرية الكبيرة واجهتها عامل التي كانت فتية بعد؟
• من أصعب ما واجهه الدفاع المدني في مؤسسة عامل اكتشاف مجزرة صبرا وشاتيلا صبيحة 18 أيلول/سبتمبر، وهذا ما وثّقته الصحف. في حين تفقدت بنفسي مشفى غزّة، حيث كنا طوال الحصار على تواصل مع طبيبة أسترالية تشرف على مجموعة أطفال معوقين، وتمّ اجلاؤهم إلى منطقة المصيطبة بعد المجزرة.
○ هل وثّقتم آثار المذبحة؟
• نعمل يومياً «كي لا ننسى» مذبحة صبرا وشاتيلا وهي تعنينا مباشرة. كُتب عنها الكثير، وبرأيي الكتاب الأفضل والأشمل هو للدكتورة بيان نويهض الحوت بعنوان «مجزرة صبرا وشاتيلا» صدر عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية ويتألف من 1500 صفحة. كعامل عشنا تلك المجزرة باللحم الحي، لأننا مع الناس، وحمايتهم أولويتنا، بعكس المنظمات الدولية الأخرى. بالنسبة لنا الشعب الفلسطيني أولوية كونه الوحيد في العالم دون حقوق ودولة، وكل عمل إنساني بعيد عن تبني قضية الشعب الفلسطيني برأينا غير إنساني بالمطلق.
○ وماذا عن مبادرة «كي لا ننسى» وكيف تأسست؟
• تأسست بمبادرة من مساندين لفلسطين في إيطاليا وبدعم من جريدة «السفير» والراحل طلال سلمان. اجتماعي الأول بهم جرى في مكتبه، شكلنا لجنة إحياء ذكرى مجزرة صبرا وشاتيلا بالتعاون مع رئيس بيت أطفال الصمود قاسم عينا. سنوياً وفي ذكرى المذبحة تزور مجموعة أوروبية كبيرة بتنظيم من مباردة «كي لا ننسى» لبنان، وتلتقي سياسيين فلسطينيين ولبنانيين، وموعدنا معهم هذا العام في 11 أيلول/سبتمبر. نثمّن هذه الزيارة السنوية، لكننا بحثنا في أن يكون لنا فعلنا الخاص والمميز في إطار المبادرة. نعمل منذ أشهر لجمع مقتنيات خاصة بالشهداء يحتفظ بها ذووهم، لضمها إلى المعرض الدائم في مكاتبنا في حارة حريك، والذي نجدده سنوياً بالتعاون مع بيت أطفال الصمود. وفي خطتنا إن توفرت كمية كبيرة من تلك المقتنيات، مشاركتها مع المعرضين الدائمين عن المجزرة في كل من إيطاليا وإسبانيا، وهذا ما يوفر لهم مادة ملموسة تساعد في طرح القضية الفلسطينية من خلال مجزرة صبرا وشاتيلا.
○ وهل سيقتصر المعرض الدائم على مقتنيات الشهداء؟
• بل نحن نعمل لجمع كل ما كُتب عن المجزرة. وكافة الأفلام التي تناولتها، وسنعرض مقتطفات منها. ومن بينها فيلم يظهر فيه أحد الجناة يستعرض ويلوح بالبلطة التي قطّع بها عشرات الأبرياء العزّل، جرى تصويره من الخلف يعترف بقطع الرؤوس، إلى جانب شهادات من الذين عاشوا المجزرة وما زالوا على قيد الحياة. ونبحث في إقامة متحف دائم يحمل اسم مجزرة صبرا وشاتيلا، ونسعى هذا العام لإقامة معرض فن تشكيلي يتضمّن جدارية للفنان العراقي ضياء العزّاوي عن المجزرة. ونعمل لإصدار بوسترات لكافة رسومات ناجي العلي عن المجزرة، وذلك بالتعاون مع جمعية بيت أطفال الصمود. وهذا العام نستعيد الذكرى الـ42 للمجزرة، ونربطها بالإبادة الجماعية المستمرة في غزة منذ 11 شهراً، ومن غزّة سوف نستمع لأطفال يحكون عن معاناتهم، إنه كيان يراكم تاريخاً من المجازر.
