في كتب التاريخ ومنها تاريخ الديمقراطية، أو المؤسسات، اعتاد المحللون والمؤرخون الحديث عن صلابة الديمقراطية الأمريكية وعراقتها، واعتبارها النموذج المتوخى. وتشير معطيات الواقع إلى صلابة هذه الديمقراطية لكنها تبقى بعيدة عن المثالية، بل تتفوق عليها الأوروبية في حقوق الإنسان، ومنها مواجهة العنف والشطط.
وتعاظم الحديث عن المؤسسات الديمقراطية خلال الأسابيع الأخيرة، في أعقاب الأحداث التي رافقت الانتخابات الرئاسية الأمريكية، وكيف حاول الرئيس الجمهوري السابق دونالد ترامب الحفاظ على الرئاسة، بعد خسارته الانتخابات من خلال توظيف المؤسسات نفسها، ثم اللجوء إلى العنف. ورغب في إعلان المحكمة الفيدرالية العليا عدم شرعية الانتخابات، ثم دفع أنصاره إلى اقتحام مبنى مجلس الشيوخ والنواب يوم 6 يناير/كانون الثاني الجاري، في حادث اعتبره الكثيرون الأخطر منذ الحرب الأهلية.
وبالفعل، نجحت الديمقراطية الأمريكية في مواجهة حازمة ضد تسلط ترامب وجزء من ناخبيه، الذين يحنون إلى الماضي، ماضي سيطرة البيض على الحياة، على حساب الأقليات الأخرى، خاصة الأمريكيين من أصول افريقية، لكن نجاح الديمقراطية الأمريكية لا يخفي الكثير من عيوبها التاريخية، التي تستمر حتى الوقت الراهن وتتطلب إصلاحا. ومن أبرز عيوب هذه الديمقراطية، ما رافق الولايات المتحدة منذ تأسيسها، الانفصال عن بريطانيا وطرد قواتها، ووضع الوثيقة التأسيسية التي هي الدستور سنة 1787، وقد حملت الوثيقة الدستورية اجتهادا، وهو إضفاء الطابع الفيدرالي على الشعوب المكونة للولايات المتحدة، مُرسية مستويين للديمقراطية: الأول وهو الديمقراطية الوطنية على مستوى البلاد برمتها، ويتجلى الثاني في الديمقراطية الإقليمية على مستوى الولايات. وكان النظام الفيدرالي هو الحل الأمثل لها.
الديمقراطية الأمريكية أمامها مسار طويل في إقرار الإنصاف في العلاقات الدولية وفي الاعتراف بالجرائم في حق الأقلية السوداء
وفي المقابل، لم يُقدِم كبار المؤسسين، وعلى رأسهم جورج واشنطن وتوماس جيفرسون على إلغاء العبودية من الولايات المتحدة، ورغم إقرار فرنسا إلغاء العبودية سنة 1794، لم تتأثر الولايات المتحدة، خاصة جيفرسون المتشبع بالثقافة الفرنسية بهذا القرار التاريخي، والعمل على إدماجه في الدستور الأمريكي، رغم ترؤسه البلاد بولايتين. والمثير أخلاقيا هو إقدام الكونغرس الأمريكي وحتى أواسط القرن التاسع عشر على سن سياسة تنظيم العبيد مثل، التجارة وإعادة الهاربين إلى أصحابهم، بدل التفكير في إنهاء هذه الظاهرة. ولعل المفارقة الغربية للديمقراطية الأمريكية، هو اندلاع حرب أهلية في البلاد في ستينيات القرن التاسع عشر، بسبب الاختلاف حول إلغاء العبودية في وقت كانت أوروبا، قد ألغت وبعقود هذه الظاهرة البشعة التي رافقت الإنسانية منذ القدم. ولم يتم التنصيص على إلغاء العبودية في الدستور حتى سنة 1865، وهو ما يعرف بالتعديل الثالث عشر بعد انتهاء الحرب الأهلية. لكن تعديل الدستور الأمريكي لإلغاء العبودية لم يرافقه اعتراف بحقوق السود، فقد منعوا من المشاركة في الحياة السياسية والاجتماعية، وتعرضوا للتنكيل والتهميش، لاسيما في الولايات الجنوبية التي مازالت تشهد ممارسات عنصرية حتى الوقت الراهن. ورغم مرور أكثر من قرن ونصف القرن على تحرر السود، ورغم وصول رئيس من الأقلية السوداء إلى رئاسة البيت الأبيض وهو باراك أوباما ما بين 2008 – 2016، ما زالت مشاركتهم الانتخابية تتعرض للعراقيل في بعض الولايات. وتاريخ الأمريكيين من أصل افريقي للحصول على حق المشاركة في الانتخابات هو تاريخ معاناة إنسانية حقيقية، وتوجد أعمال أدبية وإعلامية وسينمائية، تروي هذه المحنة، وآخرها فيلم «سيلما» للمخرجة آفا دي فرناي سنة 2014.
