الديكتاتوريات الثورية وقدرتها المدهشة على المراوغة

حجم الخط
1

قبل اثني عشر عاماً، خرج ثنائيّ النظم السياسيّة المقارنة المشكّل من لوكان أحمد واي (من جامعة تورنتو) وستيفن ليفيتسكي (من جامعة هارفرد) بكتاب خالفَ ما كان دارجاً منذ نهاية الحرب الباردة، من مقولات نظرية حول التوسع الديمقراطي المتعاقب موجة في إثر موجة.
بدلاً من النظر الى شيوع التجارب الانتخابية التعددية في عالم ما بعد ترنّح أنظمة الحزب الواحد، على أنّه عصر عالمي للانتقال نحو الديمقراطية، ذهب واي وليفيتسكي الى تصور مختلف، يقول بأنّ حركة هذا الانتقال محكومة في عدد كبير من بلدان العالم بأن تتوقف في النصف، أي في منزلة بين منزلتين بين السلطوية والديمقراطية، هي إلى السلطوية أقرب. وأن ما يحصل بشكل متزايد هو انعقاد المزاوجة بين البنى السلطوية الأساسية وبين الانتخابات التعددية والتنافسية ـ إنما تلك التي لا تجري في ظل شروط عادلة ومنصفة، أو تكثر فيها الخروقات الممنهجة وتختل فيها شروط المواجهة بين المتنافسين. وأنه حتى إذا توفرت هذه الشروط إلا أن الانتخابات تفتقد في المقابل لمؤسسات دولة قانون ضامنة وحامية، بل يسهل الانقلاب والتملص من نتائجها بقوة الأمر «الأمني» الواقع، بما في ذلك في حالة تمكن قوى الاعتراض من كسب الانتخابات، والوصول الى الحكم، لتكتشف من ثمّ أن أدوات التحكم والسيطرة موجودة في مكان آخر، فوق هذا الحكم.
ما يزداد عدداً، وتكتسب نماذجه قدرة على المعاندة والمراوغة، حسب واي وليفيتسكي هو الأنظمة «السلطوية التنافسية». هذا كان عنوان كتابهما الصادر عام 2010. هذه السلطويات التنافسية هي أنظمة تهجين مديد ولا يمكن بالتالي، اعتماد نظرة مفرطة في التفاؤل حيال هذا النوع من الأنظمة، أو ردّ هذا التهجين الحاصل الى أنه يساوي لحظة انتقال في إطار حركة نمو وتطور ستفضي حتماً، ولو بعد حين، إلى استكمال أسس وقواعد البناء الديمقراطي الليبرالي تباعاً.
اليوم، يعود هذا الثنائي المكتسب جدارة في حقل النظم السياسية المقارنة، إلى مطارحة جديدة بخصوص السلطوية. ذلك في كتاب من تأليفهما المشترك صادر حديثاً عن منشورات برينستون حمل عنوان «الثورة والديكتاتورية. الأصول العنيفة للسلطوية المستدامة» (أو بالأحرى المزمنة). ينطلق الكتاب من مسح شامل للأنظمة السياسية بين القرن السابق ومطلع قرننا هذا، ويتمحور حول طرح مختصره أن الأنظمة السلطوية نوعان، أنظمة سلطوية من طبيعة تقليدية، غير ثورية، وهي الأكثر عدداً، تقابلها أنظمة سلطوية صاحب قيامها ثورة اجتماعية ما. ثورة طوت بالعنف ليس فقط صفحة نظام الحكم السابق عليها، بل أيضاً بدّدت النخب السابقة على زمانها هي، وأعدت تشكيل جهاز الدولة انطلاقاً من نخب قادمة تماماً من خارجه، واستندت الى تعبئة حماسية لفئات واسعة من السكان لأجل ذلك، وأعملت قطيعة عميقة مع الماضي، سواء على الصعيد الاقتصادي الاجتماعي أو على الصعيد الثقافي القيمي أو كليهما. هذه الأنظمة السلطوية ذات الأصول الثورية ـ الاجتماعية، هي حسب طرح واي وليفيتسكي، أكثر قدرة على الاستمرار وعلى توطيد «سلطوية مستدامة» من الأنظمة السلطوية المستندة سواء بسواء على سلالات ملكية وهياكل تقليدية، أو على طغم عسكرية محافظة.

