مع اندلاع الانتفاضات العربية، كان السؤال المحير للجميع يتمثل في: من يقف وراء الاحتجاجات المحلية؟ ومن يدير هؤلاء الناس العاديين؟ ومع أن سردية الشباب وحواسيبهم، تصدّرت مشهد التفسيرات التي تحلّل ما يجري، إلا أن التخبط في فهم ما يجري بقي واضحاً لدى الباحثين، بالأخص أساتذة النظريات الاجتماعية والسياسية؛ فالنظريات التي درسها قسم كبير من هؤلاء الباحثين المحليين (العرب بالأخص) بالإضافة إلى الواقع الذي عاشوا فيه، لم يتح لهم تشكيل مخيال عن علاقة المجتمع بالسلطة خارج أُطر مفاهيم «أنس الطاعة» أو القمع الذي عاشوه.
وفي ظل هذا القلق والحيرة، سرعان ما لجأ عدد من الباحثين إلى الاستعانة بنظريات بعض السوسيولوجيين الغربيين حول الثورات، وبالأخص أفكار تشارلز تيلي في هذا السياق (يمكن العودة إلى دراسة خالد أبو دوح حول سوسيولوجيا الثورة العربية والأسئلة الجديدة)، في حين لاحظ ساري حنفي وريفاس أرفانتيس، أن الأسماء الأكثر اقتباساً في موضوع الانتفاضات العربية لدى المؤلفين الغربيين هم صموئيل هنتنغتون وأدوار سعيد وتشارلز تيلي ومانويل كاستلز، وأطروحته حول الحركات الاجتماعية في عصر الإنترنت، التي صدرت بالإنكليزية عام 2012، في ذروة الحراك العربي، بينما لم تُترجم للعربية إلا في عام 2017، وهي فترة كانت البلدان التي شهدت انتفاضات تعيش ظروفاً قاسية، ما حال دون أن تحظى هذه الأطروحة بالاهتمام الكافي، في وقت كانت شبكات الإنترنت تختفي أو تزول لصالح شبكات من المقاتلين على الأرض.
وبالعودة للباحث السوسيولوجي المحلي، فقد بقي يمارس وظيفته من دون أن يشعرنا بجماليات العلوم الاجتماعية، وفق تعبير الطاهر لبيب، على مستوى إعادة التفكير بالاجتماعي، بوصفه مفعماً بالحياة والتأويلات الجديدة، إذ بقيت دراساته تمتثل لما هو سائد من شروط الانتساب وطقوسه، والإخلاص إلى المناهج التقليدية، وقد ساهم هذا الأمر في أن يكون العديد من الكتابات السوسيولوجية العربية، بعيدة على مستوى تثوير فهم الواقع المحلي، والاشتباك مع النظريات الجديدة في حقل العلوم الاجتماعية، بل مملّة في كثير من الأحيان.
ربما لن يستمر هذا الأمر طويلاً، مع بدء اطّلاع هؤلاء الباحثين، وحتى القرّاء العاديين على تأويلات بعض الباحثين الغربيين حول هذه الانتفاضات. وقد جاء كتاب آصف بيات «الحياة سياسة: كيف يغير الناس العاديون الشرق الأوسط» خير مثال على ذلك، إذ بدا هذا الكتاب، الصادر بالإنكليزية عام 2010 والمُترجم للعربية عام 2014، وكأنه يحمل صفة تنبؤية بما تشهده يوميات المنطقة من أحداث، والأهم من ذلك أنه استطاع أن يقدّم لنا توصيفات ومفاهيم جديدة حول من يقود الأحداث؛ فالناس العاديون هم قادة الانتفاضات الجديدة، وليسوا نتاج الحركات الاجتماعية التقليدية والأحزاب، حيث يكون الفاعلون منغمسون في أفعال خارقة للحراك والاعتراض، تتجاوز روتين الحياة اليومية مثل حضور الاجتماعات وتقديم العروض وتحزيب الناس والتظاهر وغير ذلك، بل هم أقرب ما يكون في تنظيمهم لمفهوم اللاحركات أو (الحركات الاجتماعية الجديدة) وفق تعبير كيت ناش، الذين تتكون أفعالهم الاحتجاجية من ممارسات تختلط بالممارسات العادية للحياة اليومية، ينجزها ملايين من البشر، وإن كانوا متفرقين هنا وهنا، فالفقراء الذين يبنون مساكن مخالفة؛ والنساء اللاتي يبحثن عن فرص تمكّنهم من الذهاب إلى الجامعة وممارسة الرياضة واختيار شركاء حياتهن، والشباب الذين يرتادون ما يرغبون، ويسمعون ما يريدونه وغيرهم، هؤلاء في الأساس من يندرجون تحت مسمى اللاحركات الاجتماعية، وهم من قاد الانتفاضات العربية.
عاد الحديث عن دور الناس العاديين في تغيير الواقع، ليطرح نفسه مرة أخرى في الساحة العربية، فالشارع ورغم ما عاشه من عنف واسع وتدهور في أوضاعه، بدا مع ذلك حيوياً وأكثر تصميماً على تغيير واقعه.
وقد ساهمت نظرية بيات السابقة وأسلوبه على صعيد الكتابة، أو السرد السوسيولوجي، الذي يمزج بين معرفة إثنوغرافية عميقة بمدينة مثل القاهرة بالتاريخ، في تثوير فهمنا السوسيولوجي لما تعيشه المنطقة، وربما ما يدعم ذلك هو الإقبال الكبير على ترجمة كتابات ومقالات بيات لاحقاً، قبل أن تنسحب للخلف من جديد هي ونظرياته حول اللاحركات، والناس العاديين، مع انسحاب هؤلاء الناس من الشوارع، أو بالأحرى ارغامهم على الانسحاب من الساحات، وقمعهم، واحتلال المجموعات المسلحة بكل أشكالها الفضاءَ الحضري.
في هذه الأثناء، لم يعد لتفسيرات الحركات الاجتماعية والشباب أي مكان يذكر، في ظل تحوّل الربيع العربي إلى فردوس دامٍ، فقد نجح الثوار في استعادة الجماهير بوصفهم لاعباً رئيسياً في معادلة الحكم والسلطة، بيد أن الإشكالية برزت لاحقاً من خلال افتقار الفاعل الثوري لأطروحة ثورية، وفق ما يراه بيات في كتابه «ثورة بلا ثوار». فكثيراً ما حفلت مصادرهم بالأفكار والرؤى التي تتناقض مع المأمول الثوري، كما عبّرت عن نفسها (خاصة بعد الانقلاب العسكري في مصر) بميول كارهة للحراك السياسي الصلب (الحزبي)، ونافرة من التعامل مع مؤسسات الحكم. كما أن استمرار عنف النظام وحلفائه تجاه المدنيين، وغياب أي أفق للحل لم يتح أي فرصة لتبيئة أفكار السوسيولوجية الجديدة، ودور الحركات الاجتماعية الجديدة في عالمنا العربي، وسيغدو اللجوء إلى أفكار «سوسيولوجيا المقهورين»، وكتابات أرندت وأغامبين المنهل الذي يعود إليه قسم كبير من الشباب والباحثين لتفسير ما حدث من انتكاسة.
مع عودة الانتفاضات الشعبية في العراق ولبنان والكويت ومصر بعض الشيء في الآونة الاخيرة، عاد السؤال ليطرح نفسه من جديد، حول من يقود هذه الحركات في دول ظننا أن الطائفية قد نهشتها، فإذا بشعاراتها تبدو أكثر تقدماً مما توقعناه. وقد عادت هذه الانتفاضات، رغم المخاوف المتعددة من تجلياتها، وبالأخص عند مقارنتها ببدايات الانتفاضة في سوريا، لتطرح ذات الإشكالية حول لماذا فشلنا من جديد في فهم أو توقع هذا الحراك؟ هل يعود ذلك لكون الانتفاضات هي في الأساس أقرب ما تكون للشرارة التي تندلع بشكل مفاجئ؟ أم لفقر أدواتنا التحليلية، وعدم قدرتها على فهم ومتابعة الحراك اليومي ومواجهته للسلطة، بدلاً من الركون للتفسيرات والتقسيمات الطائفية؟
وفي كل الأحوال، عاد الحديث عن دور الناس العاديين في تغيير الواقع، ليطرح نفسه مرة أخرى في الساحة العربية، فالشارع ورغم ما عاشه من عنف واسع وتدهور في أوضاعه، بدا مع ذلك حيوياً وأكثر تصميماً على تغيير واقعه. وهذا ما عبّرت عنه مثلاً العبارة اللبنانية «كلن يعني كلن»، ما أخذ يعني ضرورة البحث والانشغال معرفياً بمستقبل هذا الحراك، ومستقبل الدولة وأشكال الاحتجاجات في المستقبل. ولعل هذه الأسئلة والسياق يتيحان الفرصة لإعادة قراءة كتاب «الدولة والحركات الاجتماعية» (ترجمة السوسيولوجي المصري أحمد زايد، الذي ترجم كتاب «الحياة سياسة» لآصف بيات). ففي هذا الكتاب، يرى هانك جونستون، سوسيولوجي أمريكي، توقف اعتماد الناس هذه الأيام على الأحزاب السياسية والانتخابات فقط للتعبير عن تفضيلاتهم، بل باتوا يلجؤون إلى الاحتجاجات والمظاهرات، من هنا يرى أن أي تاريخ كلّيّ للدولة الحديثة يجب أن يضع في اعتباره أفعال الطبقات الشعبية، التي تمارس من وقت لآخر ضغطاً على نخب الدولة عبر أشكال مختلفة. ولدعم وجهة نظره هذه، يلجأ هانك إلى دراسة العلاقة بين الدولة والسكان قبل وبعد القرن التاسع عشر، ليرى أن الدولة في الفترة ما قبل الحديثة لم تكن سوى «رجل بوليس مكلّف بجمع الضرائب والتعبئة» ولذلك لم تكن ذخيرة الاحتجاج سوى ذخيرة محدودة ومحلية. يستشهد المؤلف برؤية تشارلز تيللي لأشكال النزاع قبل الحديثة، التي يراها تتّسم بالمحلية الضيقة، وتركّز على قضايا ملحّة مثل الغذاء، والانقسامية، بمعنى أنها موجّهة لفئة محدودة من النبلاء المحليين، وتهدف إلى تغيير واقعها المؤقت فحسب. قد نختلف هنا قليلاً مع رؤية المؤلف وتقسيمات تيللي في ما يتعلق بأشكال الاحتجاج وخلفيته في القرون ما قبل الحديثة، إذ بيّنت أمينة البنداري ببراعة، في سياق دراستها لأشكال الاحتجاجات في القرون الوسطى الإسلامية، أن العامل المادي لم يكن هو العامل الحتمي في اندلاع عدد كبير منها، إذ تشي النظرة الفاحصة لتاريخ الاحتجاجات في دمشق والقاهرة، بأن السياسة الشعبية كانت تحمل تفاصيل أبعد من ذلك، وأن مخزونا من تكتيكات الاحتجاج، الذي مهد الطريق إلى التفاوض حول السلطة، كان قد تراكم لديها.
كما لم يؤدِ نقص الطعام تلقائياً إلى اندلاع احتجاجات عنيفة، وقد لاحظ جورج وردية اتجاهاً مشابهاً في الاحتجاجات الإنكليزية والفرنسية قبل عصر الصناعة في القرن الثامن عشر، إذ لم تكن الظروف الاقتصادية السيئة محركاً تلقائياً لوقوع الاضطرابات، بل إن الاضطرابات في إنكلترا ونشاط الاتحادات العمالية كانت تحدث في العادة مع مدّ الازدهار، وليس في لحظات الكساد التجاري الشديد. رغم هذه الملاحظة التي ذكرناها حول الأخطاء التعميمية لرؤية تشارلز تيللي، فإن أهمية رؤية هانك، تكمن في تأكيده في سياق دراسته للفترة الحديثة على أن تاريخ الدولة والحركات الاجتماعية والاحتجاج، يجب أن تُدرس معاً. فتاريخ الدولة الحديثة ليس مجرد تاريخ أحزاب ونخب، ولكنه أيضاً تاريخ للضغط من أسفل، إذ كانت الطبقات الشعبية تدفع نحو مزيد من الانفتاح، بدون أن يخلو في مرات أخرى من فصول من الأحزان والعنف، ولعل هذا ما تؤكده مشاهد الاحتجاجات من ساحة التحرير في بغداد مروراً بساحات النجف إلى ساحة رياض الصلح في لبنان.
٭ كاتب من سوريا