تونس ـ «القدس العربي»: احتضنت قاعة «الحمراء» في مركّب الزفير بالمرسى (18 كلم شمال العاصمة تونس) حفل افتتاح الدورة 21 لأيام السينما الأوروبية في تونس التي تمتدّ على الفترة ما بين 16 أيلول/ سبتمبر و4 تشرين الأول/ أكتوبر من السنة الحالية، وقد أشرفت عليه رئيسة البعثة الأوروبية في تونس «لاورا بيزا» وبحضور وزيرة السياحة التونسية آمال كربول ومدير الدورة كمال بن وناس وعدد كبير من الإعلاميين والسينمائيين العرب والأجانب. تضمّن حفل افتتاح هذه الأيام السينمائية التي خصّصت للشرائط الوثائقية عرض فيلم «les tourments» «العواصف» للمخرج البلجيكي «بيار إيف فاندويرد»». ويشارك في مسابقات هذه الدورة 42 فيلما من 12 دولة أوروبية هي فرنسا والبرتغال وألمانيا وإسبانيا وهولندا وإيطاليا والمجر وبريطانيا وجمهورية التشيك وبلجيكا وبولندا و4 دول عربية هي تونس والجزائر والمغرب وموريتانيا. وتتوزّع العروض على كلّ من مدن تونس العاصمة وسوسة وصفاقس وسيدي بوزيد وقابس ومدنين. وفي هذه الدورة، سيكون الجمهور هو الحَكَم في إسناد ثلاث جوائز لأحسن فيلم طويل وأحسن فيلم قصير وأحسن فيلم للأطفال.
وجه أوروبا الخفيّ
«العواصف» هو أحدث أفلام المخرج البلجيكي بيار إيف فاندويرد (إنتاج سنة 2014)، وهو عبارة عن شريط وثائقي نجح صاحبه في جعله مرآة تعكس الوجه الثاني لشعوب أوروبا؛ إذ انصبّت الصورة فيه، بفضل ما نهضت عليه من تقنيات فنية عالية، على نقل أحوال فئة من المُهمَّشين اجتماعيا وكشف معاناتهم التي ظلّت محفورة في وجداناتهم دونما قدرة منهم على تجاوزها ودون اكتراث أهاليهم أو المؤسّسات الرسمية بمصائرهم وتخليصهم من آلام ذاكرتهم. فهم فئة من المحجوزين في مشفى المجانين في قرية «سانت ألبان»، ينفتحون بذاكرتهم على تاريخ أسلافهم الذين دُفن منهم ثلاثة آلاف فرد بسبب مرضهم العقليّ، بين سنتيْ 1880 و1980، ويعيدون إحياء ذكراهم عبر مجموعة من الطقوس التي يمتزج فيها جنون الإنسان بجنون الطبيعة.
الفيلم الذي استغرق تصويره في جنوب فرنسا ثلاث سنوات حضرت فيه مَشاهِد موغلة في الصمت، لم ترض من ألوان الأرض سوى بالأبيض والأسود، وهو ما أشاع فيه على مدار وقت عرضِه (ساعة ونصف) جوّا مشحونا بالقلق والتوتّر والكآبة بلغ حدّا جعل بعض المشاهدين يغادرون قاعة العرض لعدم تحمّلهم قسوة واقع هؤلاء المنسيّين. ولكي يزيد المخرج «بيار إيف فاندويرد» من قتامة ما ينقل من هؤلاء، اتكأ على قسوة الطبيعة وأهوالها لتكون إطارا لأحوالهم بما فيها من عواصف ثلجية غاضبة وفراغ أرضي ينبئ بوحشة الكائن وهو يصارع أيامه بحثا عن نقطة ضوء قد تأتي من وراء العتمة، وقد تمّ تصوير كلّ ذلك بتقنيات فنية توسّلت تقريب الصورة سبيلا إلى نقل تفاصيل ملامح الوجوه بكل ما فيها من حزن وكآبة نقلا ممزوجا بموسيقى خافتة صورتها احتكاك الرياح بالحجارة ما أكسب الفيلم في كثير من مشاهده شعرية عالية.
وبالتوصيف يجوز القول إن فيلم «العواصف» وخزة جريئة لضمير الغرب المتبجّح بالعدالة وحقوق الإنسان، بل هو رسالة تنبّهه إلى عذابات الفئات المهمّشة وتحفزه إلى إعادة النظر في سياساته الاجتماعية التي بالغت في إشهار مظاهر الرفاه العامّ لتخفي بذلك مظاهر أخرى تمثّل خلفية سوداء للديمقراطية الحديثة.
أفلام في الخَلاء
لئن رأى البعض في أيام السينما الأوروبية في تونس على الجهات الداخلية للبلاد التونسية إضافة مائزة لهذه الدورة، فإن الواقع يشي بكون ذاك الانفتاح لم يكن مدروسا؛ ذلك أن أغلب المدن الداخلية لا تتوفّر على قاعات جاهزة لعرض الأفلام، وهو ما حدا بالمندوبيات الجهوية للثقافة إلى التكفّل بعرض الأفلام المقرَّرة في المراكز الثقافية. والحريّ بنا في هذا الشأن التذكيرُ أنّ عدد قاعات العرض السينمائي بالبلاد التونسية قد راح يتقلّص بشكل سريع، فقد كان جاوز عددها في السبعينات 150 قاعة، أما اليوم فالعدد لا يتجاوز 12 قاعة، حيث أغلقت أكبر قاعات السينما المعروفة على غرار قاعات «المونديال» و»أفريكار» و»الكابيتول» في العاصمة، وقاعة «النجمة» في سوسة، وقاعة «الأطلسي» في صفاقس، وقاعة «باريس» في بنزرت. كما أغلقت قاعات أخرى في المدن الداخلية الأخرى لأسباب مادية ما جعل الفعل السينمائي التونسي المنهك بإكراهات التمويل الأجنبي معرضا من جديد لإكراهات ندرة قاعات العرض.