«الديوان الاسبرطي» للجزائري عبد الوهاب عيساوي… نص سرديّ يحاكي ملحمة تاريخية

مولود مسعودان الجزائري
حجم الخط
0

■ «أعتقد أنّ الرّواية تمثل الآن تعويضا للتاريخ، إنّها تقول ما يمتنع التّاريخ عن قوله…. فالرواية تقول ما يحجبه التّاريخ». (كارلوس فوينتيس).
تعد رواية «الديوان الإسبرطي» للجزائري عبد الوهاب عيساوي ــ صادرة عن دار ميم للنشر. الجزائر ــ نصاً سردياً بُني بطريقة بانورامية، متعددة الأبعاد وزوايا القراءة والفهم، ومن ثمّة الاستقراء لما لم يتغيّـر حتى الآن في واقع الشعوب المغلوبة على أمرها، التّي فُرض عليها أن تتنفس حريّة مشروطة، تحت ظل الحصار والتبعية والجهل. تتناول الرواية الحقبة الزمنية الممتّدة مابين (1815 إلى 1833) منذ هزيمة نابليون أمام الإنجليز في معركة واترلو، وحتى قدوم اللجنة الإفريقية. رواية تاريخية لكن بأوجه متعددة، خماسية الفصول وخماسية الرّواة. وإذا كان التاريخ يكتبه المنتصرون مثلما صرّح تشرشل فإنّ الجانب المسكوت عنه، وغير المرئي للعيان يُنّـقب عليه كاتب المتن الروائي التاريخي بصبر وتدقيق كبير.

تاريخ مغاير

يُؤرخ النصّ لجملة من الاعترافات والشهادات، على شاكلة كتابة المذكرات الشخصية أو اليوميات، استطاع الكاتب أن يغوص في ذوات الشخصيات المختلفة المنتقاة، مستنطقا ما علِق في ذاكرتهم، كاشفا صنوف القهر والنيل من الكرامة الإنسانية، إذ كيف بصاحب الأرض أن تُـسلب منه إرادته وتُختطف منه حرّيته، ويحيا عيشة الرّق والعبودية تحت طائل الاستبداد.
ظهرت شخصيات النص (ديبون، كافيار، ابن ميّار، حمّة السّلاوي، دوجة) بتوازن واعتدال، حيث وقف الكاتب على مسافة كبيرة من التاريخ وطوّعه كخلفية ودعامة حقيقية، وحفـر أينما وجب الحفر، لإحياء شخوص من جديد كـشواهد عيان على حقب ممزقة، لم نسمع عنها إلاّ ما أُريد لنا سماعه، وهكذا عمل الكاتب على تحريك التاريخ الساكن والراكن إلى الصنمية وتقديس الرموز وتأليهها، بينما تغافل الكثير من المؤرخين عن الضعفاء والمضطهدين، واكتفوا بمشهدية إبراز المعارك والحروب والمفاوضات واللقاءات.
حاول الروائي أن يسلّط الضوء على ظروف الحملة العسكرية التي شنتها فرنسا على المحروسة (إسبرطة) في ظل الوجود العثماني (الرجل المريض) تحت حكم الداي حسين، ربما ليقدّم رسالة قوية ودون تبرير منه إلى جمهور المتلقين بأنّ حادثة المروحة ما هي إلا فصل أو مشهد مسرحيّ دراميّ، أرادوا من خلاله تسويق صورة مفبركة بأنّها كانت السبب الرئيس لاحتلال الجزائر، في حين كانت هناك ظروف أخرى تصوّر تكالبا وتآمرا مدروسين بين عدة أطراف اجتمعت على العبث بالجزائر على حساب أهلها، الذين لم يستوعبوا الدروس على مرّ الغزاة. ونستعير من السّلاوي بـوْحَه أثناء مطارداته من طرف اليولداش قوله .. «أهل المحروسة خانعون ومنذ سنوات كانوا يطأطئون رؤوسهم ويتجنبون الأتراك في الشوارع . المدينة تجعل الناس أكثر جبنا وتقبلا للغزاة».

ديبون

صحافي فرنسي بجريدةsémaphore بمرسيليا، فضح جريمة السلطة الفرنسية حين سمحت بسرقة عظام موتى الجزائريين لتبييض السكر في مصانع مرسيليا. هذا المثقف الذي تشبّع بمبادئ المسيحية مثّـل صوت الضمير الحيّ في النّص، ومع أنه كُلّف بتغطية الحملة العسكرية، لكنه لم يكن موافقا على بعض خلفياتها: «يرون الحملة مصدرا للمال، وأراها نقطة تحوّل بين عصرين، نحن نحمل ميثاق الحرّية والنور لهؤلاء العرب ضد مضطهديهم العثمانيين».
يعبّر ديبون عن صوت الحكمة مختزلا فئة من المثقفين الفرنسيين الذّين كانوا ضد شنّ هذه الحملة. كان الضمير الذّي يخافه كافيار ولكنّه لا يقـرّ بذلك، نسج علاقة صداقة مع ابن ميّار (التاجر والسياسي) وناصره لاسترداد أملاكه، ربما هذا الطرح يشبه ما يرمي إليه الكاتب ياسمينة خضرا وفرانز فانون وغيرهم ممن تكلّم عنهم إدوارد سعيد في كتاب الإستشراق.