○ وماذا عن حضوركم كمؤسسة في دعم صمود سكّان غزة؟
• أولاً لا بد من التأكيد بأن سبعة أكتوبر يشكّل بداية تاريخ جديد في حياة الشعب الفلسطيني، والعالم بأسره سيتأثر بهذا التاريخ حتى الشعوب العربية التي لم تتمكن من دعم غزّة. مجازر لا يقبلها عقل بشري. منذ سنوات سعيت ليكون لنا فرع في غزّة لكنّ الاتحاد الأوروبي الذي يمول مؤسستنا إلى جانب الأمم المتحدة، قال بأنه يدعم الشعب الفلسطيني من خلال الأونروا. نحن بصدد نقل جرحى من غزّة للعلاج، وأعددنا سفينة مساعدات أطلقنا عليها اسم هيلاريون كبوجي، ستصل مصر بمجرد بدء تدفق المساعدات عبر سيناء إلى رفح، ونعلم أن 11 ألف شاحنة تنتظر الدخول ويمنعها الصهاينة، ونسعى لتأمين دعم مالي لعلاج 50 طفلاً من غزّة موجودين في مصر، ونقوم بمساعٍ لإحضار 50 طفلاً للعلاج في لبنان. بعد توقف العدوان ستكون غزّة جزءاً عضوياً من عملنا، فهي تحتاج عقوداً لإعادة بناء القطاع الصحي، ننظر إلى غزّة انطلاقاً من كون عامل مسؤولة «حركة صحة الشعوب في المنطقة العربية وخاصة فلسطين». كافة العلاقات التي نملكها في العالم نعمل لتجيرها لصالح غزة وفلسطين.
○ ما الذي تغير عندما صارت عامل دولية؟
• بات لنا مقرّات في فرنسا، وسويسرا، وإيطاليا، والولايات المتحدة. وستكون لنا مقرّات في سيريلانكا، وشاطئ العاج، وأثيوبيا. لقد تمّ ترشيحنا لجائزة نوبل للسلام بعد أن قدمنا عشرة ملايين خدمة لأهلنا السوريين، تحت شعار التضامن.
كادر
يروي الطبيب كامل مهنا: «نحن فلاحون. امتهن والدي تجارة المواشي بين لبنان وسوريا وفلسطين قبل اغتصابها. اكتشف عبر علاقاته مع التجّار السوريين أن عائلات منهم توفد أبناءها للتعلُم في مدارس بيروت. فلم يكن لدينا تقليد بأن يتعلّم أبناء الفلاحين وبسطاء الناس في المدارس والجامعات الخاصة. فأرسل أخويَ الكبيرين محمد وأحمد إلى مدرسة الحكمة في بيروت. محمد درس الطب في مونتبيليه، وأحمد أصبح مدّعي عام التمييز. إلى جانب مهنته كان والدي نائب رئيس بلدية الخيام لأربعين سنة، تميزت بالنشاط والنزاهة. مع عودة أخويَ من فرنسا بشهادتي طب ومحاماة كبر دوره كعضو مجلس بلدي، أمر أزعج إقطاع ذاك الزمن، فهجموا مع أزلامهم على بيتنا بالسكاكين والفؤوس، وذلك في العام 1962. وما زالت أذني تحفظ صوت إبن الزعيم الإقطاعي يسب والدتي».
بعد سنوات قليلة من تأسيس عامل اكتشفت مسؤولة العلاقات الخارجية في المؤسسة كتاباً موقعاً بإسم «أطباء بلا حدود» عن خدماتهم في منطقة النبعة ومخيم تل الزعتر. اللافت في هذا الكتاب أن أطباء بلا حدود تركوا النبعة وتل الزعتر باكراً، ذكروا الطبيب «كامل الفلسطيني» بسطر واحد وحيد، إنها ازدواجية المعايير المستمرة سابقاً والآن.
لعامل حالياً 32 مركزاً وثماني عيادات متنقلة، ومدرستان في المخيمات، وسيارتان لأطفال الشوارع و1800 عامل متفرّغ، 85 في المئة منهم شابات.