عندما نروم البحث في موضوع النهضة الجزائرية زمن الاحتلال، الدراسة والبحث والتحليل التاريخي يلزمنا، ولو نوعاً من اللزوم، بتحديد مطلع القرن العشرين كبداية لملامح وإرهاصات هذه النهضة، وأن المشروع الذي كان يفكر فيه رواد النهضة الجزائرية، ينطوي على إشكالية الدولة/ الأمة، أي إشكالية، تطال كل مقومات الأمة والدولة معاً، وأن الأسبقية كانت دائما لمقومات الأمة في جملة شروطها واعتباراتها ومقتضياتها التاريخية والاجتماعية والأخلاقية والرمزية، فضلا عن المعطيات الوجودية القائمة، أي ما هو متوفر من المدنية الفرنسية الغربية في الجزائر.
فالحقيقة التي مراء فيها أننا ندخل تاريخ الجزائر الحديث، وتناوله من خلال مسألة النهضة، والمسألة الاستعمارية والمسألة الأهلية والمسألة الدينية والمسألة اللغوية، وكل هذه المسائل بلا استثناء تناولتها الحركة الإصلاحية، بل أسست لها وصارت ليست الأصل الذي عادت إليها التشكيلات السياسية والاجتماعية كافة وحسب، بل الوعاء الذي لازم وعي الفاعلين والناشطين الجزائريين كافة، إلى غاية استقلال الجزائر.
ما تلح عليه مقاربات وطرق وروح البحث العلمي في الجزائر، بعد المصادرة الكبرى للاستقلال «الوطني» والإعدام المبرم للمعارضة السياسية، والتأجيل الدائم للديمقراطية، هو أن ينهض الباحث الجزائري بخطوة أولى اتجاه الحالة القائمة، يتخطى بها النظام الخانق الجاثم على صدر الجزائريين منذ عقود من الزمن، أي التحرر من «الوطنية الزائفة» وخطوة أخرى اتجاه التاريخ الاستعماري من أجل أن يتحرر منه أيضا، ولا يَعُدّ نفسه طرفا في صراعات وسِجالات لا تعنيه شخصيا، بقدر ما يروم فقط فهم، أو إعادة فهم ماضي اغْتُصب ولا يزال مُعْتَقلا .
إن البحث عن الاستقلال التاريخي للأمة الجزائرية، هو الشرط اللازم لأي إمكانية حديث عن الدولة الجزائرية المنشودة، وشرعية من يتولاها، بناء على رصيده من النضال الحقيقي وليس الصوري، أو الشعبوي والعسكري الاستعراضي العَرَضِي، فالدول التي جاءت عبر السلاح والانتصار في الحروب، سرعان ما سلّمت القيادة والتدبير إلى القيادات والإطارات المدنية كشرط لإرساء الدولة/ الأمة.
إن تراث الحركة الوطنية بمعناها الشامل الذي يتَقَّوم ويتحدد بالمساهمة في الاستقلال التاريخي للأمة الجزائرية، يحتاج اليوم إلى إعادة كشف وتقييم جديدين لسبب التعثر الذي لازم مشروع تحقيق الدولة الجزائرية، وفق مقوماتها الذاتية. فالحفر التاريخي، خلال النصف الأول من القرن العشرين، هو الذي يقدم الشواهد الدالة على ما ترصده الأمة من إمكانات مادية ومعنوية خاصة، من أهلية وقابلية التطور، ليس ضدّ النزعة الاستعمارية فحسب، بل تجاوبا وتحاورا مع الإدارة الفرنسية/الغربية الحاكمة.. وللشبان الجزائريين الدور الرائد والفاعل المناسب لتلك الفترة الزمنية المتوترة والحادة.. لأن كل التاريخ المعاصر بدأ من هذه اللحظة التي دخل فيها العالم إلى العالمية، خاصة مع نهاية الحرب العالمية الأولى وتداعياتها الكبرى. الموضوعات التاريخية، تحيل بالضرورة إلى التحليل التاريخي الذي لا يقتصر على الخطاب الشعبوي والأيديولوجي والسياسي، بقدر ما يبحث في النصوص الفكرية والخطابات السياسية المتواصلة مع المؤسسات القائمة، والمحافظة على أسباب الوجود لكل الفئات الساكنة في مجالها المدني والحضاري والريفي والصحراوي، أي التعامل مع الوضع القائم بما يحقق إمكان العيش للجميع، والخروج من ثم من الأزمة الاستعمارية الكبرى، والتخلف التاريخي المروع الذي كان يرسف فيه المجتمع الجزائري. وعليه، فإن التحليل التاريخي لقضايا الأمة ومضامينها، يجب أن تنصرف إلى كل الأبعاد والجوانب السياسية والأيديولوجية والثقافية والاجتماعية، حتى يمكننا التحقق من صدقية ومصداقية مطالب التشكيلات السياسية والاجتماعية الفاعلة، وفحص مدى توفر شروطها التاريخية وإمكانية تحقيقها ودرجة الوعي بها.
الدول التي جاءت عبر السلاح والانتصار في الحروب، سرعان ما سلّمت القيادة والتدبير للقيادات والأطر المدنية كشرط لإرساء الدولة/ الأمة
وهكذا، دائما في التحليل التاريخي الذي يتناول الظاهرة كلها ويتعقب خلفياتها ويتابع تداعياتها، لا نكتفي فقط بما نعثر عليه من نصوص وخطابات ومواقف وآراء وكتابات لدى أطراف، بل بسبب غيابها أيضا لدى أطراف أخرى.. لأن هذا الغياب والسكوت والصمت هو الهوامش التي صارت تضغط على النظام «الوطني» ما بعد الاستقلال، من أجل استعادة النقص الفادح في ثقافة الدولة والوعي السياسي الديمقراطي، فقد اتضح، عند التحليل التاريخي، وبالوعي السياسي، أن قيادة أركان الجيش والأمن لا تزال تستولي على زمام الحكم لغياب دورها في التعبير عن مضمون ومقومات الأمة، وعدم التحلي بها بالقدر الذي يترك الحكم لمن هو أولى وأجدر، وتلك هي عقدة الجيش مع الشعب. البحث عن استقلال الأمة الجزائرية، هو بحث في مدى مساهمة كل التنظيمات والتشكيلات والشخصيات الجزائرية في بلورة الوعي بالاستقلال عن الآخر الفرنسي/الغربي في الجزائر، وبتعبير آخر، يفيد المعنى ذاته، أن الاستقلال التاريخي، يعني القدرة على توضيح ملامح وخصائص أمة يحملها التطور إلى بناء دولة حديثة مستقلة عن الأشخاص وعن الجماعات وعن دوائر الفساد، أي شخصية اعتبارية منزهة، ديمقراطية، ذات بناء مكتمل وتام لا ترتهن لأي جهة ولا يعلق مصيرها بأي اعتبار آخر غير التكوين الذاتي لها.
الحقيقة، عندما نبعد الخطاب «الوطني» المتَرَهَّل ونجتهد في التخلص منه عند التحليل والبحث العلمي، فإننا نكون تقدمنا خطوة جبّارة من أجل المعالجة السليمة والفحص الصحيح للوضعية الاستعمارية في جوانبها وسياقاتها واحتمالاتها كافة. فالأمر، كما نفعل مع الحركة الإصلاحية السياسية، بداية من الشبان وليس انتهاءً بحزب الاتحاد الديمقراطي، فإننا نقف على الحقيقة التاريخية لإخفاق الوجود الفرنسي ونهايته في الجزائر، واستمرار وجود الجزائريين في فرنسا إلى ما بعد هزيمة فرنسا في حرب الجزائر. إن رصيد «الوطنية» رصيد لا يندرج ضمن المدى الطويل، بل هو حالة مقتصرة على حالة تحرير الوطني والوصول به إلى الاستقلال. ومن هنا فإن الوطنية قرينة الكفاح الثوري المسلح في التجربة الجزائرية الحديثة والمعاصرة، ولا تزيد عن ذلك، وإلَّا صارت إلى انحراف، يبعدها حتما عن بناء الدولة الوطنية. والحديث عن الوطنية وترديد خطابها الباهت الفاتر المبتذل، هو الذي أتى على الجهود التي كانت تتطلع إليها النخبة الإصلاحية التي تمتلك آلية وثقافة تجديد الخطاب، وإمكانية تعديله في الوقت المناسب، خاصة آلية الديمقراطية التي تأتي بالمعارضة السياسية إلى الحكم من أجل إصلاح الأوضاع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، والمساهمة في قضايا الوطنية والدولية كفاعل في البلد وكعضو في المجتمع الدولي. فقد انتهت «الوطنية» في الجزائر فور خروج فرنسا من الجزائر، أما استمرار ترديد خطابها، فلا يعدو كونه احتراف مهنة السطو على حقوق أجيال عبر توريطها في معاداة فرنسا كأفضل سبيل إلى استغلال صداقتها، وصرف المنافسين والمزاحمين لخيراتها والحياة فيها.
كاتب وأكاديمي جزائري