كافيار

هذا المهندس والجنديّ الفرنسي الذي حارب في جيش نابليون وأُســر من قبل القراصنة العثمانيين ثم حررّه الانجليز، ليعود إلى إسبرطة غازيا، حاقدا، منتقما، مُحددا أهدافه، وحاملا معرفة عن كل شيء في الجزائر، المواقع، الأعراق، الإثنيات والخرائط الجغرافية للمحروسة وضواحيها، تتلخص رؤيته في خطابه للمحروسة: «كنت فيكِ أسيرا وعدتُ إليك غازيا».
تجلّى كافيار في غطرسة المستعمر ووحشيته، كان هدفه المال والاستيلاء على كنوز المحروسة التي جمعها العثمانيون. وكان يرى أنه يجب إعادة بناء إسبرطة بطريقته بعدما خيّم عليها الجهل والتخلف. واستعمل الكاتب رواية داخل الرواية تجلّت في قراءة كافيار مذكراته التي عنونها بالديوان الإسبرطي.

تختم دوجة بوحها في نهاية الحكاية «ولم يكن الرحيل عن المحروسة بالنسبة لمحبيها إلاّ وجها آخر للموت بينما لم يكن بالنسبة لي إلاّ دربا أخيرا لإدراك بهجة الحياة».

ابن ميّار

مثّل ابن ميّار فئة الأهالي والتّجار، تمتّع بحظوة ومكانة مرموقة لدى العثمانيين، بعد الاستعمار سُلبت منه أملاكه وضيعته، مع أنه كان عضوا في بلدية المحروسة التي أسستها السلطة الفرنسية. تقمّص دور السياسي الذكيّ الذي يكتب العرائض والشكاوي، ويسافر لباريس بغرض إيداعها حاكم فرنسا أو وزير الحربية، ولكن دون جدوى، يستسلم أمام اللجنة الإفريقية التي جاءت للتحقيق صوريا في أوضاع الجزائر. ولم يلبث أن نفي بعدها إلى إسطنبول رفقة زوجته.
ابن ميار مثال لصوت الأنديجان، يحاول استرجاع أملاكه ومكانته الاجتماعية، دون ثورة أو تمرد بل بالبحث عن سبل للعيش بسلام، أمّا تعاطفه مع المقهورين والتعساء فكانت تمليه عليه حسن الجيرة وإنسانيته، وصوفيته العميقة التي ظهرت في تعلّقه بمسجد وضريح عبد الرحمان الثعالبي، والطائر الأبيض الذي يحوم حوله وكأنّه يمنح بذلك لخطابه الداخلي إجابات وقراءات لما تحمله إليه الأقدار.

حمّة السّلاوي

الصوت الحرّ الذي يختزل الدم الحار، استطاع المؤلف أن يستميل عاطفة القارئ قبل عقله للتعلّق بهذه الشخصية العنفوانية رغم محدودية ثقافتها ومركزها الاجتماعي، شخصية تخرج من رحم العذاب والمعاناة، زرع فيها الكاتب روح الثائر الشبيه بغيفارا، الرافض للإذلال والقهر، مثلّه بالمبدع الفنان المسرحي الذي يستنطق عرائسه (دماه) أمام الجمهور بسخرية تحمل نبرة الحسرة والعذاب، كأنّه يتكلّم عن ذلك بلسان جميع الجزائريين المقهورين، مثلما أبرزه بصورة العاشق والمحبّ لدوجة الشبيه بزوربا اليوناني. عانى السلاوي الويلات من سياسة الطغيان وخلّص دوجة من شرّ المزوار (مسيّر المبغى) بتصفيته له، تلك رسالة مبطنة لرمزية دوجة، الفتاة التي وجدت نفسها في أزقة المحروسة وحيدة وشريدة، فكانت بسالة ومروءة السّلاوي رّدا صارخا على استباحة العرض والأرض والشرف. السّلاوي نموذج محوريّ في القصّة وهو امتداد لروح النخوة، مصيره يشبه شخصيته إذ يلتحق بثورة الأميرعبد القادر.

دوجة

الصوت الأنثوي، الذي ربما يختلف الكثير في رمزيتها التي شكلّها الروائي، ولماذا جعله صوتا وحيدا فريدا وإن كانت لها صور متعددة للمرأة الريفية، الفقيرة، المقهورة، التي تقاذفتها الظروف إثر عنجهية الإقطاعي الفرنسي بعد وفاة والدها بستاني القنصل، والذي مات قهرا وحسرة. أظهر لها قرينات للصوت الأنثوي لالة سعدية، لالة مريم، زهرة اليهودية، لكن هذه الأصوات لم تستوفِ حقها في هذا العمل الضخم الشبيه بالملحمة، إضافة إلى اختفاء عنصر الطفولة التي تحمل الحاضر والمستقبل والأمل على وجه محدد.
تختم دوجة بوحها في نهاية الحكاية «ولم يكن الرحيل عن المحروسة بالنسبة لمحبيها إلاّ وجها آخر للموت بينما لم يكن بالنسبة لي إلاّ دربا أخيرا لإدراك بهجة الحياة». هذه الصورة القاتمة والسوداوية التي اختتم بها الكاتب إذا ما صحت رمزية دوجة للجزائر والتي أنبأت على شناعة ووحشية المستعمر الفرنسي الذي أنهى في البلد كلّ أوجه مباهج الحياة .
وفي الأخير نرى أنّ عبد الوهاب عيساوي استطاع أن يضعنا أمام نـصّ مزدحم بالمفاهيم والإسقاطات، من خلال الاشتغال على الفضاء الفنّي والتخييلي. وقد صُنِّف الرواية ضمن القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية لهذا العام.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية