ونستون تشرشل حارس الإمبراطورية الأخير، وأعظم رؤساء وزارات بريطانيا شهرة، نسبت إليه عبارة تقول إن «الديمقراطية أسوأ نظام عرفته البشرية»، لكنه يلحق العبارة بتحوط يقول فيه «ولكن البشرية لم تعرف نظاما أفضل»، أي أن الديمقراطية مطلوبة ومفيدة، وإن لم تكن كذلك دائما، فنجاحها مرتبط عند تشرشل بنوعية نخبة البرلمان والحكم، التي تنتجها، فقد تفرز الأصلح، وقد تنتهي إلى الأسوأ.
وهذه خبرة خاصة بالزعيم البريطاني البارز، الذي حصل على جائزة نوبل في الأدب، وعاش لأكثر من تسعين عاما، وشهد أيام الامبراطورية البريطانية العسيرة، وقادها إلى نصر أخير ضد نازية هتلر، لكنه سقط في الانتخابات التالية للحرب مباشرة، وإن عاد كبطة عرجاء إلى رئاسة الوزراء أوائل خمسينيات القرن العشرين، وخلفه أنتوني إيدن المهزوم في «حرب السويس»، نقطة النهاية التراجيدية للامبراطورية، ولم يكن لتشرشل بعدها، سوى أن يعتزل حتى مات أواسط الستينيات.
والمعنى الباقي، أن الديمقراطية قد لا تكون نظاما مثاليا، لكن سيرة الدول لم تعرف ما هو أفضل منها إلى اليوم، فقد تكون صفتها التمثيلية إلى تراجع، مع ظواهر متنامية لضعف الإقبال على التصويت الانتخابي، وإلى حد تصير معه الأغلبية الانتخابية غير ذات صفة مؤكدة، فكثيرا ما تكون الأغلبية التي تفرزها الانتخابات، هي الأقلية الشعبية ذاتها عموما، ناهيك من أوضاع البرلمانات المعلقة، التي لا تكون فيها الأغلبية الانتخابية لحزب بذاته، ما يدفع إلى تكرار الجولات الانتخابية، أو إلى تشكيل حكومات ائتلافية متناقضة من داخلها، بما يؤدي إلى نوع من الشلل السياسي، يطول أو يقصر زمنه، أو يقود إلى تفضيل النظام الرئاسي، حيث تكون السلطة مركزة في يد الرئيس لا البرلمان. لكن للديمقراطية عموما، معنى أوسع من متاعب أو مزايا النظم البرلمانية، أو الرئاسية أو المختلطة، وأكبر من مجرد إجراء انتخابات دورية، تكون هي الطريق لتداول السلطة، فالتداول مجرد مشهد ظاهر للديمقراطية، التي تتسع لتتضمن عناصر أخرى جوهرية، أهمها حكم القانون، والتعددية الفكرية والسياسية، وضمانات الفصل بين سلطات التنفيذ والتشريع والقضاء، مع كفالة الحريات والحقوق العامة والخاصة.
ولا نتصور أن الديمقراطية ستكون بمنأى عن مراجعات ما بعد جائحة كورونا، فقد بدت الجائحة كاشفة، وليست منشئة لعوار النظم المسماة بالديمقراطية، التي بدت مضطربة ومذعورة ومتدنية الكفاءة في الحرب ضد الوباء، إذا ما قيست بنجاح مبكر واثق لنظام تسلطي، بلا شبهة كالنظام الصيني، وبلغ العوار ذروته في النظام الأمريكي، الذي يعد نفسه عاصمة الديمقراطية في الدنيا كلها، والدولة الأقوى في موازين الاقتصاد والسلاح، وقد لا تكون المقارنة هنا بين الديمقراطية والتسلطية في ذاتيهما، بل في مدى اقتران الديمقراطية بمعايير الكفاءة والعدالة، فالرئيس الأمريكي ترامب ـ مثلا ـ منتخب بحسب القواعد الديمقراطية الموضوعة، لكن وجوده في البيت الأبيض دليل فاقع على غياب معاني العدالة والكفاءة في التصويت الانتخابي، وقد يعيدنا ذلك إلى تنبيه تشرشل عن نوعية النخبة، كمعيار لجدوى الديمقراطية، أضف إليها ظواهر الانتفاخ في شخصية ترامب، الذي يتحدث من موقع قوة موهومة، والقوة غبية عمياء بطبعها، ولا تلتفت أبدا إلى معاني العدالة، وهنا ينبه تشرشل نفسه إلى أنه «عندما تكون الأمم قوية لا تكون عادلة».
