الأصل في الدولة الحديثة أنها جاءت لتستوعب وتتجاوز المجموعات الإثنية والطوائف الدينية والمذهبية واللغوية.. وقوة الدولة الحديثة في قدرتها على حل المسألة الطائفية. ومقياس نجاح الدولة في مدى استطاعتها فض النزاعات العنصرية والمذهبية، واستيعاب المجموعات المجتمعية التي وجدت قبل وجود الدولة الحديثة، التي قوامها المؤسسات العمومية الحاصلة على شرعية التمثيل، سواء في الهيئات المنتخبة أو المجالس المعيَّنة.
وبعد تزايد وتكاثف العلاقات الدولية، بعد الحرب الكبرى، صار من الواجب على الدولة أن تحظى بالشرعية الدولية كعربون وشهادة التمثيل في الهيئة الأممية. وهكذا، فالدولة هي في الأساس وحدة سياسية وقانونية تتطلع إلى التمثيل الأممي، الخالي من أي انتماء مذهبي أو ديني أو عرقي.. ومن هنا، يفهم السؤال في الحالة العربية، وهو أن النَّزَعات الطائفية والمذهبية الدينية هي العائق الكبير إلى تحصين الدولة كمؤسسة لا تنتمي إلى الأشخاص، والعائلات ولا الجماعات، بقدر ما أنها تتطلع إلى احتلال مكانتها الأممية المكرَّسة لشخصيتها الاعتبارية، كعضو فاعل في الحياة الدولية والمجتمع الإنساني الآيل دائما إلى التَّشكيل.
ما يقال عن التحدي الطائفي والانتماء الفرعي في عالمنا العربي، ليس في حقيقة الأمر تحديا للدولة كمفهوم وسلطة قائمة بذاتها، بقدر ما أن الاعتبار الطائفي والمذهبي الذي تقوم عليه الوحدات الإثنية والنَّعَرَات القبلية، يحمل قصوراَ في ذاته وفي المنطلق، قبل ما يحاول أن يتحدّى الدولة ذات المكونات الراسخة: السلطة أو النظام، الشعب أو السكان، والإقليم أو الأرض. فظهور المُحَاصَصَة في نظام الحكم في بعض البلدان العربية، ونظم الحكم القبلية والأسرية والشِّلَلية في بعضها الآخر ما هو إلا تعبيرا عن إخفاق في إدارة الشأن العام، على أساس من الديمقراطية والعدالة الاجتماعية. فكل شيء يطفو إلى السطح عندما يخفق نظام الحكم في تدبير أمر الدولة والمجتمع.
نأخذ على سبيل المثال لا الحصر، لبنان الذي يوزع سلطات الدولة على اعتبارات دينية. وهو اليوم يدخل أزمة حكم بسبب نظام المُحَاصصة، الذي لم يعد يتجاوب مع التغيير الذي طرأ على التوزيع السكاني، ومنسوب الوعي المواطني والمدني، وبروز قوة سياسية وعسكرية لم تكن في الحسبان، وفي الاعتبار في السابق. الأزمة نفسها تُخَيّم وتتَرَبّص بدولة البحرين، التي تغيرت فيها معطيات اجتماعية لكن نظام الحكم بقي على عهده يعاند في البقاء ولا يتحرك. المسألة نفسها حلّت بالسودان، أكبر بلد في إفريقيا قبل التقسيم، حيث تمادت السلطة في غيها السياسي ولم تلتفت إلى الأوضاع الجديدة التي حلّت بالمجتمع السوداني، الأمر الذي دفع المسيحيين إلى التمرد والانشقاق والاستقلال بدولة جنوب السودان. ومع نهاية عام 2018، بدأت ملامح وإرهاصات جديدة تتطلع إلى إزالة نظام الحكم القائم، بعد حالة التعفن النتن الذي طاله وطاوله.
