ابتدأت في نيويورك أعــــمال الدورة الثامنة والستين للجمعية العامة بمشاركة 84 رئيس دولة، 41 رئيس حكومة، 65 وزير خارجية. وقد خصص لكل متحدث خمس عشرة دقيقة، غير أن الكثيرين أعطوا أنفسهم مزيدا من الوقت، خاصة البلد المضيف، حيث استغرق خطاب الرئيس الأمريكي باراك أوباما 40 دقيقة. وقد انتخبت الدورة سفير أنتيـــــغوا وبربودا جون آش رئيسا لهذه الدورة عملا بنظام التمثيل الجغرافي، حيث تكـــون رئاسة هذه الدورة من نصيب دول منطقة الكاريبي.
وللعلم فإن سكان أنتيغوا وبربودا أقل بكثير من سكان مخيم جباليا في غزة، وأقل بكثير من عشيرة بني صخر في الأردن، وأقل بكثير من أعضاء النقابة التونسية للشغل. أما مساحة الجزيرتين وتوابعهما الصغيرة فلا تزيد عن قطاع غزة إلا بمقدار 80 كيلومترا مربعا.
تكررت مواضيع أربعة في معظم خطــــابات رؤساء الوفود: الأزمة السورية وضرورة وقف نزيف الدم، ودعم جهود الولايات المتحدة والاتحاد الروسي لعقد جنيف 2. القضــــية الفلسطينية وفشل المجتمع الدولي في حلها، وأهمية انضــــمام فلسطين لعضوية المنظمة الدولية. الأزمة الإيرانية وما يتعلق ببرنامجها النووي. مسألة الإرهاب على ضوء ما حدث في نيروبي ومالي مؤخرا.
غاب عن هذه الدورة النجومية، ولولا مشاركة حسن روحاني الرئيس الإيراني المنتخب وبثه شيئا من الروح في هذه الدورة وانتظار العالم لما سيقوله حول برنامح إيران النووي، لانخفضت حرارة الدورة عدة درجات وتناقص عدد المراقبين والصحافيين والمتابعين للجمعية للعامة. وللتذكير فقط فقد خطف أضواء الدورة السابقة أربعة رؤساء عرب أفرزهم الربيع العربي، وهم المصري محمد مرسي الذي يقبع الآن في غياهب السجن، واليمني عبد ربه منصور هادي، والليبي محمد المقريف الذي استقال من رئاسة المؤتمر الوطني العام، والتونسي منصف المرزوقي.
يعتقد الكثيرون أن الجمعية العامة عبارة عن ‘مخطبة’ وحسب، ولكنها بالتأكيد المنبر الدولي الأهم الذي شهد وما زال إلقاء كلمات للعديد من زعماء العالم، مثل عبد الناصر وخروتشوف وتيتو ونهرو وكاسترو وأيزنهاور ونيكسون وياسرعرفات ونيلسون مانديلا وسام نجوما وهواري بومدين وعدد من النساء الحديديات، مثل مارغريت ثاتشر وأنديرا غاندي وبنظير بوتو والشيخة حسينة وميشيل باشيليه وآخرهن رئيسة البرازيل ديلما روسيف، بالإضافة إلى عدد كبير من الطغاة ومجرمي الحرب، مثل بينوشيه والقذافي وعيدي أمين وبوكاسا وأفورقي وعمر البشير وشارون وجورج بوش وتوني بلير وغيرهم.
وتستطيع الجمعية العامة أن تفتخر بإنجازات ثلاثة على قدر من الأهمية: تصفية الاستعمار وشرعنة حق الشعوب في النضال بكافة الأشكال لممارسة ‘حق تقرير المصير’، وقد تجسد ذلك في القرار التاريخي لعام 1960 (1514)، والإنجاز الثاني صياغة عدد كبير من المعاهدات والاتفاقيات حول القضايا التي تهم البشرية بكاملها مثل: حقوق الطفل والسكان الأصليين وحقوق المعاقين، وحماية البيئة، ووقف الاتجار بالبشر وتحريم العبودية، ووقف كافة أشكال التمييز ضد المرأة، ومنع إنتاج وبيع واستخدام الأسلحة الكيميائية والبيولوجية، وسلامة الطيران المدني ومنع إنتاج الألغام الأرضية وغير ذلك الكثير. وأخيرا تمنح الجمعية العامة فرصة للدول الصغيرة أن تعرض همومها الخاصة بها على محفل دولي بهذا الحجم، ولولا هذا المنبر لما تمكنت الدول الجزرية مثلا أن تكسب تعاطف العالم حول التغيرات المناخية التي تهدد بغرق بعضها.
وأود أن أشارك القراء في بعض اللقطات التي تستحق التوقف عندها في بداية هذه الدورة:
جرعة كرامة من رئيسة البرازيل ديلما روسيف
لقد شعر الرئيس الأمريكي باراك أوباما أنه كبير على كل الوفود إلا على رئيسة البرازيل دولما روسيف، التي سبقته إلى المنصة. فقد جرت العادة أن تكون البرازيل المتكلم الأول في الدورة تليها مباشرة الولايات المتحدة. وكانت روسيف قد ألغت ‘زيارة دولة’ للولايات المتحدة بعد انفضاح مسألة قيام الأجهزة الأمريكية بالتجسس على البرازيل ومواطنيها. لقد وبخت روسيف الولايات المتحدة على تصرفها الأرعن حول التجسس على البرازيل والشركات البرازيلية والأفراد البرازيليين، وحتى على بعثتها الدائمة لدى الأمم المتحدة في نيويورك. ومما جاء في كلمتها: ‘إننا نواجه يا سيادة الرئيس حالة خطيرة من انتهاك حقوق الإنسان والحريات المدنية، والسطو على معلومات سرية والاستيلاء عليها وعدم احترام سيادتنا الوطنية’. وأضافت مقرعة الحكومة الأمريكية: ‘دعني أعبر للحكومة الأمريكية عن عدم موافقتنا على هذا التصرف ونطالب بتقديم توضيحات والاعتذار وتقديم ضمانات بعدم تكرار مثل هذا التصرف مرة وإلى الأبد’.
وكم أتمنى لو يوجد في بلاد العرب من يقف بمثل هذا الشموخ أمام الدولة الأعظم.
أوباما واستذكار مصدق ومرسي
أعتقد أن اعتراف أوباما بالدور الأمريكي في الانقلاب على حكومة الدكتور محمد مصدق عام 1953 (دون ذكره بالاسم) وإعادة الشاه من منفاه، كان نوعا من الاعتذار غير المباشر للشعب الإيراني، الذي ما زال يختزن مرارة عميقة من إسقاط حكومة ألهبت خيال الجماهير الإيرانية، والتف حولها الملايين بعد تأميم النفط الإيراني وطرد الشركة البريطانية التي كانت تمتص خيرات البلاد. كما أن الشعب الأمريكي لا يمكن أن ينسى حكاية الرهائن الذين احتجزتهم الثورة الإيرانية لمدة 444 يوما. هذا التاريخ من العداء لا يمكن أن يتم تجاوزه بين عشية وضحاها. ومن المفيد أن نذكر أن وكالة الاستخبارات الأمريكية (سي آي أيه) أقرت يوم 18 آب/أغسطس 2013 على موقعها الرسمي بدورها في الانقلاب الذي أطاح بمصدق بمناسبة مرور 60 عاما.
ونقطة أخرى أثارت دهشة المتابعين للخطاب، عنما نفض أوباما يديه من مقولة شرعية الرئيس محمد مرسي، حتى لو أنه وصل قصر الرئاسة بالانتخاب، إلا أنه عاد وأقر بشرعية الانقلاب عليه الذي جاء ‘بناء على رغبة ملايين المصريين الذين اعتقدوا أن الثورة انحرفت عن مجراها’. درس كبير لمن يراهن على أن أمريكا تقف إلى جانب أحد إلا انطلاقا من مصالحها فقط.
روحاني وإشارات إيجابية متبادلة مع الأمريكان
ليومين متتاليين والمسؤولون الأمريكيون ونظراؤهم الإيرانيون يحاولون ترتيب مصافحة تاريخية بين الرئيسين أوباما وروحاني، تظهر للعالم على أنها صدفة لم تثمر وضاعت الفرصة أثناء حفلة الغداء الرسمي التي رتبها الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون لرؤساء الوفود يوم الثلاثاء. والحقيقة أن الوفد الإيراني هو الذي طلب إلغاء المحاولة لكثرة التعقيدات المصاحبة لها، كما أن السيد روحاني تغيب عن الغداء ولا نعرف هل تعمد ذلك أم لا. فالإشارات الإيجابية الصادرة عن روحاني مصحوبة بمصافحة تاريخية قد يستغلها المتطرفون في إيران لتوجيه سهامهم للرئيس الجديد.
خطاب روحاني قد يتفق في الجوهر مع خطابات أحمدي نجاد، غير أن اللغة بالتأكيد تختلف. ابتعد عن اللغة الانفعالية التحريضية ولم يذكر إسرائيل بالاسم، عداك عن تهديدها بالدمار أو إنكار المحرقة اليهودية على أيدي النازية، لكنه حرص على الحديث عن معاناة الشعب الفلسطيني. أكد روحاني أن بلاده لا تنوي تحويل اليورانيوم المخصب إلى سلاح نووي ولا تسعى لامتلاكه أصلا. الشيء اللافت للنظر أن الانسحاب التقليدي من قاعة الاجتماعات التي كانت تقوم بها الوفود الغربية مع بداية خطاب أحمدي نجاد اختفت هذه المرة وبقيت الوفود في أماكنها بمن في ذلك سامانثا باور، سفيرة الولايات المتحدة ولم يتغيب عن القاعة إلا الوفد الإسرائيلي.
محمود عباس وغياب عدسات الكاميرا
لا أحد هنا مهتم بوجود الوفد الفلسطيني. ولا أعرف ما هو السبب في حضور وفد كبير فعلا وماذا سينجز وإلى أين تتجه السياسة الفلسطينية. أكتب عن الوفد قبل إلقاء كلمته فلا يهمني ماذ سيقول لأنني أعرف أن ليس هناك جديد. لقد أطريت على خطابه قبل عامين عندما تقدم بطلب عضوية كاملة للأمم المتحدة، وحرصت على حضور الخطاب، بل واصطحبت عددا من طلابي في قسم العلوم السياسية، وسميت الدورة السادسة والستين ‘دورة محمود عباس بامتياز’.
وفي السنة الماضية أثار التصويت على مشروع قرار يعتبر فلسطين دولة ‘غير عضو’ بالأمم المتحدة زخما إعلاميا كبيرا، ولكنني لم أحضر الخطاب بل أرسلت مجموعة من طلابي للحضور. أما هذه السنة فلا أنا ولا طلابي سيحضرون الخطاب لأنه بلا لون ولا طعم ولا رائحة.. فقد أكد عباس للرئيس الأمريكي في لقائهما على هامش الدورة أن الوفد الفلسطيني لن يهدد بالانسحاب من المفاوضات مهما حدث، وأن تهديد صائب عريقات بالانسحاب كان فقط ‘لعب عيال’. أما الرئيس الأمريكي فقد أثنى على السلطة الفلسطينية وجهودها في تحسين الأمن الداخلي وتطوير قوات أمن مهنية داخل مناطق السلطة. إذن المفاوضات ستستمر وكذلك الاستيطان والمداهمات والاعتقالات ومصادرة الأراضي والاستيلاء على البيوت في الخليل، واقتحامات ساحات الأقصى ومخيم قلندية، وزغرودة للمفاوضات التي بقي من التسعة شهور التي اتفقا على إتمامها خلالها سبعة أشهر فقط. فلننتظر.
‘ أستاذ جامعي وكاتب عربي مقيم في نيويورك
ليت القديم لم يأفل …. والجديد لم يسطع!!!!!