في جلسة واحدة، يُقرأ كتاب رفيق بوخريص «الديانات والدماغ» (منشورات المجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون: بيت الحكمة ـ تونس 2017) سواء في أصله الفرنسي، وهذا أجدى في تقديري؛ لدقة المصطلحات العلمية التي نستطيع، كلما راودتنا من أمرها حيرة غير يسرة؛ أن نظفر بمعناها في المعاجم الفرنسية، أو في ترجمته العربية وقد بذل فيها أحمد ذياب جهدا محمودا؛ وإن كانت لي عليها مآخذ قليلة، من حيث التركيب النحوي خاصة، وقد تمنيت لو أن المترجم شفعها بشرح وافٍ للمصطلحات التي يمكن أن تند عن القارئ العادي، الذي لم يعتدْ مثل هذا الطرح العلمي الجاد في مسألة مثل الدين وهو يُحمل عادة على خطاب الوجدان أو الانفعال أو لغة الحدس والذوق.
يقع الكتاب في أقل من مئة صفحة في نسخته الفرنسية، ومثلها في العربية. وقد صاغه صاحبه بلغة علمية مفهومية (من المفهوم) صارمة، ولكنه يطعمها بين الفينة والأخرى بشذرات ولطائف من الأدب والفلسفة؛ من نيتشه وأبقراط وعمر الخيام وبوذا وسير وليام أوسلر وريك جرفاس وإنشتاين، ومن آداب مصر والهلال الخصيب وألواح أوغاريت وبلاد الرافدين قديما؛ وأسوق بعضها لاحقا، بترجمتي عن الفرنسية. وهو يتوزع على فقرات تتفاوت طولا وقصرا، وليس على أقسام وفصول؛ لأنه في الأصل محاضرة ألقاها علينا الأستاذ رفيق، في رحاب المجمع، وليس كتابا إلا في صيغته المنشورة. أما السؤال المحوري وهو لب هذا العمل الرائق، فهو الذي يُفتتح به: «هل الدين من العلم؟ قطعا لا. هل بميسور العلم أن يفسر لنا الدين؟ قطعا لا؛ أو على الأرجح لم يحن أوان ذلك بعد، بكل تأكيد. أيكمن الدين خارج الدماغ البشري؟ أهو من صنعه؟ السؤال لا يزال مطروحا، ولا جواب موضوعي له بعد».
وربما لا مسوغ لهذا الطرح الجاد، سوى ما يقوله نيتشه وقد استأنس به المحاضر، من «أن البشر فريقان: الذين يريدون أن يفهموا، والذين يريدون أن يؤمنوا». ومن الواضح هنا أن الثنائية هي ثنائية الفهم والإيمان، وليس ثنائية الإيمان والكفر التي يأخذ بها المؤمن عادة. والأولى هي من إملاءات الدماغ، والأرجح أنها بطرفيها، مَصوغة في جينات الفرد. وهذه الجينات هي التي تتدخل مباشرة في تشكيل الخلايا العصبية، وتنظيمها في شبكات وناقلات ومشابك. ولذا يقرر المحاضر ـ وهو رجل علم ـ باطمئنان كبير أن مكمن الدين هو الدماغ البشري. ومن ثمة فإن مراجعة الكيفية التي تكون بها هذا الدماغ، والطريقة التي يشتغل بها؛ أمر لا غنى عنه. وخير دليل لذلك أننا نقرأ ونفهم، بما في ذلك هذه الأسطر التي أخطها أنا هنا في القيروان؛ بفضل الشحنات الكهربائية التي تجري بأقصى سرعة، وهي تصلُ شبكات عديدة من الخلايا والمشابك العصبية؛ فـ»في دماغنا، فيه هو لا غير؛ تنشأ ملذاتنا ومباهجنا وضحكاتنا، وألاعيبنا؛ مثلما تنشأ أتراحنا ومكابداتنا وأحزاننا وعبراتنا» كما يقول أبوقراط. ودماغنا الحالي «تتويج» لمراحل طويلة جدا، معقدة جدا، من تطور الكائن الحي؛ إذ اقتضت نشأة الحياة ثلاثة مليارات من السنين أو ما يقاربها، شكلت فيها الخلايا الأولى، فالكائنات متعددة الخلايا فأعصابها الأولى فعضلاتها. وقد وضعت كلمة تتويج بين مزدوجتين، إذ لا يوجد أي مسوغ للقول بأن هذا المنحى التطوري قد اكتمل أو هو بلغ أوجَه. وثمة اليوم ما يؤكد أن هناك طفراتٍ أخرى، وتغييراتٍ أخرى، وأنواعًا أخرى من الأدمغة ستتشكل وتدفع نحو «إنسان أفضل». يقول نيتشه: «الإنسان حلقة وصل بين الحيوان والإنسان الأسمى: جسر فوق الهاوية»، ويقول جاك مونود: «يدرك الإنسان أخيرا أنه وحيد في الامتداد اللامبالي للكون، حيث هو انبثق مصادفة. ولا قدره ولا واجبه محفوظ في أي لوح. وله وحده أن يختار بين مملكة (النور) والظلمات». ويعزز كارل ساغان وهو عالم قدير، هذا الطرح: «نحن البشر محصلة أربعة مليارات ونصف المليار من السنين، من التطور البيولوجي غير المتوقع والبطيء. وليس ثمة سبب معقول للقول بأن هذه المجرى التطوري قد توقف. فالإنسان حيوان انتقالي وليس ذروة ما انتهى إليه التطور»، ودماغنا جهاز استثنائي فريد من نوعه، وهو في نشاط دائب لا يكل ليلَ نهارَ، منذ ولادتنا ونحن أشبه بلحمة تندلق إلى الأرض، حتى موتنا. وهو في الأصل ثلاثة أدمغة: «الزواحفي» وهو الأقدم وقد ظهر منذ 500 مليون سنة، ومصدره دماغ الأسماك الأولى البدائي جدا. وهو كامن عند البشر في الجزء العلوي من النخاع الشوكي، ووظيفته الحيوية تتمثل في التحكم في التوازن، وتنسيق حركات العين والتنفس ودقات القلب، وما إليها مما يشدنا إلى الحياة.
لقد ولد الإنسان بذاكرة قوية في مستوى «اللوزة» التي رسخت فينا حالة من الذعر أو الرعب من كل ما أفزع أسلافنا الأقدم، وخاصة الثدييات؛ فنحن نرتجف لمرأى ثعبان لابد يرمقنا، أو هو يزحف.
وثانيها الدماغ «الحوفي» (ترجمة لكلمة لمبوس اللاتينية) أو دماغ العواطف. وهو الذي نقل الحيوانات من هيمنة السلوك الثابت «المقولب» إلى عالم رد الفعل الحي في علاقته بالبيئة المحيطة. فالثالث وهو هذا الدماغ البشري العجيب، عندما بدأ التغير الخطير قبل نحو أربعة ملايين سنة، عندما تخلى البشر عن حياة الغابة، وهبطوا إلى السهول، واكتسبوا وضع الانتصاب وقوفا. ثم جاء تطور اللغة، ومع اكتسابها بدأ تاريخ الإنسان؛ فتحررت اليد، وانبثقت لغة الإشارات فاللغة الشفوية. ومع أن جميع الكائنات تتفوق على الإنسان في أعضائه مثل البصر والسمع والتنفس وقوة العضلات والتحمل والسرعة… فإن دماغه هذه الغابة المجهولة، هو الجهاز الوحيد الذي يتفوق به عليها كلها حتى الآن. والسؤال: أين مكمن الدين في هذا الدماغ؟ أهو في ما يسمى «الذاكرة اللوزية» أم في الخوف من المعاناة ومن الموت؟
لقد ولد الإنسان بذاكرة قوية في مستوى «اللوزة» التي رسخت فينا حالة من الذعر أو الرعب من كل ما أفزع أسلافنا الأقدم، وخاصة الثدييات؛ فنحن نرتجف لمرأى ثعبان لابد يرمقنا، أو هو يزحف. وبعض الناس يعانون من رهاب العناكب، أو الخوف من الأماكن العالية، أو من أن يكون رأسه تحت الماء. فضلا عن الخوف الأبدي أي الخوف من الموت، وإن كان من حسن حظ الإنسان أنه يخفي غالبا هذا اليقين الرهيب في منطقة اللاوعي، حيث يبذل دماغنا كل ما في وسعه من أجل أن ننسى الموت الذي يترصدنا في كل مسالك العيش. ولولا ذلك لاستحالت الحياة. تقول الشاعرة الأمريكية دنيس ليفرتوف وهي تستلهم سفر الجامعة: «استعد للعالم كأنك تموت غدا/ هكذا يقول سفر البهجة/ إستعد للعالم كأنك تعيش أبدا». وتتمثل مهمة الدماغ الثالث أو دماغ التفكير، ودماغنا الحوفي في العمل الدؤوب لاستنباط الإجابات المناسبة للمشاكل التي تواجهنا، غير أن الإنسان يدرك أن لا مفر من الموت، أو كما يقول كلكامش: «أبدا لن تجد الخلود الذي تنشده/ فقد استأثرت به الآلهة لنفسها». وإدراك هذه الحتمية هو الذي يحفز دماغنا «الحوفي» العاطفي إلى إيجاد الجواب الشافي الذي يكون بصلابة يقيننا بالموت. وهو ما يفسر كيف يجد دماغنا الثاني المخصوص بالعواطف، في الدين أفضل رد على الخوف البشري؛ إذ هو بكل بساطة «يؤمن» لنا الحياة بعد الموت. يقول الكاتب إن صدمة حقيقة الموت أو حتميته هي التي حفزت وتحفز الجينات المسؤولة عن الشبكات العصبية، لهذه المهمة؛ حتى أن هناك من العلماء من يقول بـ«جين الروحانيات» وهو الذي يهيئ الناس للدين. وهذا ما يجعل كثيرا من البشر يولدون «مكبلين سلفا» بقوة هذه الشبكة التي تقود إلى الأديان. فثمة متلازمات من الخوف والصراع والهروب وما بعد الصدمة أو «الخوف المشروط»، وهي تتضافر كلها في ضمان بقاء النوع والحيطة من كل خطر يتهدد الحياة، بل العدوانية عند البعض. والشعور الديني إنما هو محصلة هيمنة «شعور باطني فريد من نوعه، ووعي مباشر بحضور المقدس أو الإلهي»، والحق أن منشأه لا يزال محفوفا بغموض غير يسير، خاصة أنه غائب عند كثير أو قليل.
وقد اقتُرحتْ كثير من الفرضيات لشرح «العاطفة الدينية» و«مشاعر السعادة» التي تغمر كثيرا من المتدينين، مثلما اقترحتْ فرضيات لتفسير هلوسة الذين يفرطون في التدين أو مرضى الصرع والمنفصمين. على أن نشوة المتصوفة تختلف إذ تنهض فيها «شبكة المكافأة» بدور أهم، ويقول بعضهم إنهم يفقدون إحساسهم بذواتهم وبوجودهم من حيث هم أفراد.
ويبقى السؤال قائما: هل دماغنا نهاية مجيدة لهذا التطور البيولوجي الطويل، أم هو هدية من قوة ميتافيزيقية بالمعنى الحصري للكلمة؟ وهو السؤال الذي يطرحه البشر باستمرار، على أن «المعتقدات لا تغير الوقائع، وإنما الوقائع؛ إذا كان المرء منطقيا، هي التي تغير المعتقدات».
كما يقول ريك جرفاس. «وكلما استفحلت الجهالة، تفاقم أمر الدغمائية» بتعبير سير وليام أوسلر. وأما الخيام فجوابه: «واأسفا، هل سأجد طويلا مرة أخرى، لردم المحيط بالحجارة؟ أنا الذي لا يملك للتقاة والفجرة، سوى الازدراء».
٭ كاتب من تونس