الأنظمة العربية جرى التعامل معها على أساس طائفي وشِلَلي كأفضل طريقة لربطها مع المتروبول
إن الأنظمة العربية المتوارثة عن العهد الاستعماري، جرى التعامل معها على أساس طائفي وشِلَلي كأفضل طريقة لربط نظام الحكم العربي القائم مع المتروبول، أي عواصم الاستعمار القديم. ويستبعد أن يقام نظام ديمقراطي عربي في ظل هذا النوع من العلاقة بين المشرق العربي وأمريكا، وفي هذا نوع من العلاقة بين المغرب العربي وفرنسا، فضلا عن أن العائق الكبير صار بعد استحكام الكيان العبري في المنطقة العربية، إنه دائما مرشح إلى تلبية استراتجية الدول الغربية، أي التعامل مع حالة «الدولة الإسرائيلية المفتوحة». ما يمكن أن نخلص إليه ، في التحليل الأخير، أن ثورات الربيع العربي التي قامت في أكثر من بلد عربي، والي لا يزال يدور رحاها في بعضها، في ما بعض الدول الأخرى مرشح لكي يدخل لولب الصراعات مع النزاعات الطائفية والمذهبية، مثال اليمن، والعراق والسعودية والبحرين مع المكوّن الشيعي، الذي لا يقيم دولة طائفية بقدر ما يدمر «الدولة» القائمة، لأن دول الطوائف هي طيف أسطوري مستوحى عن العصر الأندلسي، وملوك الطوائف الآفلة. وبتعبير آخر يفيد المعنى ذاته، بأن هشاشة الدولة العربية القطرية، بسبب غياب التمثيل الشرعي الوطني والدولي هو الذي يدفع الشعوب إلى الاتكاء على الخلفيات والمرجعيات الطائفية، من أجل مواجهة النظام القائم على غير حقيقة الدولة الحديثة. ومعنى ذلك أن التَّوَتّر نحو الانكفاء على الاعتبار الطائفي، مهما كانت أصوله ودواعيه سوف يبقى يُنَغّص على الدولة العربية ويدفع إلى مزيد من الانفجار والتشرذم. وإطلالة على ما حصل في العالم العربي منذ بداية ما عرف بالربيع العربي، يوضّح من جملة ما يوضّح، أن فتيل التوترات والمعارك والحروب لما يزل يتوسع ويستفحل إلى أن وصل إلى البيت الخليجي نفسه. هذه حقيقة مرعبة فعلا، كيف لبلدان شيوخ القبائل هبة الثروة النفطية أن يدك فيها إسفين الخلاف الضار، وتتورط إلى صرف الأموال الطائلة، في لعبة أمريكية محكمة، من أجل فقط الحفاظ على كرسي الحكم.
وبناءَ على هذا التحليل، يمكن أن نأخذ الوضع في الجزائر، فلا نجد المسألة الأمازيغية إلا في مخيلة الذين خاب ظنهم في مؤسسات الدولة الجزائرية لتثبيت الديمقراطية، كآلية للتداول على الحكم، والتوزيع العادل لثروات البلد وتوفير الحقوق والحريات الضامنة للوضع الجزائري كمواطن، فقد طفت إلى السطح قضايا لم تكن لتظهر حقيقة لو تم حل إشكالية السلطة والمجتمع، بفصل المجالات والسلطات، وإحلال الشخصية الاعتبارية والقانونية للدولة. والتدقيق في «المسألة الأمازيغية» على فرض وجودها، شيء لا يذكر أمام «المطلب الإسلامي» الذي زعزع أركان الدولة ومؤسساتها، وكذلك أمام «مطلب التعريب» الذي كان أكثر حدة من المطلب الأمازيغي. ويكفي، كما حصل فعلا، أن تتجاوب السلطة السياسية مع هذه المطالب، لكي يتم تجاوز نزعة الانتماء الفئوي، سواء أكانت دينية لغوية أوعرقية.. فعندما نعرض لقضية المطالب الفئوية، تبقى دائما فئوية ولا تقوى على الاكتفاء الذاتي. وعندما نطرح اللغة العربية من حياة الإنسان الأمازيغي، لا يبقى له شيء يذكر، لأن لغة الدعاء والدين والعلم والتاريخ هي اللغة العربية بكل تعبيراتها. وبتعبير آخر، إن المطلب الأمازيغي، إذا كان فعلا وجيها، يجب أن يأخذ الصياغة الوطنية والقومية له، أي في إطار الدولة وليس في الاستقلال عنها. فأغلب النزعات الانفصالية في العالم العربي، اختزلت كل المشكلة في المشكلة الكردية، أو المسيحية، أو الأمازيغية أو الشيعية.. ولم ترسَّم لقضيتها الإشكالية التي يجب أن تعالج فيها وهي الدولة ضمن المؤسسات الدولية.
كاتب وباحث جزائري