كلام تشرشل هنا منسحب على تاريخ الامبراطورية التي عاش ظلالها الأخيرة. ورجل ارستقراطي مثله قد لا يلتفت إلى معان أخرى للقوة، كقوة الطبقات وطغيانها على المجتمع مثلا، وعلى نحو ما أدت إليه تطورات الرأسمالية المتوحشة، أو الموصوفة تدليلا بلقب «الليبرالية الجديدة»، فقد نشأت الديمقراطية إلى جوار التطور الرأسمالي، وكان «برلمان وستمنستر» البريطاني مطلبا لدافعي الضرائب، وعلى جولات تداعت في توسيع حقوق التصويت، انتهت إلى إتاحتها لعامة الناس، لكن الطبقات الأقوى أوجدت ممثليها، وكلما زاد التركز المالي في يد الطبقات العليا، أفرغت الديمقراطية من معانيها الشعبية الأوسع، وتدنت عناصر الكفاءة والعدالة فيها، وعلى نحو ما حدث مع صعود الرأسمالية المتوحشة، منذ زمن مارغريت ثاتشر في بريطانيا ودونالد ريغان في أمريكا، وتضاعف فوارق عدم المساواة الاقتصادية والاجتماعية، واستيلاء طبقة الواحد في المئة على نصف الثروة العامة، وتحول الحملات الانتخابية إلى صناعة مالية وإعلامية بحتة، وبما كاد يحول الديمقراطية ونظامها إلى هياكل فارغة، تفقد جاذبيتها باطراد، عند عموم المصوتين، وقد لا يصح التعميم هنا، لكن المعادلة تبقى صحيحة عموما، فكلما زاد التوحش الرأسمالي، ضعفت جدوى الديمقراطية، وظلت هناك جوانب عدالة اقتصادية واجتماعية، كما في تجارب الرأسمالية الاجتماعية في ألمانيا مثلا، أو اتصال نسبي لتقاليد «دولة الرفاه»، كما في دول اسكندنافيا في الشمال الأوروبي، كانت النظم في الدول الأخيرة أكثر عدالة وكفاءة، وعلى نحو ما أظهرته سيرة الحرب ضد جائحة كورونا، فلم يأت تفوق هذه الدول نسبيا من فراغ، بل جاء ثمرة المزاوجة في حدود معقولة بين الديمقراطية والعدالة، وهو ما حرمت منه دول أوروبية «ديمقراطية « ضائعة في «البين بين»، كما جرى في إيطاليا وإسبانيا وفرنسا، التي حلت في ترتيب مآسي كورونا وضحاياها بعد أمريكا وبريطانيا مباشرة، وحيث بلغت المأساة أعلى ذراها، وآلت الديمقراطية إلى عملية تمثيل على الناس لا تمثيل للناس.
«ديمقراطية الشارع»، وفوراته الدورية قد تهدد ما هو قائم أو تطيح برؤوس فيه، ولكن بدون مقدرة على بناء نظام ديمقراطي بديل جديد
والمحصلة في ما نرى، أن إصلاح الديمقراطية لا يكون بإنكارها، بل بإدراك العبرة والدرس، والسعي لإغناء الديمقراطية، وربطها بالعروة الوثقى مع أولويات عدالة النظام الاقتصادي والاجتماعي، فقد أثبتت التجارب تلو التجارب في أوروبا وأمريكا، وفي ديمقراطيات آسيا وافريقيا وأمريكا اللاتينية، أن الفصل بين حرية التصويت الانتخابي وحرية رغيف العيش، لا يؤدي أبدا إلى ديمقراطية صحيحة مغرية، تتسع مجالات الاقتناع بها، أو التطلع إليها، فلا يصح فصل الحريات السياسية عن الحريات الاجتماعية، ولا الفصل في الحقوق، فالحقوق الاقتصادية والاجتماعية على القدر ذاته من الأهمية، وربما تزيد، عن أولويات ضمان الحقوق والحريات السياسية، فحق العمل مهم كحق التصويت، وحق السكن مهم كحق إنشاء الأحزاب، وحق العلاج مهم كتشكيل البرلمانات، والحق في الحياة الكريمة يعادل حق اختيار الرئيس، والتهميش الاجتماعي أسوأ من اعتقالات السجون، والتوزيع العادل للثروة، يوازي توزيع السلطة، وإطلاق طاقات المجتمع في الإبداع الإنتاجي هو الضمان الأول لحرية المثقفين وصناع الرأي، والمظالم الطبقية الفادحة تدهس ثمار الديمقراطية السياسية، وعلى موجات تفكير تدافعت، ظل السجال والخصام دائما بين حقوق المجتمع وحقوق السياسة، خصوصا مع العوار الذي جعل الديمقراطية وممارساتها العملية، كأنها شأن خاص بالساسة ومصالحهم وطبقاتهم، وبالأحزاب ومماحكاتها ومناوراتها ومفاسدها، وبتحولها إلى طبقة انتفاع عازلة معزولة، خاصة في المجتمعات الأكثر تخلفا، وهو ما قد يستثير نوعا آخر من الديمقراطية، مدعوما بالثورة الهائلة في التكنولوجيا ووسائط الاتصال، هو ما نسميه «ديمقراطية الشارع»، وفوراته الدورية، التي قد تهدد ما هو قائم، أو تطيح برؤوس فيه، ولكن من دون مقدرة بالضرورة على بناء نظام ديمقراطي بديل جديد، لا يقوم بغير نخبة ديمقراطية اجتماعية جديدة، تدمج الحقوق السياسية مع الحقوق الاقتصادية والاجتماعية في نسق واحد، تتساوى كل عناصره في الأولوية المطلقة، وتنهي الفصام النكد، الذي كرسته الليبرالية المريضة، بجعلها الحقوق السياسية وحدها في مقام الحقوق الطبيعية غير الموقوفة على شرط، بينما الحقوق الاقتصادية والاجتماعية تصفها بالمكتسبة المتمايزة، بحسب وضع كل فرد، فكل الحقوق طبيعية ومكتسبة في آن، وهو ما لا يوفره إلا مجتمع ونظام تكافؤ فرص عادل، هو وحده الذي يستحق صفة الديمقراطية، ومعنى حكم الشعب لنفسه وبنفسه.
وقد تبقى إشارة واجبة إلى مجتمعاتنا العربية المغيبة الغائبة تماما عن معنى الديمقراطية وممارساتها النافعة، والمتطلعة بالأحلام المشروعة إلى تجاوز نكبات القهر والفقر والفساد والاستبداد، والمعانية من غياب أي تمثيل شعبي صحيح عن مصالحها، والغارقة في سجالات الدينية والعلمانية والعسكرية والمدنية، إلى غيرها من معارك «دونكيشوتية» تضل وتضلل عن جواهر الصدام حول الحقوق الوطنية والاجتماعية، وعلى هذه المجتمعات وطلائعها في ما نظن، أن تفتح طريق الأمل ببرنامج تمهيد خماسي النقاط، يتضمن تأكيد الاستقلال الوطني، وأولوية التصنيع الشامل، ورد اعتبار العدالة الاجتماعية، وكنس امبراطوريات الفساد، مع إطلاق الحريات وتبييض السجون السياسية، ومن دون هذه الخطوات جملة وبالتلازم، فلا معنى لحديث عن الديمقراطية من أصله، إلا أن يكون حديثا في مقام الأمنيات المراوغة.
كاتب مصري
مقال هام الأهم منه أن نأخذ ونطبق ونسعى الربع الأخير منه، لأنه هو ما يسعى الربيع العربي أو الثورات العربية التي اندلعت منذ العام 2011 ولازالت تناضل لتحقيق هذا الربع، وستبقى تناضل لذلك حتى النهاية.
دمتم بخير جميعا
ماذا عن ديمقراطية السيسي التي انت بشرت بها وصنعت عشرات المقالات للترحيب بها؟