الأنظمة السلطوية نوعان، أنظمة سلطوية من طبيعة تقليدية، غير ثورية، وهي الأكثر عدداً، تقابلها أنظمة سلطوية صاحب قيامها ثورة اجتماعية ما

ما يسعى لإظهاره واي (المتخصص في تجارب النظم السياسية ما بعد السوفياتية في منطقة أوراسيا) وليفيتسكي (المتخصص بأمريكا اللاتينية) هو أن الإطاحة بالأنظمة السلطوية ذات المنشأ الثوري ـ الاجتماعي، من أصعب ما يكون، إذا ما تمكنت هذه الأنظمة من تجاوز مصاعب ولادتها في السنوات الأولى. وأنّه إذا كان مقدّراً للثورات المضادة الإطاحة بعدد قليل منها (يعطيان أفغانستان وكمبوديا كنموذجين على ذلك) فإنه، في حالة الأنظمة الديكتاتورية الثورية الأخرى، تتحول الثورة المضادة لها مع الوقت الى عامل مساعد لتماسك النخبة الحاكمة، بما يزيد من ضراوة الأجهزة الأمنية التي يتشكل حولها ومنها النظام، والى توسيع معدّل الإمساك بالمجتمع. يذكر المؤلّفان بأن معظم هذه الديكتاتوريات الثورية استمرت في عصر ما بعد انهيار الشيوعية السوفياتية، بل أن الأنظمة التي تقودها أحزاب شيوعية في عالمنا اليوم هي تلك المولودة من تجارب تحويل ثوري اجتماعي عنيفة. للديكتاتوريات الثورية حظ أكبر على البقاء بصرف النظر عن فاتورته الباهظة على هذه المجتمعات. بالتالي، التعويل على الفشل الاقتصادي والتنموي، وعلى عزلة هذه الأنظمة للتعجيل بسقوطها، ليسا بكافيين البتة. انهيار النموذج المتأتي من التجربة البلشفية في روسيا، وفضلاً من أنه لم يفسح بالمجال لظهور الديمقراطية فيها، فهو كذلك الأمر استثناء على قاعدة أو على منحى يفيد طول مراس الديكتاتورية الثورية ذات المنشأ التحويلي الاجتماعي العنيف.
ضعف وقوة ما يطرحه الثنائي واي وليفيتسكي يتصلان بمفهومهما عن الثورة الاجتماعية العنيفة هذه. إذ يلامسان فكرة ارتباطها بتغيير في أنظمة التملك لا سيما التملك العقاري القائمة في البلد الذي يشهد هذا التحويل الثوري، دون أن يشترطا هذا التحول على مستوى نظام التملك. ولأجل ذلك يدرجان الثورة الإيرانية في عداد نماذج الديكتاتورية الثورية المتأتية من تحويل ثوري اجتماعي عنيف، ليس لأنها حولت نظام الملكية الخاصة في إيران، بل لأنها حولت المجتمع بعمق، في اتجاه ثيوقراطي.
النقطة الثانية المثيرة في مقاربة واي وليفيتسكي أن تناول الأنظمة السلطوية عندهما لم يعد يلتزم بالفصل بين سلالتين من الأنظمة، واحدة تصنف شمولية أو توتاليتارية، والثانية سلطوية. فهما يباشران دراسة الأثر المديد للثورة الاجتماعية العنيفة في حالتي روسيا والصين، وكيف أن الكوارث التي عرفها النظامان الشيوعيان في البلدين لم تؤد الى الاطاحة بهما. ففي نهاية المطاف، لم يتساقط النظام السوفياتي يوم كان مسؤولاً عن المجاعة أو عن الغولاغ أو عن عدم الاستعداد للحرب مع المانيا، بل تضربه الكوارث وإنما أطاح به الركود، مثلما أن المجاعة الكبرى إبان خطة «القفزة الكبرى الى الأمام» وويلات «الثورة الثقافية» لم تؤد الى انهيار نظام ماو.
ولئن عكف المؤلفان على المقارنة بين مروحة كبيرة من النماذج تبدأ بروسيا والصين وتشمل أنظمة حركات التحرر الوطني في العالم الثالث ثم النظام الاسلامي الثوري في إيران، فإن المساحة المفردة للنموذج المكسيكي تساهم في إغناء محتوى الكتاب وتقوية حجته. ما يذكرنا به المؤلفان أنه قامت في المكسيك منذ 1910 ثورة بدأت سياسية ثم فاضت على السياسة وتحولت الى اجتماعية وعنيفة والى حرب أهلية، وأنها بهذا المعنى أول ثورة اجتماعية عنيفة في العصر الحديث. شهدت إصلاحا زراعيا غير مسبوق، واطاحة بكبار الملاك العقاريين، وتواجه فيها المعسكر الثوري مع الكنيسة الكاثوليكية بشكل عنيف. وفي الوقت نفسه، لم يكن ثوريو المكسيك هؤلاء لا عقائديين ولا عرفوا التجربة الحزبية مباشرة، انما تدرجوا نحوها تباعاً. هذه الثورة المكسيكية لم تتواجه مع النظام الرأسمالي أو مع الواقع الجيوبوليتيكي القائم. وبعد مرحلة الحرب الأهلية 1910-1917 لم يواجه النظام المنبثق من الثورة بثورة مضادة متواصلة. لأجل ذلك، بعد مرحلة من الصراع بين أقطاب الحركة، دخلت النظام «الثوري الدستوري» السلطوي في المكسيك في مرحلة استقرار طويل الأمد منذ 1929، عندما اختار تشكيل حزب حاكم، وعندما استند الى التداخل بين الحزب الحاكم وبين هيمنة جنرالات الجيش، وهو جيش أعيد بناؤه بالكامل عند انتصار الثورة، ولم يتشكل أبدا كاستمرارية معدلة لجيش النظام القديم قبل الثورة. بالتوازي، في الحالة المكسيكية، لم تجد الديكتاتورية الثورية نفسها بحاجة الى تشكيل جهاز أمني قمعي ضخم، ولا الى الغاء القطاع الخاص، ولا الى الإطباق على حياة الفرد بشكل شمولي. لذلك، اكتسبت التجربة المكسيكية قدرة على التكيف، وعلى تقبل التدرج البطيء نحو الديمقراطية، مقارنة بأنظمة «سلطوية ثورية» عندها قدرة حيوية على المراوغة، لكن ليس على التكيف مع أوضاع تتطلب قمع أمني أقل، وحريات عامة وخاصة أكثر شيوعاً.
يُقرأ الكتاب، ويذهب معه البال الى إيران. الى النموذج من الديكتاتورية الثورية الثيوقراطي فيها. الذي شهد نوعا من التنافسية الانتخابية ضمن ما يسمح به نظام ولي الفقيه لعقود من الزمن. ومع ذلك انفجرت أزمته في موجات خروج ميدانية متقطعة لكن متصاعدة. واليوم هي الموجة الأقوى. كتاب واي وليفيتسكي يدفع الى التشاؤم حيال شروط التغيير في ظل الأنظمة السلطوية الثورية. في الوقت نفسه، «تصعيب» شروط التغيير يعني أنه لا يمكن الإفلات من هذه الدوامة إلا بنوع آخر من الثورات الاجتماعية.

كاتب من لبنان

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول خليل ابورزق:

    ماذا عن ثورة ٢٣ يوليو ١٩٥٢ و ما آلت اليه؟

إشترك في قائمتنا البريدية