تونس-“القدس العربي”: كان التونسيون ومحبو الفن السابع على موعد هذا الأسبوع مع أيام قرطاج السينمائية التي انطلقت يوم 26 تشرين الأول/أكتوبر واختتمت أمس. هذا المهرجان السنوي الذي يتجدد كفصل الربيع حاملا معه أحلام المبدعين والفنانين وأزاهير الباحثين عن المتعة والفرح في أجواء خاصة. وحملت “دورة نجيب عياد” معها باقة من الأفلام التونسية والعربية والعالمية التي تتناول الحياة بمختلف جوانبها ومشاكلها وتحدياتها. ولئن كانت السينما مرآة للمجتمع ففي أيام قرطاج السينمائية تصبح السينما مرآة العالم وفرصة للقاء المبدعين من مختلف المشارب الفنية والفكرية ومن أنحاء العالم على أرض قرطاج العريقة.
وقد انطلقت هذه الدورة بوداع مديرها نجيب عياد الذي وافته المنية وغادر صانعا نهاية المشهد على طريقته، فحملت الدورة اسمه وفاء لروحه، وكرمته في قاعة عمر الخليفي في مدينة الثقافة، بحضور وزير الشؤون الثقافية محمد زين العابدين، إلى جانب العديد من الوجوه الإعلامية والفنية، وأكد الحضور على دور الراحل في بعث نوادي السينما وفي تطوير السينما التونسية وفي اكتشاف المواهب التونسية وتشجيعها. وأكد وزير الشؤون الثقافية محمد زين العابدين أن رحيل نجيب عياد خلف فراغا كبيرا وأن غيابه ترك علامات واضحة على الساحة الثقافية.
قيم متأصلة
ويعتبر الصحافي المختص في الشأن الثقافي والشاعر التونسي ناجي بن جنات في حديثه لـ “القدس العربي” أن الميزة اللافتة لأيام قرطاج السينمائية في دورتها الثلاثين هي حرص هيئتها المديرة على إعادة الاعتبار للقيم التي من أجلها انبعثت هذه الأيام سنة 1966 على يدي الأب المؤسس الطاهر شريعة، ناهيك عن الوفاء للثوابت التي كافح من أجلها الراحل نجيب عياد. ويضيف بالقول: “وفي تصوري تعكس هذه القيم والثوابت الحرص على إعادة الاعتبار للبعد الافريقي في هذه التظاهرة العريقة من ذلك الاحتفاء بالسينما النيجيرية وفتح كل النوافذ الممكنة على الواقع العربي المتغير في ظل ما يشهده هذا الواقع من متغيرات وحروب وأزمات فادحة. ولا شك أن فيلم “عرايس الخوف” للمخرج النوري بوزيد الذي افتتح التظاهرة ينخرط في صميم هذه الرؤية بتسليطه الضوء على معضلة ما يعرف بجهاد النكاح وما أفرزه من واقع مخيف وتداعيات خطيرة على العديد من المجتمعات العربية”.
ويتابع: “بقية الأفلام ساهمت في دورها في تعرية قضايا الواقع الراهن مثل فيلم “الوصول” للمخرج هشام صفر الذي يعالج قضية الاكتئاب وكذلك فيلم “نورة تحلم” للمخرجة التونسية هند بوجمعة الذي تطرقت من خلاله إلى مسائل حساسة مسكوت عنها في المجتمعات الذكورية بذريعة العادات والتقاليد، كاغتصاب الزوجة والعنف المسلط على المرأة والأبناء. لكن اللافت أيضا في هذه الدورة هو غياب نجوم السينما العربية وهو ما يطرح سؤالا حول واقع السينما العربية ومدى تماهيها مع التظاهرات في محيطها الإقليمي والدولي”.
واعتبر بن جنات أن الدورة الثلاثين لأيام قرطاج السينمائية هي دورة المرأة بامتياز بدليل ان 19 مخرجة تونسية تشارك في هذه التظاهرة تأكيدا على مكانتها وجدارتها في هذا الفن الذي عاش طويلا في ظل الهيمنة الذكورية سواء في تونس أو خارجها.
باقة متنوعة
قدم المهرجان باقة من العروض المحلية والعربية والعالمية احتضنتها قاعات السينما في تونس العاصمة وكذلك في مدينة الثقافة التي استقبلت زوارها بالسجاد الأحمر. ومن أبرز الأفلام التونسية المعروضة “نورا تحلم” للمخرجة هند بوجمعة والذي حصد أكثر من تتويج عالمي وذاع صيته لأنه يركز في الأساس على قضايا المرأة وواقعها الاجتماعي. والعمل من بطولة هند صبري التي نالت جائزة أفضل ممثلة في مهرجان الجونة السينمائي بمصر في أيلول/سبتمبر الماضي. ونورا هي امرأة كتبت عليها الحياة الشقاء بعد سجن زوجها ولكنها أبت الاستسلام لهذا الواقع.
“بيك نعيش” هو أيضا من أبرز الأفلام التونسية التي حازت على اهتمام الجمهور للمخرج الشاب مهدي البرصاوي. ويتحدث الفيلم عن قصة زوجين “فارس” و”مريم” كانا يعيشان حياة عادية برفقة ابنهما ولكن بعد الثورة تنقلب حياتهما بسبب الفوضى التي تشهدها البلاد. ويسلط الفيلم الضوء على حياة هذه الأسرة التونسية في ظل الوضع الصعب التي عاشته البلاد في مخاضها الانتقالي الصعب مع كل ما شهدته من هزّات أمنية وسياسية واقتصادية.
كما قدم المخرج الفاضل الجزيري فيلمه الجديد “قيرة” وهو مستوحى من ثورة سيدي بوزيد وقد استلهم ثورة صاحب الحمار التي شهدتها تونس في تاريخها القديم ففي كلا الثورتين ينتفض هذا الشعب على الظلم والعبودية والديكتاتورية ولا يزال يبحث عن طريق أفضل صوب شمس الحرية والديمقراطية والعدالة.
وفي مسابقة الأفلام الوثائقية القصيرة تحضر تونس بعملين هما “أهل الكهف” لفخري الغزال ومدته 20 دقيقة ويوجه خلاله المخرج رسائل مفتوحة لاثنين من مغني الراب في رحلة هجرتهما السرية من الرديف إلى فرنسا. أما فيلم “من طين” أو “كل شيء يأتي من التراب” ليونس بن سليمان ومدته 9 دقائق فيحاول إزالة الحدود بين الفن، العمارة، التصوير الفوتوغرافي والسينما.
ولعل أبرز الأفلام المعروضة في رأي عديد النقاد والجماهير هو فيلم “نجمة الصبح” للمخرج السوري جود سعيد والذي يعالج قضية الفتيات السوريات المخطوفات من التنظيمات الإرهابية. وقد حظي هذا الفيلم بمتابعة كبيرة وهامة من جماهير المهرجان في قاعة الأوبرا الكبرى في مدينة الثقافة وبحضور المخرج السوري محمد ملص الذي حيته الجماهير الحاضرة وبادلها بدوره التحية.
السينما الافريقية
كعادته كل عام حافظ مهرجان قرطاج السينمائي على خصوصيته في الانفتاح على السينما الافريقية. وقد اختار القائمون على هذه الدورة السينما النيجيرية لوضعها تحت المجهر وذلك بحضور ضيوف المهرجان المخرج والمنتج النيجيري أبّا تي. ماكاما صاحب فيلم “Green White Green” والمخرج سي.جي اوباسي المشارك بفيلميه الروائي القصير “Hello Rain” والروائي الطويل “Ojuju”. وكانت مشاركة السينما النيجيرية بفيلمين هما كينث جيانغ “أولوتوري” وفيلم “موكاليك” لكونل أفوليان وتابعه جمهور من الصحافيين والسينمائيين وعشاق الفن السابع. وصرح مسؤول قسم سينما نيجيريا تحت المجهر، خليل سلام، على هامش العرض ان قسم “تحت المجهر” أتاح الفرصة للسينما النيجيرية لتسجل حضورها بقوة في هذه الدورة.
