من العلامات البارزة في تاريخنا العربي قتل العشرات من الكتاب والمفكرين، لكنني لن أعيد كل «النكد» التاريخي. فقط سأعطي بعض أمثلة على حالات بارزة مثل عبد الله بن المقفع، الذي ترجم «كليلة ودمنة»، وكتب أكثر من كتاب من بينها «الأدب الكبير» الذي هو في معظمه عن العلاقة بين الراعي والرعية، بمصطلحات زمان، أو بين الحاكم والمواطنين بالاصطلاح الحقيقي، الذي يغيب عن كل الديكتاتوريين، فهم لا يرون المواطنين إلا رعايا يوجهونهم كما يشاءون، كما توجه الشياه في المراعي، ولا يقبلون بالمواطنة التي يتساوي فيها الحاكم والمحكوم.
مقتل ابن المقفع كان رهيبا، إذ ربطوه في مقعد أمام التنور- اللطيف أنه في الشام يقال التنورة على «الجوب النسائي» – لكن طبعا ابن المقفع المسكين لم يجلس أمام تنورة بل أمام تنور – فرن حقيقي – وصاروا يقطعون من لحمه ويلقونه أمامه في التنور. في كتابه «الأدب الكبير» ينصح ابن المقفع الناس ويعلمهم كيف يتعاملون مع الملوك، فيقول «إذا أصبت عند الوالي لطف منزلة لغناء يجده عندك، أو هوى يكون له فيك فلا تطمحن كل الطموح.. ولا تكونن صحبتك للملوك إلا بعد رياضة منك لنفسك على طاعتهم في المكروه عندك، وموافقتهم في ما خالفك، وتقدير الأمور على ميلهم دون ميلك فإنك لا تأمن عقوبتهم إن كتمتهم، ولا تأمن غضبهم إن صدقتهم ولا تأمن سلوتهم. إن سخطوا عليك أهلكوك، وإن رضوا عنك تكلفت من رضاهم ما لا تطيق».
في الاتحاد السوفييتي هرب بعض الكتاب، وتعرض الكثير منهم للسجن أو مصادرة أعمالهم مثل إلكسندر سولجنستين صاحب «أرخبيل الكولاج» التي صودرت، و «دكتور زيفاجو» لباسترناك والقائمة طويلة.
كل الروايات أو أغلبها تجمع أن الذي قتله كان الخليفة المنصور. نصيحة ابن المقفع لا تزال قائمة للأسف، ولايزال بعض الكتّاب يقعون في مصاحبة الحكّام حتى ينقلبوا عليهم لأي سبب، ولو على سبيل التغيير. طبعا إذا امتد الأمر إلى المتصوفة الكبار مثل الحلاج أو إلى النزاعات الفقهية، لن ننتهي، لكن معتزلي الفكر مثل الجعد بن درهم الذي ينفي تجسيد الله، وقال بخلق القرآن توحيدا لله، فلو كان القرآن قديما فهذا يعني وجود اثنين في العالم من قبل، والله واحد لا يشاركه شيء أو أحد. قضية خلق القرآن موضوع وحده في علم الكلام الإسلامي. المهم هذا الرجل قتله والي الكوفة خالد بن عبد الله القسري، المُعيَّن من قبل هشام بن عبد الملك أول أيام عيد الأضحى قائلا: «أيها الناس ضحُّوا تقبل الله ضحاياكم، فإني مضحٍّ بالجعد بن درهم. لقد زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا، ولم يكلم موسى تكليما» ثم نزل فذبحه تحت المنبر وطبعا معنى كلام الجعد ذاك، أن الله رغم التشبيه بما يفعله البشر غير قابل للتجسيد، لأنه في هذه الحالة سيكون في مكان دون مكان، يعني الرجل كان ينزه الله عن صفات البشر المادية. وهذا أيضا ركن كبير في صراع المعتزلة مع الأشاعرة وغيرهم والكلام فيه يطول. نهرب بسرعة لأن هناك العشرات قُتِلوا ونأتي إلى العصر الحديث فنجد أن عبد الرحمن الكواكبي صاحب الكتاب التحفة «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد» وُضِع له السم وهو يشرب القهوة في مقهى في القاهرة عام 1902، وبعد خبر موته صادرت السلطات المصرية ما في بيته من كتب وأوراق، وفعلت السلطات السورية ذلك هناك أيضا، فالرجل سوري كما نعرف ومن بناة النهضة العربية، جاء إلى مصر مع غيره من الشوام، لأن الأرض أكثر اتساعا من الحكم العثماني في الشام لكنهم وصلوا إليه.
الأمر لم يختلف في العالم القديم والحديث حولنا فكلنا نعرف حكاية هيباتيا في مصر، ومقتلها من قبل الكنيسة، ومثلها آريوس الذي قتل عام 330 ميلادية بسبب كتابه «تاليا» الذي يعارض فيه عقيدة التثليث المسيحية، وطبعا العصورالوسطى مليئة بمن تم نفيهم أو اغتيالهم بتعاون بين الكنيسة والحكام، الذين رأوا في الدين حصانهم السريع للسيطرة على الرعية!
بعيدا عن القتل إذا دخلنا إلى الكتب التي مُنعت أو صودرت سنجد المئات منها على مر التاريخ. اشتركت في ذلك كل الدول، ففي الاتحاد السوفييتي هرب بعض الكتاب، وتعرض الكثير منهم للسجن أو مصادرة أعمالهم مثل إلكسندر سولجنستين صاحب «أرخبيل الكولاج» التي صودرت، و «دكتور زيفاجو» لباسترناك والقائمة طويلة. أما جورج أورويل فمنعت روايته» 1984» في الاتحاد السوفييتي ومُنعت في أمريكا وإنكلترا في بعض الأحيان، وفي جنوب إفريقيا مُنعت رواية مثل «ابنة بيرجر» و»أهل يوليو» لنادين جورديمر، أما «أليس في بلاد العجائب» للويس كارول فمنعت يوما في الصين لأن الحيوانات فيها تتكلم مثل البشر. «عشيق الليدي تشاترلي» لديفيد هربرت لورانس مُنعت في إنكلترا يوما وغيرها.
كل الكتب التي صودرت في الغرب أُفرج عنها أو طبعت في بلاد أخرى وأثرت السينما العالمية.
«مدار السرطان» وكل روايات هنري ميللر تقريبا مُنعت في أمريكا فهاجر إلى أوروبا. رواية «عالم رائع جديد» لألدوس هكسلي مُنعت في أيرلندا واستراليا. «لوليتا» لنابوكوف منعت في أكثر من دولة أوروبية وأمريكا نفسها. «آيات شيطانية» لسلمان رشدي ممنوعة حتى الآن في كل الدول العربية والإسلامية، ومن أشهر الممنوعات العربية التي ثارت الضجة حولها رواية «أولاد حارتنا» لنجيب محفوظ و»وليمة لأعشاب البحر» لحيدر حيدر، وكتب فكرية لنوال السعداوي والصادق النيهوم وحسن حنفي ونصر حامد أبوزيد، والأمر مستمر وتلاحظ هنا إنه في كل العصور لا يكون الحاكم قد قرأ أيا من هذه الكتب، لكن هناك من جعلوا أنفسهم مثله أوصياء على الفضيلة، فيصلون إليه أو لمؤسساته بما لا يعلمه، وربما لا يهمه، لكنه حين يصل إليه ذلك يهمه الأمر، فهناك رجل أو امرأة غيره تفكر بينما هو الذي يفكر وهؤلاء الكتاب يمشون في الطرقات بلا حراسة مثله، وينامون سعداء بالعوالم التي أقاموها في الخيال، بينما هو الناجح الوحيد السعيد، وليس حوله إلا من يقول له ذلك وهو يرى من حوله هم كل الناس. الأمر كما هو واضح تجاوز الدول وامتد إلى الجماعات الشمولية التي تضع نفسها وصية على المجتمع، ويكون وراءها دائما فكر ديني أو اجتماعي متخلف. هي جماعات لا تختلف عن شمولية الحاكم الديكتاتوري ويمكن أن تفرح بك حين تعارض مصادرة كتب مفكر إسلامي مثل سيد قطب، رغم أنه من أكبر دعاة التكفير، لكنها وقد فرحت بك يمكن، بل لا بد، أن تفتك بك إذا وجَدَت الفرصة. تماما كالديكتاتورالذي يفتك بمؤيديه في ما بعد. تفكر هل حقا تقدمت المجتمعات بقتل الكتًّاب، أو مصادرة الكتب تكتشف دمار الدول الديكتاتورية، وكل الكتب التي صودرت في الغرب أُفرج عنها أو طبعت في بلاد أخرى وأثرت السينما العالمية. لم نعد نسمع عن ذلك في العالم الآن، كما كنا نسمع من قبل لكن نسمع عنه في عالمنا العربي بشكل كبير، فمصادرة الكتب ومنعها من معارض الكتاب أو المكتبات ـ في عصر الإنترنت – لا يزال عند البعض طريق الحفاظ على الأخلاق الضائعة وعلى القيم، وغير ذلك من أيقونات يُقصد بها الجمود، بينما نرى حولنا حروبا ومجاعات وقتلا غير مبرر من سياسات الحكام ومن معهم أو ضدهم من الجماعات الجهادية كلية التفكير شمولية الرؤية مثلهم. إنهم لا يعلمون أن هؤلاء الكتاب الذين يمشون سعداء في الطرقات وبلا خوف ولا حراسة مثلهم ينامون متألمين من هذا العالم القاتل.
٭ روائي مصري
سيد قطب لم يكفر أحدا بعينه، وإنما وصف المجتمعات التي تقبل الاستبداد، ولا تقاومه وتعيش الظلم والانحراف بالجاهلية، وهو وصف فيه قصور لأن الجاهليةكانت تملك بعض المروءة، أما الآن فهناك من هو تحت الجاهلية والمروءة ذلك الذي يعتقل النساء المسلمات ويغتصبهن في السجون لأنهن ينحزن إلى الحريةوالديمقراطيةوالشرعية.
الجنرال قتل أضعاف من قتلوا على مر التاريخ العربي، بل أحرقهم في الحرس ورابعة والنهضة والفتح وغيرها، وللأسف وجد من بين من يسمون أنفسهم كتابا ومثقفين من يناصره ويؤيده ويؤازره، ويقول له: اقتل يا سيسي، مثلما وجد السيد منشار من يبرر قتل خاشقجي وتقطيعه وإذابته بالأسيد!
أصحاب نظريةالحتمية التاريخية قتلوا الملايين في روسيا، ونفوا الملايين إلى سيبريا، وانشق تروتسكي على رفيقه لأن قتل الملايين لم يكن مرضيا له. ثم سقطت النظرية بعد سبعين عاما. وثبت أن الحكم الراشد الذي يقوم على الشورى وحفظ الدماء هو الأصح والأبقى.. ولكن هل يعي الجنرال في مصر ذلك؟
يقول المثل السوري: أعطي الحمار وردة ليشمها فأكلها
فهل بمقدور زعمائنا الأشاوس أن يشموا عبير الكتب وهن خريجو ثانوية تشحيط. الخفافيش لا تحب النور..
الديكتاتور لا ينهض على قدميه إلا بوجودنخبةمن الكتاب والمثقفين الطبالين والانتهازيين تسوغ جرائمه وتبرر فشله وتبارك قتله لمخالفيهم في الرأي.
السؤال هل هناك أصلا كاتب، ليس ديكتاتور يرفض أن يلتزم بأي حدود لأحلامه، وإلا لن يكون كاتب من الأساس؟!
نقل كاتبو سيرة سيّد قطب عنه عبارات عندما طُلب منه أن يسترحم عبد الناصر بعد صدور حكم الإعدام ، فقال : ” إن أصبع السبابة الذي يشهد لله بالوحدانية ، ليرفض أن يخطَّ حرفا يقر به حكم طاغية “.
وقوله : ” لماذا أسترحم ، إن سُجنت بحق فأنا أرضى حكم الحقّ ، وإن سجنت بباطل فأنا أكبر من أن أسترحم الباطل “.