انهيار المعسكر الاشتراكي في أوائل التسعينيات، أتاح الفرصة لأنصار الليبرالية أن يعلنوا سيادة هذا النموذج الفكري والسياسي، وبشّروا بقدرته على إدارة المشكلات الاقتصادية وتنظيم الاجتماع والسياسة، ووصل بهم الأمر إلى القول بأنّنا بلغنا نقطة النهاية للتطوّر الأيديولوجي للبشرية. وهلّلوا تبشيرا بكونية النموذج الديمقراطي الغربي كشكل نهائي للحكم الإنساني، فما الذي حدث منذ ذلك الحين؟
سيطر قانون السوق الحرّ والشركات النافذة عبر الحدود، وأصبح أصحاب المال والنفوذ المتحكّمين الرئيسيين في التدفّقات المالية والمضاربات الاحتكارية. وصُودر مشروع الدولة الوطنية الديمقراطية، حيث لم تعد تتحكّم في السياسات الاقتصادية والاجتماعية. واُخضعت للإملاءات من المؤسّسات المالية الخانقة في حقيقة الأمر. والسلطة داخل الدولة انزلقت أكثر فأكثر من أيدي الدول القومية إلى أيدي المؤسسات الدولية العامة والخاصّة، وأصبحت هذه الدول مفرغة من جوهرها السيادي عندما يرتهن اقتصادها القومي المُدوّل قسرا بآليات الرأسمالية المتوحشة، على نحو ما تخطوه الليبرالية الجديدة من خطوات شبيهة بما قامت به الكولونيالية من استعمار العالم، ونهب ثرواته باسم نشر الحضارة والتمدّن. فهي أيضا عبر عسكرة العولمة، وتنامي نزعات التسلّح كرّست الاحتلال الاقتصادي واضطهاد الأمم، وتكريس الجوع والفقر والأوبئة، وصولا إلى تسليع الحاجات الإنسانية بالنزوع نحو المادية المطلقة وتدمير البيئة وضرب الفئات الاجتماعية الوسطى.
المطلوب عربيا والمنشود شعبيا، دولة تحترم الإنسان ولا تُختزَل في طائفة أو مذهب أو قبيلة أو حزب، ولا وجود فيها لمقولة أقليّة وأغلبيّة، بل الجميع متساوون
إذن الأمر لم يكن سوى تسويغ أممي لاستعباد الشعوب واستغلال ثرواتها، في عالم أفقده المضاربون ودعاة الهيمنة قيمه العليا الآفاقية والإنسانية. ولا يزال الاستعمار الغربي بأنماطه المختلفة يقسّم العالم إلى معسكرات وفق أيديولوجية نفعية مموّهة. ويستهدف الدولة الأمة في جميع تمظهراتها القطرية أو القومية، في مسعى واضح لتغييب الحلول الذاتية التي من شأنها أن تُفعّل حضارة أي أمّة، وتجعلها تستأنف مشروعها الإبداعي متمسّكة بهويتها وموروثها الروحي والقيمي. وهو سياق يَسْهُل من خلاله تفسير النظر إلى الدول الساعية لامتلاك القوّة بأنّها متمرّدة ومارقة، ومن الضروري فرض العقوبات على كياناتها الاقتصادية والمالية من دون تردّد. وما حصل مع إيران وفنزويلا وكوبا، ويحصل الآن ضد روسيا، يثبت أنّ الضغط الاقتصادي والعقوبات المالية والتجارية، أصبحت جميعها بمثابة الصيغ الحديثة للاستعمار والرغبة في الإخضاع، تجسّدت عمليّا في السنوات الأخيرة ضمن ديناميكية القوّة الناعمة، والحرب الاقتصادية التي اتّخذت بُعدا استراتيجيا رديفا للقوة الصلبة، على نحو يفضي إلى حصار الأنظمة وعزلها وخلق حالة وطنية صدامية غير متجانسة. حالات الإرباك قائمة زمن صراع القوميات ولعبة الأمم وتنافس القوى الكبرى حول الريادة وقيادة العالم. ومثل هذه المسارات هي من أبرز تمثّلات العولمة الثقافية والنفسية، المحتكَرة أمريكيّا منذ عقود في سعيها الدائم إلى فرض السيطرة والحفاظ على هيمنتها على نسبة مهمّة جدّا من القرار الاقتصادي والسياسي والدبلوماسي والثقافي حول