الدورة 58 لمهرجان قرطاج الدولي: سهرات تونسية وعربية ودولية تشدو للحلم والإبداع

روعة قاسم
حجم الخط
0

تونس ـ «القدس العربي»: من على ركح مسرح شارع الأوديون بالمنطقة الأثرية بقرطاج سيدة المتوسط والأطلسي لقرون، افتتح الفنان التونسي لطفي بوشناق الدورة الـ58 لمهرجان قرطاج الدولي بعرض فني بعنوان «عايش لغناياتي» وذلك يوم 18 تموز/يوليو الماضي. ومن على هذا الركح نفسه الذي اعتلاه الأولون عشقا للثقافة وحبا للإبداع، ستُحيي الفنانة السورية أصالة نصري حفل الاختتام يوم 17 آب/اغسطس الجاري وذلك بعد مرور 30 سنة على أول حفل لها في قرطاج.

برنامج متنوع

ويتضمن برنامج المهرجان الدولي سهرات عديدة ومتنوعة تنقسم إلى سبع سهرات يحييها فنانون من تونس، وست سهرات لفنانين عرب، وستة عروض ركحية وفرجوية. كما يتضمن البرنامج خمس سهرات من سائر دول العالم في إطار إنفتاح المهرجان على عدة ثقافات استلهاما من روح قرطاج التي خرجت باكرا إلى مشارق الأرض ومغاربها بحثا على ما ينفع الناس.
وكان الفنان اللبناني وائل الكفوري قد أحيا سهرة استثنائية في هذا المهرجان شدت إليها الإنتباه، واستمتع جمهور قرطاج أيضا بسهرة لأوبرا «كارمن» في نسختها التونسية، وسهرة أخرى للفلامينكو الإسباني مع الراقصة الإسبانية سارا باراس، وسهرة خاصة بالفن التونسي الأصيل أحياها الفنان زياد غرسة. كما تضمن المهرجان سهرة لحمزة نمرة من مصر تلاها عرض لمجموعة ذو ويلرز «The wailers» الجامايكية، ثم عرض لمسرحية بيغ بوسا «Big Bossa « للفنانة التونسية وجيهة الجندوبي، وعرض آخر لأمين بودشار من المغرب.
ومن السهرات اللافتة في المهرجان في دورته لهذا العام سهرة القيصر الفنان العراقي كاظم الساهر يوم 3 آب/أغسطس وسهرة يومي 6 و 7 آب/أغسطس التي خصصت لسيرك الرقص على الجليد الاصطناعي في عز الصيف. كما سيحيي الفنان السينغالي العالمي يوسو ندور سهرة يوم 14 من هذا الشهر وكانت قبله الفنانة المصرية آمال ماهر قد اعتلت الركح الأثري الشهير وكذا الفنانة التونسية نجاة عطية. كما يتضمن المهرجان عرضين فنيين واحد بعنوان «نوبة غرام» لمحمد علي كمون وآخر بعنوان أنغام في الذاكرة 3 وكلاهما من تونس.

اختلاف في التقييمات

لقد وصف البعض هذا البرنامج بـ«البرمجة الفنية التي ترتقي بالذوق العام وترضي جميع الأذواق» خاصة مع غياب بعض الأنماط التي رأى كثير من النقاد والمهتمين بالشأن الثقافي في موطن القرطاجيين، في وقت سابق، أنها لا تليق بمهرجان عريق كمهرجان قرطاج يستمد إسمه من واحدة من أهم الحضارات في تاريخ الإنسانية. بالمقابل انتقد الكثيرون هذه البرمجة معتبرين أنها لا تلبي أذواقهم وميولهم الفنية التي اعتادت على أنماط أخرى لا يبدو أن ركح قرطاج سيتسع لها في ظل الدعوات إلى عودته إلى الجادة وإلى الأهداف التي تأسس من أجلها هذا المهرجان الأعرق عربيا وأفريقيا والذي يقود القاطرة الثقافية في محيطه الإقليمي.
ومن الأشياء اللافتة في هذه الدورة الجديدة لقرطاج الدولي إقامة معرض فني لتوثيق ذاكرة هذا المهرجان العريق وللاحتفاء بستينيته وهي بادرة استحسنها الكل اعتبارا لقيمة الأسماء الكبيرة من تونس ومن البلدان العربية والعالم التي صعدت على هذا الركح التاريخي وصنعت مجدها فيه. وأكدت الجهات المنظمة على أن المهرجان الذي تشرف عليه وزارة الثقافة التونسية يحسن التصرف من الناحية المالية أيضا، فهو يتحكم في الميزانية المرصودة له بشكل جيد، فقد أنفق هذا العام أقل مما أنفقه خلال الدورة الماضية بدون المساس بجودة العروض.

”عايش لغناياتي”

لقد كان لطفي بوشناق ممتعا كعادته للجماهير التونسية على ركح شارع الأوديون، فهو لم ينل الإشعاع الخارجي إلا بعد أن نال جواز سفره من جماهير بلاده التي عشقت أغانيه وفنه الراقي. قدم بوشناق، الذي غنى وكتب ولحن ومثل في الأفلام والمسلسلات والمسرحيات الغنائية، عرضه الموسيقي تحت عنوان ”عايش لغناياتي”. وقد أخرج هذا العرض ركحيا نجل بوشناق الأول المخرج عبد الحميد بوشناق، ووزعه موسيقيا نجله الثاني حمزة بوشناق.
وغنى بوشناق كعادته للأحياء القديمة التاريخية والشهيرة بمدينة تونس العتيقة على غرار حي الحلفاوين، والمدن القريبة منها والتي أصبحت بعد توسع المدينة عمرانيا جزء منها إداريا ووجدانيا. كما غنى للقدس زهرة المدائن وهو الذي استقال من منصبه كسفر للنوايا الحسنة احتجاجا على الموقف المخجل لمنظمة الأمم المتحدة من القضية الفلسطينية وبقاء مجلس أمنها تحت رحمة بلدان مساندة للكيان الغاصب.