ولعل ما يميز هذه الدورة ايضا تركيزها على إيصال عبق مهرجان قرطاج السينمائي للجهات. ففي بنزرت كان اللقاء مع عروض مسرحية شبابية إضافة إلى عرض عديد الأفلام أمام الجمهور ومنها فيلم “الغياب”.
لبنان ضيف المهرجان
ضيف المهرجان هو لبنان حيث انتظمت على هامش الأيام ندوة حول “السينما اللبنانية: الواقع والآفاق” بحضور رضوان عيادي المشرف على قسم “سينما لبنان تحت المجهر” ورئيس مؤسسة سينما لبنان مايا دي فراج والمؤرخ السينمائي اللبناني هادي زكا. حيث تمت العودة إلى أبرز المحطات التي عرفتها السينما اللبنانية وأفلامها والأعمال التي تركت أثرا بالغا في الساحة السينمائية العربية والعالمية. فلبنان “سويسرا الشرق” قبل ان تضربه الحرب الأهلية الأليمة لسنوات لطالما كانت عاصمة السينما العربية بامتياز في أوجها وفي عصرها الذهبي. وكان نصيب الجمهور من الأفلام اللبنانية 16 فيلما تتوزع بين فئتي الطويل (10 أفلام) والقصير (6 أفلام). وتتطرق هذه الأفلام إلى مراحل هامة من تاريخ لبنان الحديث مثل الحرب الأهلية التي اندلعت عام 1975 واستمرت 16 عاما. وتضم قائمة الأفلام الطويلة فيلم “كفر قاسم” لبرهان علوية و”حروب صغيرة” لمارون بغدادي و”صباح الخير” لبهيج حجيج و”سكر بنات” لنادين لبكي و”كان يا مكان بيروت” لجوسلين صعب و”طيف المدينة” لجان خليل شمعون و”أرض مجهولة” لغسان سلهب، و”لما حكيت مريم” لأسد فولادكار و”بيروت الغربية” لزياد دويري.
وتضم قائمة الأفلام القصيرة فيلم “تحت العباءات” لميشيل زرازير و”آخر أيام رجل الغد” لفادي باقي و”تشويش” لفيروز سرحال و”مبروك” لسنتيا صوما و”الجفت، الواوي، الذئب والصبي” لوليد مؤنس و”موج 98 ” لإيلي داغر.
في السجون
وللتأكيد على دور الفعل الثقافي في نشر ثقافة الحياة والسلام وايمانا بحق الجميع في السينما انتقلت أيام قرطاج إلى السجون وهي بادرة أطلقها المخرج ابراهيم اللطيف في دورة 2015 وظلت متواصلة. وهي تمثل فرصة هامة للقاء بين صناع الفن السابع والمساجين وجها لوجه للنقاش حول عناوين عديدة مثل أهمية الثقافة في حياتنا كخلاص للبشرية من العتمة ومن الظلمة. وأبرز الأفلام التي عرضت في السجون فيلم “عرائس الخوف” في السجن المدني المرناقية، وفيلم “فتح اللهTV ” في السجن المدني ببرج الرومي، وفيلم “عالعارضة” لسامي التليلي بالسجن المدني بصوّاف وفيلم “صباح الخير” لبهيج حجيج بالسجن المدني بالقصرين وفيلم “مبروك حبيب” لسنتيا صاوما في مركز الطفولة الجانحة بسيدي الهاني و فيلم “لما بنتولد” لثامر عزت بالسجن المدني بالمسعدين وفيلم “فترية” لوليد الطايع بالسجن المدني بمنوبة.