وتستمر الديمقراطية الأمريكية قاصرة في بعض الجوانب وطنيا ودوليا، وتفتقر في بعض الأحيان للضمير الأخلاقي، ويسعفنا مثالان يستحقان الدراسة والتأمل. في المقام الأول، استمرار عنف الشرطة الأمريكية ضد المواطنين، خاصة السود، حيث لم تنجح المؤسسات الديمقراطية في الحد من هذا العنف المؤسساتي طيلة عقود طويلة، نتيجة سياسة التسامح مع مرتكبي الاعتداءات. وكانت بين جريمة وأخرى تنفجر تظاهرات احتجاجية عنيفة مطالبة بالقصاص، لكن المنعطف وقع خلال مايو/أيار الماضي عندما لقي المواطن جورج فلويد حتفه على أيدي الشرطة في مدينة مينيابوليس في ولاية مينيسوتا. انفجرت الأقلية السوداء ومعها الذين يعتنقون مبادئ حقوق الإنسان، لتشهد البلاد أكبر مراجعة للقوانين والممارسات التي تمس هذه الأقلية، وجرى إرساء قانون وأعراف عدم التسامح مع جرائم الشرطة. أما المقام الثاني فهو المفارقة والتناقض الذي يحمله الخطاب الديمقراطي الأمريكي في العلاقات الدولية. في هذا الصدد، هبّت الولايات المتحدة إلى الدفاع عن أوروبا النازية والفاشية في الحرب العالمية الثانية، كما شكلت درعا في مواجهة التوسع الشيوعي بعد الحرب العالمية الثانية، وما ترتب على ذلك من حرب باردة. وتستحضر حقوق الإنسان وشفافية الانتخابات في خطابها، لكنها لا تتردد في دعم الديمقراطية، كما حدث في حالات عديدة مثل تشيلي سنة 1973 وعدد من دول أمريكا، بدعم الأنظمة العسكرية، ثم هذا التورط التاريخي في دعم إسرائيل على حساب حقوق الفلسطينيين.ومع ذلك يحسب للديمقراطية الأمريكية عدم تورطها في الاستعمار على شاكلة أوروبا ابتداء من القرن التاسع عشر.
ويتضح من أي مقارنة بين الديمقراطية الأوروبية والأمريكية في الوقت الراهن تفوق الأولى على الثانية بسبب غياب العنف المجتمعي، رغم بعض مظاهر العنصرية ضد المهاجرين، وتصور حقوقي متقدم في ما يخص قضايا مثل فلسطين. نعم، الديمقراطية الأمريكية متطورة وصلبة ولكنها ليست مثالية، أمامها مسار طويل في إقرار الإنصاف في العلاقات الدولية وفي الاعتراف بالجرائم في حق الأقلية السوداء.
كاتب مغربي من أسرة «القدس العربي»