عود على بدء

وبعد غياب ست سنوات عاد كاظم الساهر إلى قرطاج الذي أحبه وسانده منذ بداياته بسهرة استثنائية تضمنت أغانيه القديمة والجديدة من بينها «الحب المستحيل» و«الشباك» و«يوم ميلادي» و«مررت بصدري» و«هل عندك شك» و«كلك على بعضك حلو». وغنى القيصر العراقي طيلة ساعتين كل أغانيه كاملة رغم مرافقة الجمهور له في الغناء كما استمع لطلباتهم الغنائية ولبى أغلبها، وذلك خلافا لفنانين آخرين اعتادوا على ترك الجمهور يغني بدلا عنهم ويكتفون بالتعبير عن إعجابهم بالجمهور الذي يحفظ أغانيهم عن ظهر قلب.
والملاحظ أن الفرقة الموسيقية التي رافقت كاظم الساهر كانت مكتملة العدد والآلات الموسيقية وهو ما رأى فيه البعض احتراما لجمهور قرطاج خلافا لفنانين آخرين لا يجلبون إلا عددا محدودا من العازفين رغبة في الربح ويكون ذلك على حساب المادة المقدمة. وقد أدت الفرقة أداء استثنائيا واحترافيا تكامل مع إبداع الفنان العراقي وصوته الشجي الذي تفاعل معه الجمهور الحاضر بشكل لافت فكانت سهرة تاريخية بكل ما للكلمة من معنى من سهرات قرطاج أعادت الذاكرة إلى زمن الفن الجميل والراقي.

المؤتمن على الإرث

ومن السهرات التي بقيت في البال سهرة يوم 25 تموز/يوليو المتزامنة مع عيد الجمهورية وهو اليوم من سنة 1957 الذي ألغت فيه تونس النظام الملكي وتم إعلانها جمهورية، وأحيا هذه السهرة الفنان التونسي الأصيل، وريث أساطين الغناء التونسي العتيق زياد غرسة. لقد أخذ زياد، نجل الموسيقي التونسي الراحل الطاهر غرسة، تلميذ خميس الترنان الذي هو بدوره تلميذ أب المالوف التونسي أحمد الوافي، أخذ جمهور قرطاج إلى عالم الأغنية الراقية والطباع الأصيلة التي يشعر معها هذا الجمهور بالحنين إلى زمن الأجداد وإلى بيوت وقصور المدن العتيقة وأزقتها وأسواقها وأبوابها وكل مكوناتها وتفاصيلها.
هي رحلة تونسية صرفة في الماضي الجميل الذي رحل أهله إلى عوالم الخلد تاركين آثارهم الفنية والمعمارية والحرفية والتراثية وغيرها شاهدة على إبداعهم وتوارثتها منهم الأجيال الحالية وحافظت عليها وطورتها. وزياد غرسة حتى وإن خرج أحيانا عن هذا النمط الموسيقي التقليدي الأصيل، إلا أنه يبقى رمزه والمؤتمن عليه والمتحمل لمسؤوليته التاريخية في صيانته والحفاظ عليه باعتباره وريث الكبار والبناة والمؤسسين الأوائل.

للريغي نصيب

ومن السهرات المتميزة أيضا سهرة مجموعة «الويلرز» التي تحولت إلى احتفال حقيقي بفن الريغي الذي أحبه التونسيون من خلال بوب مارلي وألفا بلوندي وآخرين ألهموا الشباب الثائر خلال العقود الماضية. وحضر هذه السهرة مزيج من التونسيين المغرمين بهذا الفن والأجانب المقيمين في تونس، وأيضا عدد من السياح ومن سفراء الدول الغربية، وهو ما يدل على أن قرطاج لهذا العام نجح في الاستجابة لكل الأذواق والأنماط الموسيقية. وتنتمي هذه المجموعة الموسيقية الشهيرة إلى دولة الجاماييك أو جامايكا الكارايبية موطن فن «الريغي» وموطن العملاق الراحل بوب مارلي الذي رافقه في مسيرته أعضاء من هذه المجموعة الذين يمكن اعتبارهم رفاق دربه وورثته الحقيقيون.
لقد كان الحفل جميلا واستثنائيا استمتع فيه جمهور قرطاج في ليل صيفي ساحر وهادئ بإيقاعات موسيقى الريغي المنبعثة من آلات القيثار والباص والدرامز وبثقافة جزر بحر الكاريب وأمريكا الوسطى من خلال أغاني هذه المجموعة العالمية على غرار أغنية «إيز ثيس لوف» وأغاني العملاق بوب مارلي على غرار «نو وومن نو كراي» و«وان لوف» وغيرها. ومن المؤكد أن هذا الحفل سيبقى راسخا في الذاكرة مثل عروض كونية عديدة شهدها هذا الركح القرطاجي التاريخي الشاهد على تعاقب الحضارات والأجيال والثقافات كيف لا والجمهور رفض مغادرة مجموعة الويلرز للمسرح عند انتهاء الحفل وطلب منهم المزيد وهو ما استجابت له المجموعة التي تفاعلت مع جمهورها القرطاجي وغنت له على القضايا الإنسانية على غرار التمييز العنصري والاستعمار.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية