مع تحوّل العالم الصناعي إلى اقتصاد قائم على النفط بالدرجة الأولى، تفاقمت النزاعات الدولية، خاصة في مناطق الطاقة والموارد التي ترغب القوى الكبرى في السيطرة عليها، وبشكل خاص الولايات المتحدة التي تُصارع حتى الآن المتغيّرات الدولية والمنافسين الاستراتيجيين لضمان السيطرة على المناطق الاستراتيجية في العالم. وهي تضع شروطا استسلامية أمام الروس رفضا لعدم تغيير النظام العالمي، في مواجهة شرسة تتم على حساب الأوروبيين، الذين لا يريدون حربا شاملة تضر بالاقتصاديات، وتدمر النسيج القومي لدول الاتحاد. ويبدو أنّ الإدارة الأمريكية تطمح إلى خطة مارشال ثانية تخرج بفعلها منتصرة اقتصاديا على حساب الجميع، بمن في ذلك حلفاؤها التقليديون، وبالتالي لا تأبه للضرر الحاصل عالميا، والذي سيكون له التأثير الفادح في الاقتصاديات الهشة والدول الرخوة.
هوس المضاربة، والأزمات المالية، وتحقيق إنتاجية عن طريق تدمير الصناعات العتيقة والمهن التقليدية، وضرب الصناعة المحلية للدول ذات الاقتصاديات الضعيفة، زادت في تعميق تداعياتها ماليا واقتصاديا، أزمة الجائحة العالمية، ومن ثم المواجهة بين الروس وحلف الناتو. والعالم يمكن أن يدخل مرحلة كساد تضاهي مرحلة الثلاثينيات من القرن الماضي في ظل نظام ليبرالي مترنح، ومحاولات القوى الكبرى تغيير قواعد النظام العالمي. وفي سياقات المغالبة وصراع الأضداد، من الصعب في المدى المنظور أن تستعيد معظم الدول النامية ما كانت تتمتّع به من استقلالية نسبية، تمكّنها من تبنّي السياسات المالية والنقدية التي تضمن تحقيق قدر معقول من العدالة الاجتماعية، أو تتيح لها فرص التخفيف من وطأة التقلّبات الاقتصادية، عندما كانت تتحكّم بنسبة مهمة من السوق المحلية. فقد أصرّ الغرب الرأسمالي على إبقاء مصطلح العالم الثالث في نوع من الاستعلاء والتمايز، وخلق الهوّة المفضوحة، التي تعدّ من نتاج سياساتهم العالمية، خاصة بعد انتهاء الحرب الباردة، وموت حوار الشمال والجنوب، ودخول الدول النامية النفق المسدود والمتفاقم للمديونية الخارجية.
وبالتوازي مع هذه المسارات المعقّدة، لم تستطع النخب الفكرية أو السياسية إعادة الروح إلى مجتمعاتها أو التصدي لمشروع الهيمنة السياسية والاقتصادية والثقافية، وتبعاتها على المستوى الاجتماعي والمعيش اليومي، في ظل دولة عربية تُؤدّي دورها من خلال أجهزتها البيروقراطية المُعطّبة. وتقومن سيادي مغلوط يُفصح عن أمّة منقسمة انتعش فيها التطرّف السياسي والعقدي، وتضاعف لديها مزيج المشاكل الداخلية والتحدّيات الخارجية. وفي الأثناء تتواصل القطيعة بين السياسي والثقافي، زمن الشرعيات الموهومة والواجهات الكاذبة التي تستخدم آليات القسر والإملاء لتركيز أنظمة فاشلة على حساب إرادة المواطنين وتطلعات الشعوب. يحدث كلّ ذلك في غياب التصرّف الدولتي وانحراف أنظمة الحكم التي جعلت المؤسسات الاقتصادية والسياسية تتحوّل إلى قوة سياسية غير قانونية، تخدم الدولة المُشخصنة لا دولة المواطنة، الأمر الذي أضرّ بالتماسك الاجتماعي وأنتج دولا ضعيفة غير متجانسة، استهلاكية وغير منتجة، وبالتالي لا تستطيع تحمل تداعيات أزمة عالمية أطرافها دول المصْدَر، فهل ستواصل الدول العربية المتضرّرة اقتصاديا والتّابعة ماليّا سباتها وغفلتها المزمنة، ولا تجد نفسها أمام ضرورة التفكير في دلالات مثل هذه السياسات أو تقييمها إجرائيا، بالنظر إلى تحدّيات العصر وطبيعة العلاقات الدولية التي تحكمها المصالح المتغيرة بتغيّر المحاور والتحالفات الجيوسياسية؟
العالم يمكن أن يدخل مرحلة كساد تضاهي مرحلة الثلاثينيات من القرن الماضي في ظل نظام ليبرالي مترنح، ومحاولات تغيير قواعد النظام العالمي
على وقع المواجهة الروسية الأطلسية في أوكرانيا، والتصعيد المحتمل، تعجز الإدارة الأمريكية عن التغلّب على الانطباع القائل بتخليها عن المعيار الأخلاقي. وترفض الشروط الروسية والضمانات الأمنية لحماية أمنها القومي، وتعمل على إغراق كييف بالسلاح لإطالة أمد الحرب. ومختبرات الأسلحة البيولوجية التي يديرها البنتاغون على الأراضي الأوكرانية، ورفض واشنطن إبقاء العلاقات الأممية منصفة على قاعدة التشارك في حفظ السلم والأمن الدوليين. جميعها وقائع مخيّبة لآمال الشعوب، وتجعل الكثيرين يرون في ما تفعله روسيا تحجيما للغطرسة الأمريكية التي أسقطت الأنظمة وهدّمت الدول، وتجاوزت جميع الهيئات والمعاهدات، ولم تهتم بالشرعية الدولية. كما يرون ذلك، في تطلّع الصين منذ مدة إلى الحصول على منافع استثمار الموارد، تحت عنوان الشراكة الاقتصادية المنصفة والعادلة، من دون أن تتكلّف ثمن الكراهية على المستوى العالمي كقوة استعمارية تراهن على الاستنزاف والسرقة، وافتكاك الثروات والموارد كما هو شأن أمريكا، وفرنسا وبريطانيا اللتين تحاولان تبييض ماضيهما الاستعماري المشين، من دون فائدة. وقد حرصت القوى الاستعمارية التقليدية على ضرورة إبقاء شعوب المنطقة أسارى لنمط اقتصادي بدائي، يعانون الفقر والصراعات الإثنية والعرقية، والمشاكل الحدودية. وتزايد التعارض في المصالح المشتركة الحاصل اليوم بين القوى الكبرى، روسيا والصين من جهة، مقابل أمريكا والدول الغربية الحليفة، يدفعهم جميعا إلى البحث عن الأسباب التي تجعل كل منهم يلقي اللوم على الآخر في زعزعة الاستقرار العالمي، وهي ديناميكية تنهل من منطق الشغف بالصعود ومقاومة التراجع والسقوط. وقد تكون ظروفا مثالية لدى البعض، من الممكن فعليا أن تسعى إلى تغيير توزيع القوة عالميا. وفي الأثناء، اختلاف الدول الأوروبية حول ضرورة الاتفاق على سياسة مشتركة في المسائل الخارجية والموضوعات المتعلقة بالأمن الأوروبي، يعزز تأثير واشنطن في السياسة الأوروبية. وأوروبا التي لم تدفع باتجاه تمتين روابطها الاتحادية سياسيا واقتصاديا وعسكريا، ظلت في تبعية لأمريكا، وانكشف تخبطها في سياق الأزمة الروسية الأوكرانية، ومن الطبيعي أن تخفف ألمانيا لهجة العقوبات الحماسية على روسيا، لأنّها وجدت نفسها المتضرر الأكبر من تداعياتها.
موسكو كما بكين يدركان أن إضعاف الدولار كعملة الاحتياطي العالمي، هي المقدمة لإضعاف القوة الجيوسياسية لأمريكا، ووجود تغيّر في الهيئة الحالية للاحتياط النقدي، بالروبل أو باليوان في بحثهما عن العالمية، هو بمنزلة المعادلة الحاسمة التي تتعزز عندما تقبل الأسواق بأي عملات احتياط جديدة، وحينها لن تبقى تحت سيطرة الولايات المتحدة، مُعرضة للأزمات بشكل دوري، ويتواصل في سياقها ارتطام الحاجيات البشرية بأيديولوجية متغطرسة وانتهازية. وهذه المحاولات لتغيير النظام العالمي، التي اتضحت أكثر في سياق المواجهة الحاصلة اليوم بين روسيا والحلف الأطلسي بقيادة أمريكا، تشير بشكل ما إلى أنّ الثنائية القطبية ما زالت موجودة في العالم كما هي، وبوجودها في مرحلة انتقالية من نموذج عالمي إلى آخر، فهي مع ذلك لا تزال تتسبب بحالة من عدم الانتظام، وغياب الاستقرار في الوضع الجيوبولتيكي العالمي. مع أنها غير محسوبة العواقب بالنسبة للدول النامية، والتي لا تمتلك دعائم اقتصادية متينة.
كاتب تونسي