الدموع لنوتردام والشماتة لبغداد

حجم الخط
16

المشهد المحزن الذي رآه العالم للنيران، وهي تلتهم بوحشية الكنوز الثقافية في كاتدرائية نوتردام، أثار مشاعر مئات الملايين من البشر، ومن بينهم الرئيس الأمريكي ترامب، ولكنه بالتأكيد أثار شجون العرب وأحزانهم أكثر من غيرهم.
فأول ما نسمع هذه الأخبار الكارثية، ونرى المشاهد الرهيبة، نتمنى كعرب ومسلمين أن لا يكون الفاعل من أبناء أمتنا، ولا من أولئك الذين يدّعون العمل باسمها، فقد وصل التحريض إلى درجة أننا صرنا نخشى أن نُتّهم بأعمال أو أحداث عرضية، حتى تلك التي نكون نحن ضحاياها قبل الآخرين، هذا الشعور غذّته حملة الإسلاموفوبيا الدولية المنظّمة، التي يقودها ترامب، ويشارك فيها عدد من الأنظمة العربية التي تستمد شرعيتها لدى الآخرين، من خلال التحريض على الإسلام والمسلمين باعتبارها شريكة في إنقاذ العالم من شرورهم.
هذا يعني أنه بات سهلا جداً وضع المسلمين في خانة المتهمين حتى إثبات براءتهم، وأننا قريبون جداً من النقطة التي قد يجري فيها الانتقام من المسلمين، نتيجة عمل فردي يقوم به أحد ما باسم عربي أو مسلم، أو لمجرد شبهة وحتى دعاية كاذبة، أو عمل يقوم به غبيٌ غُرّر به، وقد يكون مدسوساً وموجّهاً، وقد يكون جاسوساً وعميلا لدى جهات معادية ومعنية في إيذاء العرب والمسلمين، وإثارة العالم ضدهم، أو الحصول على شرعية لإيذائهم، ومن ثم وضع العالم كله بكافة أطيافة في مواجهة تدميرية مع الإسلام والمسلمين، خصوصاً أن هناك قيادات بحجم ترامب لا تكف عن اصطياد الفرص للتحريض، حتى النائبة إلهان عمر الصومالية الأصل في الحزب الديمقراطي الأمريكي، لم تنج من تحريضه، لسبب بسيط، هو أن الغاية تبرر الوسيلة في قاموسه السياسي، وليس مهما أبداً ما قد يسببه من ضحايا وأضرار، خصوصاً إذا كان الضحايا من الملوّنين الذين ينظر إليهم من برجه الأبيض.

دخان نوتردام أثار شجون الكثيرين من العرب، فمثلت أمامهم آثار العراق وهي تنهب وتدمّر بحماية قوات التحالف الدولي

دخان نوتردام أثار شجون الكثيرين من العرب، فمثلت أمامهم آثار العراق وهي تنهب وتدمّر أمام أعين ورقابة وحماية قوات التحالف الدولي، وعلى رأسها قوات الولايات المتحدة، فقد نُهب خلال فترة قصيرة في مارس/آذار 2003 أكثر من خمسة عشر ألف قطعة أثرية، وفي بعض المتاحف رأينا عمليات النهب والتدمير جارية أمام أعين القوات الأمريكية، التي فتحت الطريق للرعاع واللصوص لنهب وتدمير تاريخ يعود عمره إلى خمسة آلاف عام، في توجّه حاقد على حضارات الآخرين، خصوصاً العرب. كان نهب كنوز العراق بالبث المباشر، بمثابة احتفالية لدى بعض من يتباكون اليوم على نوتردام، فقد علت وجوههم يومئذ ابتسامات الشماتة، وما زالوا يسهمون حتى يومنا بتدميرها. لم يقتصر نهب آثار المنطقة العربية على العراق، فقد دُمّرت آلاف القطع الأثرية ونهبت في سوريا، من جميع الأطراف المسلحة المتنازعة فوق الأرض السورية، وقد شاركت في النهب والتدمير قوات «داعش»، وقوات النظام نفسه وعصابات تهريب من شتى المناطق، وجرى تدمير للآثار من قبل قوات روسية وأمريكية وقوات النظام، ومن بينها مئات المساجد العريقة والأحياء التاريخية في المدن السورية.
تدمير الآثار ونهبها يعرفه الفلسطينيون جيّدا، حيث تتعرض آثارهم إلى النهب والتزييف، وبعضها يتعرض للإخفاء منذ عقود بهدف واضح، هو التقليل من شأن الوجود العربي والإسلامي وطمسه في فلسطين، إلى جانب عمليات التجارة والربح التي يمارسها كثيرون، البعض بهدف الربح المالي، والبعض بهدف هواية جمع التحف، وقد عُرف عن موشيه دايان وزير الحربية في حرب عام 1967 هواية جمع الآثار. ما مورس ويمارس ضد الآثار العربية والإسلامية هو جزء لا يتجزأ مما مورس ويمارس ضد الإنسان العربي والمسلم، بهدف إيذائه ومواصلة السيطرة على مقدراته وتشويه رموزه الروحية وتدمير تاريخه وجذوره، من خلال تدمير آثاره ونهبها وجعلها في متناول اللصوص والسماسرة والقوادين.
لا أصدق نوبة الأسف والألم التي حلّت بالرئيس الأمريكي ترامب على المعروضات الأثرية في كنيسة نوتردام، ولا شك عندي بأنه كان يتمنى لو كان الفاعل مسلماً، أو شخصاً يفكر باعتناق الإسلام، لأنه سيجد بهذا حجة وتبريراً لعدائه الأعمى للعرب والمسلمين وحقوقهم وحريتهم، وولائه المطلق لليمين الصهيوني المتطرف، وسيكون هذا ردّه على رئيسة حكومة نيوزيلندا التي تعاطفت بشكل غير مسبوق مع المسلمين ضحايا الإرهاب. لا أصدق من يحمل كل هذا الحقد على المسلمين، أن يكون صاحب ذائقة فنية ويتألم لاحتراق لوحات وآثار فنية. كذلك أستطيع التأكيد على أن شريحة كبيرة من الشعوب العربية تأثرت لاحتراق كاتدرائية نوتردام أكثر من معظم الشعب الأمريكي، وذلك أن غالبية الشعب الأمريكي لا تهتم بشؤون الآخرين، ولا يهمها ما يجري خارج أمريكا، بينما تجد شرائح واسعة من العرب تهتم بما يجري في العالم، من خلال ما يسمى ثقافة الشارع، وهذا لا تجده لدى الأمريكي المشغول بنفسه، الذي لا يتعلم من التاريخ سوى تاريخ أمريكا – باستثناء الدارسين المختصين- بينما تجدها لدى شرائح واسعة من العرب الذين يهتمون بالشأن الدولي، ويرون بأنفسهم وشعوبهم جزءاً منه وأحد حلقاته الأكثر استهدافاً.
كاتب فلسطيني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول كمال - نيويورك:

    اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي, وقلة حيلتي , وهواني على الناس , أنت ارحم الراحمين , ورب المستضعفين , وأنت ربي , إلى من تكلني ؟ إلى قريب يتجهمني , او إلى عدو ملكته أمري , إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي , غير أن عافيتك هي أوسع لي , أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات , وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة , أن ينزل بي غضبك , أو يحل بي سخطك , لك العتبى حتى ترضى , ولا حول ولاقوة إلا بك

  2. يقول رائدة أبوصوي/القدس:

    علينا ان نتعلم كيف نعيش سويا كالأخوة أو نهلك كالحمقى . مقولة لمارتن لوثر كنغ
    حادثة احراق كاثدرائية نوتردام اثارت الحزن في قلبي وقلوب الكثيرين
    عندما قرأت الخبر اول ما لمع في ذاكرتي رواية احدب نوتردام / للكاتب الفرنسي فيكتور هيغو
    وبطلها كوازميدو الذي استحوذ على تعاطفنا
    المشاعر الانسانية لا حدود لها التي دارت احداثها في الكاثدرائية . الارهاب لا دين له

    الدين عند الله المحبه بين الناس وعمارة الارض وليس دمارها . الاسلام دين التسامح والتصالح
    التصالح مع الذات ومع الناس . لا اكراه بالدين وديننا يدعوا الى احترام الديانات السماوية الثلاث . اما بعض الظواهر والتجاوزات فالاسلام منها براء. نحن شعوب تعيش ع ارض واحده وتحت سماء واحدة نحلم بالعيش بسلام لنا ولغيرنا من الشعوب . كما ذكرت في مقالك استاذ سهيل نتعاطف مع الغير بلا شك.

  3. يقول محمد السوري:

    لقد لفت انتباهي عند متابعة الأفلام الوثائقية اللتي يبثها الاعلام الغربي عن الحضارات اللتي مرت على بلادنا انهم يركزون على وصف هذه الحضارات وكأنها من عمل اقوام لاينتمون بصلة الى العالم العربي او الإنسان العربي في حال التحدث عن الحضارة الفرعونية او قرطاج او البابلية بينما يركزون على الحفريات اللتي قام بها الرومان في عالمنا العربي بالنسبة لهم لاتوجد في قواميسهم حضارة إسلامية واذا وجدت يجب تدميرها لانها تكشف بربريتهم ضد شعوب العالم

  4. يقول محمد ابو الصغير:

    حتى لو حملنا الحكومة الفرنسية جزء مما يحدث للمسلمين والعرب من نهب وسلب وتدمير حضارتهم ,, لا يمكن لعقلي وقلبي الفرح والشماتة لمنظر النيران تلتهم كتدرائية نوتردام ,,النار تلتهم جزء مهم من تاريخ الأنسانية والبشر ومن يفرح لذلك لا يملك حس انساني ,,

    1. يقول محمد السوري:

      قد يكون فاتنا نحن ( الهمجيين) العرب الاطلاع على الإنجازات التاريخية اللتي خرجت من هذه الكاتدرائية واستفادت منها البشرية نريد ان نعرف اذا كان قساوسة أوروبا اجتمعوا في هذه الكاتدرائية لوقف محاكم التفتيش في اسبانيا او المجازر في الجزائر وسورية ووقف دعم فرنسا للمجرم حفتر في حربه على الشعب الليبي او لوقف دعم البي كاكا في سوري او لإستقبال الاجئين اللذين هربوا من طائرات الصليبي بوتين وترامب والولد بشار المفضل من بابا الفاتيكان وعنصريي أوروبا هل تعلم ان كاتدرائيات أوروبا بنيت من دماء المعدمين اللذين امتصت دماؤهم الكنيسة والمستعمر

  5. يقول سوري:

    نوتردام كنيسة وليست مسجدا، عندما أحرق الصهاينة المسجد الأقصى لم نر أو نسمع أحدهم يأسف على ذلك..
    أسفنا نحن المسلمين كبير على نوتردام وأي صرح ديني او ثقافي

  6. يقول سلام عادل(المانيا):

    واعتقد ان الاسباب كثيرة فنحن شعوب لانقيم للمتاحف اي اهمية فالمدارس لا تقيم اي زيارات لطلابها لاي اثر قديم او معالم حضارية وتاريخيةوالامر الاخر اننا كشعوب تم فصلنا عن تاريخ اجدادنا من غير العرب بصورة مقصودة او غير مقصودة فلذلك لا اهمية عند حكوماتنا لو دمرت كل اثارنا

    1. يقول محمد السوري:

      لقد مضى الزمن اللذي كان فيه الإعراب يذرفون الدموع على الأطلال ويتباكون على الماضي ويبحثون عنه بين ردهات المتاحف والقبور الفرعونية لقد مضى زمن الرومانسية والعشق العذري فنحن نعيش في زمن الفاشية والبربرية والنازية وشريعة الغاب اللتي تهدد مصير البشرية كلها نحن نعيش في زمن يعتبر فيه الإنسان الأبيض نفسه سيد الكون والباقي اما عبيد او ( ارهابيين) يهددون ( حضارته) الإنسانية ولهذا علينا ان نحمي أنفسنا قبل ان تباد مثل الهنود الحمر

  7. يقول سامح //الأردن:

    *المشكلة ف الأساس تكمن
    بضعفنا نحن معشر (العرب والمسلمين )؟
    *لو كنا اقوياء لما أصبحنا (ممسحة)
    لكل من هب ودب و(طراطير )
    لضباع وذئاب العالم..

  8. يقول رسيله:

    يحزنني جدا ما آل إليه وضع قرانا المهجرة في الداخل الفلسطيني ففي كل عام وخلال زيارتي لكثير من تلك القرى خصوصا تلك الواقعة قريبا من المستوطنات الاحظ بأنه سنة عن سنة يزداد هدم اي معلم اثري يمت لتراثنا بصلة فبقايا البيوت القديمة الصامدة هدمت برمتها وتركت اكواما من الحجارة وابار الماء دثرت ولكن الصبار والزيتون واللوز والتين والقمح والزعتر والخبيزة مازالت تنمو وتتكاثر رغما عن كل محاولاتهم لتحكي للشمس حكاية شعب صامد لا بد له ان يعود. الشاعر الكبير محمود درويش يقول: ” أيها المارون بين الكلمات العابرة..
    احملوا أسماءكم، وانصرفوا
    واسحبوا ساعاتكم من وقتنا، وانصرفوا
    واسرقوا ما شئتم من زرقة البحر ورمل الذاكرة..
    وخذوا ما شئتم من صورٍ، كي تعرفوا
    أنكم لن تعرفوا
    كيف يبني حجرٌ من أرضنا سقف السماء.” احييك كاتبنا المتميز والمتالق دائما على هذه المقالة الرائعة لغة وبوحا و ذكريات قرأتها بشغف ومتعة ورايتها تعكس روحا رقيقةً شفافةً تقف وراء كل حرف وكلمة فلك احترامي وتقديري.

  9. يقول ختام قيس:

    صباح الخير
    لقد عملت الدول المسيطرة على العالم منذ عقود على قتل الانسانية فينا وزع مكانها رغبة الانتقام ورغبة التدمير،مهما حاولنا التعاطف مع ما يحدث ،شجبه،او استنكاره فانا فينا نشوة لا شعورية في ان ما حدث هو عقاب سماوي وانتقام القدر لنا على من تطاولت ايدهم في تدمير تاريخنا وتشويهه،لقد صنعت منا هذه القادة التي تدعي السيادة على العالم ازدواجية الشعور والانفصام في رد الفعل في آن واحد،صنعت منا شعب لا يتعاطف حتى النهايه بل بحضور مختصر لا يتعدى الحدث نفسه.
    اشكرك جدا استاذ سهيل.
    تواكب الحدث وترفعه الى دائره الوعي.

  10. يقول رسيله:

    ( بداية التعقيب)صباح ربيعي مزهر مقاله رائعه تثير المشاعر والانفعالات حسرة على كل معلم تاريخي إنساني دثر او يسعى الاخرون لدثره في طيات النسيان، فهذه المآثر هي تراث تلك الشعوب والامم والتي تشير إلى تاريخهم الذي يعني مجمل ما وصلت إليه الأمّة على الأصعدة كافة، وما يوجد في البيئة المحيطة بها فتعدّ الفنون على اختلاف أنواعها من أهم المكونات التراثية للشعوب، ومن أهمها الفنون المعمارية، والفنون التشكيلة، والموسيقى الشعبية، وتصاميم الأزياء الخاصة، وأنواع الرقص المختلفة، واللهجات التي يتكلم بها السكان، وعلى الشعوب أن تتعلم كيفية الحفاظ على التراث، وأن تعطيه المكانة التي يستحقها؛ بسبب أهميته القصوى وما يمثله للشعوب،فهو يشير إلى تاريخها وينعكس على حاضرها ويرسم مستقبلها، كما ينبغي أن يتم تفعيل كافة الأطراف المعنية بمسألة الحفاظ على التراث سواء كان ذلك على مستوى الأفراد، أم الحكومات، أم الهيئات التعليمية، أم مؤسسات المجتمع المدني فعدم التمسك بالتراث يصرف الشعوب عن تاريخها، ويجعلها مقلده للشعوب الأخرى في كل ما هو غير مفيد، وهذا ينعكس على تراجعها حضاريًا وفكريًا واجتماعيًا، ويمهد للشعوب الأخرى الفرصة لإحكام سيطرة باقي شعوب العالم عليها.

1 2

إشترك في قائمتنا البريدية