العالم. والواقع العربي بتشكلاته السياسية والاقتصادية، وإن كان في جزء منه نتاج تأثير سياسة العولمة والرأسمالية المتوحّشة، التي تجاوزت كلّ الحدود التقليدية، وأنتجت بدورها استقطابا اجتماعيا وسياسيا على الصعيد العالمي، وفق منطق التدخّل القسري في شؤون الدول من خلال الأذرع الماليّة والمؤسّسات السياسية والضغوط الدبلوماسية التي تلخّص إرادة الهيمنة، فإنّه لا يمكن مع ذلك استثناء مسؤولية الأنظمة التسلّطية العربية التي ساهمت في تكريس التخلّف والتبعيّة. وعملت طوعا كحكومات زبائنيّة ترتهن بإرادة الأجنبي، ولا تخدم مصالح الدولة الوطنية، أو تهتمّ بمطالب شعوبها وحقها في الحياة الكريمة. ومؤسف أن تصل الحالة العربية إلى ما هي عليه، فبدل التكامل تعمّقت المشاكل، وغابت البدائل الواقعية لتطوير الحياة السياسية والاقتصادية، ناهيك من عسر استيعاب البُنى الأهلية داخل هذه المجتمعات. والجميع رضخ لسطوة الاتّفاقيات التجارية المعلنة والخفية وأغلبها غير منصفة بالمعنى الوطني الذي يحمي الثروات ويحفظ السيادة. وهذا المنطق المقلوب في الممارسة السياسية، يجعل مساهمة المواطن العربي في ممارسة السلطة مجرّد مغالطة كبرى، فهي مساهمة غير فعّالة تدور في دائرة مغلقة لا تصل إلى مبتغاها، في مناخ يجد فيه الفساد والاستبداد مظلّة تحجب خطاياه، وتخفي جرائم منتسبيه. ويستكين أصحابه لنماذج تفسيرية لتبرير اهتراء الاقتصاد الوطني وغياب التنمية، ولا يُسمح بالحديث عن الإخفاقات الاقتصادية والاجتماعية والتنموية. ولا تتحمّل السلطوية الحاكمة في أي قطر عربي تقريبا أيّ تصريح حول انتهاكاتها وفشلها الذريع في جميع مستويات الحكم. أفلا يخجلون! أكثر الأقطار التي عاشت دولها الحروب والاقتتال نجحت مع ذلك في تشكيل اتّحادات سياسية واقتصادية ومالية ذات طابع امبراطوري، تُعزّز أمنها القومي وتكفل حضورها الدولي المحترم، آسيا وأوروبا خير مثال على ذلك. في المقابل ما زالت الأنظمة العربية تعاني مشكلة الهوية والاندماج، ومعضلة التعدّدية السياسية، ولم تستطع أن تخلق تجانسا وطنيا وتستوعب الاختلاف، والصراع والتّنافر الأيديولوجي حلّ محلّ الوحدة والتّعاون واستراتيجيات التكامل الاقتصادي.
المطلوب عربيا والمنشود شعبيا، دولة تحترم الإنسان ولا تُختزَل في طائفة أو مذهب أو قبيلة أو حزب، ولا وجود فيها لمقولة أقليّة وأغلبيّة، بل الجميع متساوون ومواطنون لا رعايا. والمواطنة بهذا المعنى تُشرّع الاختلاف لا الخلاف، ولا تقبل تميّزا في الحقوق لفئة على حساب أخرى، وفق اعتبارات الانتماء الإثني أو المذهبي، وتعمل على توليف الهويات الفرعية وتشكيل التجانس الوطني والتعايش الهوياتي. وإن تكن الديمقراطية قد حُجبت قسرا نتيجة عوامل داخلية وأخرى خارجية، وإرادات مفبركة وُجدت لتسند الواجهات السلطوية بشكل مضاد لإرادات حرة وصادقة، فإنّ الشعوب لم تعد تقبل بمبّررات القمع والاستبداد وتغييب أدنى شروط العدالة الاجتماعية. مع أنّها رغم كل هذه المساوئ في إدارة الدولة، ما زالت تعطي الفرصة تلو الفرصة، وتأمل بأن تنهض الدولة العربية بدور وطني توحيدي عبر تجديد نفسها من الدّاخل، وتأمين شرعيتها من المداخل السياسية والمدنية الفعلية سبيلا لتحقيق المشروعية السياسية ونزاهة الحكم وفاعليته.
كاتب تونسي