العراق: الدولة الموازية ومسؤولية السيستاني

على مدى سنوات ما بعد 2003، كان للمرجع الشيعي الأعلى السيد علي السيستاني، دور محوري في صياغة مسار الدولة/ النظام السياسي وتأطيره في العراق، وفي لحظات مفصلية ومحددة؛ إذ لا يمكن لأحد أن يغفل أن الرجل كان وراء فكرة كتابة الدستور العراقي القائم، وأنه اشترط أن يتم ذلك «من هيئة منتخبة»، وهي الدعوة التي كانت حاسمة في تغيير الخطط الأمريكية بشأن العراق. ويتذكر الجميع اعتراضه على تشريع قانون إدارة الدولة المؤقت في العام 2004، ففي بيان صدر عن مكتبه يومها أكد على فكرة أن هذا القانون يضع عوائق امام الوصول إلى دستور دائم للعراق، وأن أي قانون للفترة الانتقالية لا يكتسب شرعيته إلا بعد التصديق عليه من جانب جمعية وطنية منتخبة.
وإذا كان دور السيد السيستاني بدأ بالتراجع عن التأثير المباشر في الشأن العام في مرحلة لاحقة، وذلك بسبب موقف السيد السيستاني نفسه الملتزم بتقاليد حوزة النجف التي تتحفظ في موضوع التدخل المباشر في الشأن العام من جهة، وبفعل القوة التي بدأ يستشعرها الفاعل السياسي الشيعي بفعل سيطرته على الدولة ومقدراتها من جهة ثانية (لا يمكن لأحد أن ينسى الموقف الصريح لرئيس مجلس الوزراء الأسبق نوري المالكي في مواجهة تدخلات السيستاني بداية من العام 2011، إلى الحد الذي حاول معه إنتاج مرجع منافس)! إلا أن لحظة حزيران/ يونيو 2014 كانت حاسمة واضطُرّ السيد السيستاني إلى العودة مرة أخرى إلى التدخل المباشر في الشأن العام، عبر فتوى (الجهاد الكفائي)، الاستثنائية في سياق الفكر الشيعي المتعلق بالجهاد، بعد سيطرة تنظيم الدولة/ داعش على مناطق واسعة من العراق، ثم إلى التدخل المباشر لمنع المالكي من ولاية ثالثة.

 أثبتت الوقائع أن قانون هيئة الحشد الشعبي، والأوامر الديوانية المتلاحقة التي أصدرها رئيسا مجلس الوزراء حيدر العبادي وعادل عبد المهدي، كلها فشلت في ضبط هذه الميليشيات، أو في فك ارتباطها بمرجعياتها السياسية والحزبية والاجتماعية

وبالرجوع إلى هذه الفتوى، فقد نصت على أنّ «المواطنين الذين يتمكنون من حمل السلاح ومقاتلة الإرهابيين دفاعا عن بلدهم وشعبهم ومقدساتهم عليهم التطوع للانخراط في القوات الأمنية». لكن الفاعل السياسي الشيعي استخدمها من أجل شرعنة وجود ميليشيات كانت قائمة فعليا قبل الفتوى، أو في انتاج مليشيات أخرى، رغم أن مراجعة الوثائق تكشف عن محاولات صريحة من السيد السيستاني لوقف استخدام الفاعل السياسي الشيعي للفتوى وتحريفها عن مرادها؛ إذ صدر بيان من مكتب السيد السيستاني بعد يوم واحد من إطلاق الفتوى، يدعو فيه إلى «ضرورة الاجتناب عن المظاهر المسلحة خارج الأطر القانونية»، لتأتي خطبة الجمعة التالية وتؤكد أن الفتوى إنما كانت «للانخراط في القوات الأمنية الرسمية وليس تشكيل ميليشيات مسلحة خارج إطار القانون»، وأن على الجهات ذات العلاقة «أن تمنع المظاهر المسلحة غير القانونية وأن تبادر إلى تنظيم عملية التطوع وتعلن عن ضوابط محددة لمن تحتاج إليهم القوات المسلحة والأجهزة الأمنية الأخرى». وتناولت خطبة الجمعة ليوم 4 تموز/ يوليو 2014 الموضوع نفسه، وأكدت على «ضرورة تنظيم عملية التطوع وإدراج المتطوعين ضمن تشكيلات الجيش والقوات الأمنية الرسمية وعدم السماح بحمل السلاح بصورة غير قانونية»، وفي خطبة يوم 11 تموز/ يوليو 2014 أيضا والتي أكد فيها على «عدم السماح بوجود مجموعات مسلحة خارج الأطر القانونية تحت أي صفة أو عنوان» و»أن هذا مسؤولية الحكومة وليس لها أن تتسامح في القيام بها». فقد أثبتت الوقائع أن هذه الدعوات لم تلق آذانا صاغية من الفاعل السياسي الشيعي الذي استثمر الفتوى لمصلحته! بل وجدنا المالكي يصدر أمرا ديوانيا، غير دستوري وغير قانوني، بتشكيل «هيئة الحشد الشعبي» يوم 18 حزيران/ يونيو من دون أي اعتبار لنص الفتوى الصريح وغير القابل للتأويل! ووجدنا الفاعلين السياسيين الشيعة جميعا، دون استثناء، يدعمون هذا التحريف المتعمد للفتوى ولتأكيدات المرجعية الصريحة المتتالية على محتواها، وذلك من خلال خطاباتهم الممنهجة التي سوقت لكذبة أن الحشد الشعبي كان نتاجا للفتوى!
ورغم حرص السيد السيستاني طوال السنوات اللاحقة على عدم منح الشرعية للحشد الشعبي، من خلال إصراره على استخدام مفردة «المتطوعين» وعدم إشارته إلى عبارة «الحشد الشعبي» بالمطلق، لكنه اضطر إلى القبول بالأمر الواقع الذي فرضه الفاعل السياسي الشيعي! ففي خطبة الجمعة في 15 كانون الأول/ أكتوبر 2017 أشار إلى أن «المنظومة الأمنية العراقية لا تزال بحاجة ماسة إلى الكثير من الرجال الأبطال الذين ساندوا قوات الجيش والشرطة الاتحادية خلال السنوات الماضية»، وأن «من الضروري استمرار الاستعانة والانتفاع بهذه الطاقات المهمة ضمن الأطر الدستورية والقانونية التي تحصر السلاح بيد الدولة»، كما أشارت الخطبة إلى أنه لا يجب استغلال المشاركة في الجهاد الكفائي و « استغلالها لتحقيق مآرب سياسية».
ولا يمكن في هذا السياق إغفال الصراع الحقيقي بين الحشد الشعبي الذي يسيطر عليه الولائيون المرتبطون عقائديا بالولي الفقيه، وبين الحشد التابع للعتبات المقدسة والذي يقلد عناصرها السيد السيستاني، فهذا الصراع الذي بدأ مبكرا في العام 2016، وصل إلى نهايته الحتمية في مؤتمر الحشد الأخير المنعقد في بداية تشرين الثاني/ نوفمبر 2020، والذي كان إعلانا نهائيا لفك الارتباط بين حشد العتبات وبين هيئة الحشد الشعبي.
لقد أثبتت الوقائع أن قانون هيئة الحشد الشعبي الذي صدر نهاية العام 2016، والأوامر الديوانية المتلاحقة التي أصدرها رئيسا مجلس الوزراء حيدر العبادي وعادل عبد المهدي، كلها فشلت في ضبط هذه الميليشيات، أو في فك ارتباطها بمرجعياتها السياسية والحزبية والاجتماعية، وأن سلاح الميليشيات قد شكل دولة موازية لها قراراتها الخاصة بعيدا عن قرارات الدولة، سواء بالنسبة للولائيين الذين اعترفوا رسميا بارتباطهم بمرجعية الولي الفقيه/ ايران، أو الذين اعترفوا بمرجعتيهم الخاصة مثل سرايا السلام التابعة للسيد مقتدى الصدر. وأن الفاعل السياسي الشيعي الذي حرّف نص الفتوى لايزال يوفر غطاء سياسيا لهذه الدولة الموازية، وغطاء شرعيا مستمدا من الفتوى المحرّفة، وأن كل ذلك جعل الدولة/ الحكومة تقف عاجزة تماما عن المساس بهذه الدولة الموازية، وعن فرض منطقها عليها.
من أجل ذلك كله، لم يعد ثمة حل سوى أن يرفع المرجع الشيعي الأعلى السيد علي السيستاني نفسه الغطاء عن هذه الدولة الموازية، وبلغة صريحة وواضحة وغير قابلة للتحريف أو التأويل، فيحرجَ بذلك حماة الدولة الموازية من سياسيين وقصيري النظر، ويمنح الدولة/ الحكومة زخما للتعاطي معها بكل حسم، وبعكس ذلك على الجميع أن يتحمل مسؤولياته في الخراب الذي ينتظرهم!
كاتب عراقي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الكروي داود النرويج:

    السستاني إيراني الجنسية!
    السستاني رفض الجنسية العراقية!!
    السستاني لم يُصرح علناً ضد الفاسدين!!! ولا حول ولا قوة الا بالله

  2. يقول الجزائري:

    ما خرب العراق مع عملاء إيران إلا السيستاني و تدخله في السياسة العراقية مند الإحتلال . عليه أن يهتم بأمور الفتوى ويترك السياسة للسياسيين إن كان هناك سياسيون و ليس مجرد دراويش حبيسي القرن الأول الهجري.

  3. يقول عبدول:

    لست أدري لماذا أغفل الكاتب الدور اللاإنساني الذي جمع السيستاني ببرايمر، بحيث يقول برايمر في كتابه “سنتي في العراق” أنه لم يفعل أي شيء دون أخذ موافقة السيستاني، وكان يتصل به قبل اتخاذ أي قرار، فإن كان برايمر يتصرف وفق مصلحة أمريكا فهل فعل السيستاني ذلك؟ فلماذا يستبعده الكاتب عن المسؤولية، قتل نحو مليون بريء في الموصل وحدها تحت قصف الحكومة والتحالف، فمن يتحمل مسؤولية القتل بعد فتوى السيستاني بتمكين الحشد وتوجيهه إلى الموصل؟ أم أن هؤلاء الأبرياء حشرات يجب أن يبادوا؟ قليل من الحيادة والضمير يا يحي!

  4. يقول نضال زغب:

    الصراع المزعوم بين القوى الدينية العراقية والايرانية مجرد تمثيليات ومسرحيات لالهاء الشعب العراقي واظهار امثال السستاني والصدر بمظهر الوطنيين الغيورين على العراق .. لاننسى الفتوى التي اصدرها السستاني بتحريم قتال الامريكان .كلهم عملاء وتجار ومحاولات تلميعهم لن تفلح ابدا .

  5. يقول Zaid:

    يُعد السيستاني أحد أكبر أعمدة الدمار في العراق وقد أضفى الشرعيه على الاحتلال عبر تعاونه مع بريمروقد وصفه الأخير بأنه صديق للولايات المتحده الأمريكيه.

  6. يقول Zaid:

    لماذا اقترح الكاتب اليهودي المعروف فيلدمان منح جائزة نوبل للسيستاني.

  7. يقول د. اثير الشيخلي - العراق:

    استغرب منك و انت المحلل السياسي البارع الذي لم يترك منبراً الا و تكلم من خلاله هذا الدفاع المستميت و التبرير البارد لافعال و دور السيستاني في تحطيم صمام أمن العراق منذ عام 2003 لحد اليوم و مساهمته بخبث شديد في كل هذا الخراب الناتج ، فقط من أجل أن تصل إلى الخلاصة النهائية و النصيحة الاخيرة بأنك تريد أن تقنعه برفع غطاء المرجعية عن مؤسسة الميليشيات (الحشد الشعبي) المؤسَس قطعاً و المشرعن حتماً نتيجة فتواه الواضحة التي لا لبس فيها، و التي لم يتراجع عنها لحد الان و لحصل ذلك لو كان هناك استغلالاً لها تبريراً له كما تقول!

    ما هذا اللف و الدوران؟!

    1. يقول د. اثير الشيخلي - العراق:

      الأمر أوضح من الشمس في رابعة النهار، الرجل لا احد يراه و لا احد يسمعه، بينما يفترض أن يخرج على أقل تقدير لامامة الناس في الصلوات و في صلاة الجمعة على أقل تقدير (الأمر الذي لم يفعله احد من ائمة المسلمين قبله) و لا حجية في ذلك لكبر سنه، لأنه لم يفعل ذلك منذ عشرين عاماً و تزيد!
      الأمر الآخر الرجل إيراني الجنسية و لم يقبل الجنسية العراقية، وهو أمام مرجعية يتبعها شيعة كثر و ربما أغلبية الشيعة في العالم كله و في دول عديدة منها أميركا و في أوروبا و الخليج و آسيا، فلماذا لم نسمعه مرة واحدة يتدخل في أمر سياسي او اجتماعي في اي من تلك الدول حيث اتباعه فيها و لا يتدخل الا في الشأن العراقي؟!
      بل لا يتبوأ مسؤول كبير في العراق منصبه الا بعد أخذ البركة بزيارته و يستقبل كبار المسؤولين الدوليين المهتمين بالشأن العراقي حصراً؟!
      رجاءاً احترموا عقولنا و تكلموا بوضوح مع هذا الرجل و اتركوا لف ودوران السياسة القميئة يا دكتور!

  8. يقول للعلم فقط:

    للعلم فقط
    جمله واحده من السيستاني تكفي لانهاء الملشيات السائبه،
    لكنه لم يفعل رغم كل الانتهاكات والاباده التي تقوم بها.

  9. يقول عاطف - فلسطين:

    ماذا اقول لك ان اقتراحك لن يلقى اذانا صاغية.
    في اللحظه التي شرعن بها ىالسستاني غزو امريكيا للعراق فقد انتهى اخلاقيا وسياسيا ودينيا ووطنيا.
    السستاني لا يختلف شأنه عن المفتين من اهل السنه الذين افتوا بجواز قصف العراق وهم من كبار مشايخ السنة.
    وجود السستاني اصلا خلق دولة موازية لصالح اعداء العراق.

    1. يقول حيدر:

      أتق الله يارجل السيد علي الحسيني السيستاني لم ولن يشرعن للمحتل اللص السارق الإعلام يكذب ولا تصدقوا الإعلام العميل التابع إلى المحتل الذي غزى العراق وقام بالسطو المسلح من أجل سرقة خيراته

  10. يقول سلام عادل(المانيا):

    الاخ د. اثير الشيخلي
    اعتقد ان مراجع الشيعة الكبار منذ ان عرفناهم في العراق لم يظهروا للعامة وقد يكون الامر نوع من التقليد لديهم فمنذ تقلد محسن الحكيم المرجعية مرورا بالخوئي ومن ثم السيستاني فكانوا جميعا على نفس المنوال فهناك المقلدين الكبار او الاقل من يكون بالصورة اما مسالة الجنسية فكلنا يعلم ان المسلمين المتدينيين سنة وشيعة لا يؤمنوا بالاوطان ولا يهتمون بالوطنية فهم هدفهم الخلافة ونفس الامر كان ينطبق على القوميين العرب وعدم اعترافهم بادبياتهم بالدولة القطرية فعلية لم نتعجب من ذهاب بن لادن والقاعدة للمحاربة في افغانستان ولا من حزب الله وميليشيات الشيعة بالذهاب لسوريا

    1. يقول د. اثير الشيخلي - العراق:

      غير صحيح اخي الفاضل سلام عادل فيما يخص ظهور تلك الشخصيات التي ذكرت ، الخوئي كان يظهر في دروس و مجالس و لكنه لم يكن يخطب الجمعة لأسباب تتعلق بنظرية سياسية فيما يخص صلاة الجمعة بالذات في المذهب الجعفري تحت ظل نظام لا يصنف من وجهة نظر المرجعية انه نظام “اسلامي” ، اما محسن الحكيم فكان اكثر ظهوراً و مشاركة لو راجعت تأريخه ، اتفق معك على تعمد قلة الظهور للحفاظ على صورة معينة قرينة لصورة ما يعتقدون انها للأمام الغائب و يحاولون التشبه بها ، لكن ما يفعله السيستاني لم يسبقه احد اليه البتة !
      اما موضوع النظرة الاممية و عالمية الدين ، فهذه معروفة و تشمل كافة الاديان و ليس الاسلام فقط، و حتى الفكر القومي في جانب منه له نظرة مشابهة ، بل انحيازات روسيا و اوروبا كدول في الكثير من حروبها الى جانب آخرين كانت تندرج تحت نفس هذه النظرة او هذا المعتقد (اي ايجاد المشترك للوقوف الى جانب من يشترك معي فيه و كذلك تفعل اميركا اليوم و غيرها وفق لغة المصالح هذه المرة ، و كذلك فعل الأرمن و الاتراك مؤخراً في الحرب على كارباخ ، و على اية حال هذه الموضوعة خارجة عن نطاق موضوع المقال اصلاً !
      احترامي

1 2

إشترك في قائمتنا البريدية